__________________________المقدمة
تتمتع العربية السعودية في العالم
المعاصر بنفوذ أكبر بكثير مما يفترضه عدد سكانها الأصليين، وهو حوالي 12 مليون
نسمة في أواسط التسعينات.
فهي تمتلك حوالي ثلث موارد النفط
المكتشفة خارج إطار روسيا واسيا الوسطى والصين.وقد غدت أكبر منتج للنفط وأول مصدر
له . وعندما وجدت الطبقة الحاكمة السعودية نفسها عاجزة عن استثمار العائدات
الخيالية من هذه المادة الخام في داخل البلاد صارت من أكبر مصدري الرأسمال
أيضا.وتفوق الملوك والأمراء من آل سعود على أغنى طواغيت المال في الولايات المتحدة
واليابان وأوروبا من حيث الأحجام المطلقة لثروتهم. إن القرارات التي تتخذ في
الرياض بالرغم من أنها ليست مستقلة دوما وغالبا ما تكون اضطرارية ومفروضة من القوى
الخارجية، إنما تؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على ميزان المدفوعات في الولايات
المتحدة الاميركية والكثير من الدول الأخرى وعلى وتائر تطورها الاقتصادي ومستوى
التضخم النقدي ومستقبل الدولار، وعلى، سير النزاع العربي الإسرائيلي ونتائجه وعلى
استقرار بعض أنظمة الحكم في البلدان النامية.
وكان السبب في أكبر صدام مسلح بعد
انتهاء "الحرب الباردة"، ونعني به حرب الخليج، لا يقتصر على غزو العراق
للكويت، بل ينطوي على خطر احتلال العربية السعودية وتجزئتها.
ويضاف إلى العوامل الاقتصادية والمالية
الفريدة دور العربية السعودية بوصفها مهد الإسلام.ففي أراضيها الحرمان الشريفان
الرئيسان في الإسلام _ مكة المكرمة وفيها الكعبة التي يتجه المسلمون نحوها أثناء
أداء فريضة الصلاة
ويتوجهون أليها لاداء فريضة الحج،
والمدينة المنورة وفيها قبر الرسول.إن تصاعد الصراع بين الحضارة الغربية المسيحية
والحضارة الإسلامية وتعمق الصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي يضفيان صبغة دينية
على الكثير من النزاعات السياسية والاجتماعية الجارية فيه وكذلك على الحزازات
والعنعنات القومية والخلافات الدولية.ولذا تزداد في العالم الإسلامي أهمية العربية
السعودية _ سادن الحرمين الشريفين.
لقد تعرضت البنية الاجتماعية
والاقتصادية في العربية السعودية لتغيرات سريعة في غضون حياة جيل أو جيلين.فقد
التصق الاقتصاد الرأسمالي السوقي الدخيل بالمجتمع العشائري الإقطاعي التقليدي الذي
لم يكن متهيئا للتحويلات ولم تكن
لديه لا الكوادر ولا المؤسسات الحكومية
والاجتماعية ولا النظام الحقوقي المناسب لهذا الغرض. وبدا في العربية السعودية،
التي يحكمها واحد من اعتق الأنظمة في المعمورة، انفصام ممض في الاقتصاد والعلاقات
الاجتماعية والقانون والسيكولوجيا الاجتماعية، فثمة مجتمع جديد ناشئ يعجز التصنيف
المعتاد عن وضعه في الخانة التي تناسبه.
وبديهي إن تقترن زيادة الاهتمام بهذا
البلد بزيادة المطبوعات المكرسة له.
فخلال الأعوام العشرين الأخيرة ظهرت
في روسيا ( والاتحاد السوفييتي سابقا ) كتابات كثيرة عن العربية السعودية في
مؤلفات مستقلة وفي الصحف والمجلات، وهي مذكورة بالتفصيل في الطبعة الأولى من
كتابنا "بيبليوغرافيا العربية السعودية" وفي طبعته الثانية التي ستصدر
قريبا. ولكن منذ صدور الطبعة الأولى "لتاريخ العربية السعودية" لم تظهر
مؤلفات جديدة في تاريخ المملكة، شان كتابنا هذا، تطور البلد الاقتصادي والاجتماعي
والسياسي منذ تأسيسه في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي حتى تسعينات القرن
العشرين.
والطبعة الحالية مزيدة ومنقحة
وتتناول الأحداث حتى بداية التسعينات حيث عاد الاستقرار إلى المملكة بعد هزات حرب
الخليج. ولعل مرحلة التسعينات تشكل ميدانا
للبحث أمام الاقتصاديين وعلماء الاجتماع والساسة والصحفيين أوسع منه أمام
المؤرخين، وذلك لان أحداث الأعوام الأخيرة لم تترسب وتتبلور بالقدر الكافي لبحث
تاريخي صرف.
لقد اعتمدنا في أعداد هذا الكتاب على
عدة مجموعات من المصادر. وفي مقدمتها مصنفات تاريخية عربية وضعها مؤلفون من أنصار
آل سعود والوهابية وكذلك مؤلفون معادون لهم ومراقبون محايدون. ونستدرك هنا فنقول
أننا استخدمنا مصطلح "الوهابية" كما جرت العادة في الدراسات الغربية
للدلالة على الحركة الدينية السياسية التي نشأت بالجزيرة العربية في القرن الثامن
عشر، علما بان المصطلح المذكور لم يلق انتشارا في العربية السعودية نفسها.
ثم تأتى مؤلفات أبن عبد الوهاب
وأتباعه وابرز فقهاء الجزيرة العربية. وتتكون المجموعة التالية من المصادر من
مذكرات الرحالة الأوروبيين والدبلوماسيين والعلماء ورجال المخابرات الذين زاروا
الجزيرة العربية والأقطار المجاورة لها في القرن الثامن عشر حتى القرن العشرين.
وتلقي وثائق الإدارة البريطانية _ الهندية الأضواء على بعض قضايا القرن التاسع عشر
وبداية القرن العشرين. وتتضمن المطبوعات السعودية الرسمية معلومات عن الاقتصاد
والعلاقات الاجتماعية والنظام الحقوقي في البلاد. ويمكن اعتبار بعض المطبوعات
الاميركية التي تحوي معطيات اجتماعية عن العربية السعودية في عداد المراجع. كما
اعتمدنا على الوثائق التي تحتوي على معلومات عن العربية السعودية والمحفوظة في
أرشيف السياسة الخارجية لروسيا وأرشيف السياسة الخارجية للاتحاد السوفييتي السابق.
المصنفات
العربية. لا يوجد بين المصنفات المعروفة لدينا إلا
كتاب واحد ألفه شخص تابع تطور الحركة الوهابية ودولة السعوديين منذ السنوات الأولى
لنشوئهما. ونعني كتاب "تاريخ نجد المسمى روضة الأفكار والإفهام مرتاد حال
الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام لمؤلفه حسين بن غنام. وهو فقيه من الأحساء توفي
عام 1811. في الجزء الأول يستعرض أبن غنام بعض مؤلفات محمد بن عبد الوهاب. وفي
الجزء الثاني يسرد تاريخ حروب الوهابيين خلال نصف قرن، من عام 1746 حتى عام 1796
كان أبن غنام من أنصار تعاليم أبن
عبد الوهاب. وهو يعتقد إن الله الهم الوهابيين للقيام بأعمالهم، وان الشيطان كان
وراء خصومهم. ويضطر المرء إلى جمع المعلومات عن البنية الاجتماعية والسياسية
للدولة السعودية الأولى حبة حبة. ومع ذلك فان مصنف أبن غنام يعتبر مرجعا فائق الأهمية. فالمادة التي
يحتويها هي حصيلة متابعة شخصية للمؤلف أو مستقاة من منابعها الأولى.
والمصنف الثاني هو "عنوان المجد
في تاريخ نجد" من تأليف المؤرخ عثمان بن بشر النجدي الحنبلي، وهو من فقهاء
واحة شقراء في منطقة الوشم والمعروفين في الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر.
لقد عايش الكثير من أحداث الجزيرة بعد الفترة التي توقف عندها مصنف أبن غنام. وقد
توفي أبن بشر في 1871_1872.
كان أبن بشر متمسكا هو الأخر
بالوهابية، لكنه تميز عن سابقه بسعة آرائه. فقد ادرج أبن بشر في مصنفه وقائع قيمة
عن بنية الدولة السعودية الأولى وعن الحياة الاجتماعية الجزيرة العربية. والتاريخ
الذي يستعرضه ابتداء من عام 1745 يقترن بجولات إلى فترات تاريخية اقدم ويختتم أبن
بشر مؤلفه بوصف أحداث عام 1854.
وتتوافق التواريخ التي يوردها أبن
بشر في أمور كثيرة مع تواريخ أبن غنام.
ويسجل أبن بشر النص الكامل لقصيدة
سلفه بمناسبة وفاة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والتي وردت في "تاريخ نجد".
إلا انهما يقدمان في بعض الأحيان وصفا متباينا لوقائع بعينها، ويركزان على أحداث
مختلفة فلا تتوافق تواريخها وأرقامها على الدوام.وربما لم يكن أبن بشر مطلعا على
مؤلف أبن غنام. وعلى آي حال فهو لا يذكر في المقدمة اسمه بين المؤرخين الذين
يعرفهم. وعندما يورد خبر وفاة أبن غنام يعدد مزاياه كفقيه وشاعر، دون إن يذكر كلمة
واحدة عن مؤلفاته التاريخية.
ويمكن تدقيق صحة معلومات أبن غنام
وأبن بشر بمقارنتها مع الوقائع التي أوردها الأوروبيون. ولم تطلع المؤرخون العرب
والأوروبيون على هذين المصنفين إلا في القرن العشرين.
ومما يثير الاستغراب إن المستشرقين
الذين كتبوا عن جزيرة العرب لم يلتفتوا إلى وقائع تاريخ الدولة السعودية التي
أوردها المؤرخ الفرنسي ف.منجين في ملحق كتابه "تاريخ مصر في عهد محمد
علي". وكان منجين قد وضع تلك الوقائع استنادا إلى معلومات حصل عليها من حفيد
أبن عبد الوهاب، الذي نفي إلى مصر بعد خراب الدرعية عام 1818، وعلى ما يبدو، من
وهابيين أخريين.
ويتضمن مؤلف ف.منجين "تاريخ مصر" معلومات قيمة عن مجتمع
الجزيرة، وهي معلومات مستقاة من تقارير الإدارة المصرية في نجد في العقد الثاني من
القرن التاسع عشر.
وخلال السنوات الأخيرة لفت انتباه
المستشرقين وبعض المؤرخين العرب كتاب "لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد
الوهاب" ومخطوطته الأصلية محفوظة في المتحف البريطاني. وتعتبر أغلبية
الباحثين إن هذا الكتاب مغفلا. وهو عبارة عن سجل في 764 صفحة يشمل فترة من تاريخ
الجزيرة العربية تبدأ على وجه التقريب من العقد الرابع للقرن الثامن عشر وتنقطع
فجأة عند أحداث كانون الأول ( ديسمبر )1817. ويعبر واضع السجل عن احترامه لابن عبد
الوهاب، ولكنه يعتبر مذهبه بدعة، وقد استند في ذلك إلى رأي شيوخ من البصرة
والزبير.
يتكون "لمع الشهاب" من
رؤوس أقلام ولمحات كتبت استنادا إلى روايات أشخاص شاركوا في الأحداث وإلى إشاعات
وخرافات، ولكن ذلك لا يحرم هذا المصنف من جملة مزايا لا جدال فيها، وهي مزايا
تجعله يحتل مرتبته بين المصادر العربية الثلاثة لتلك الحقبة، ونعني كتابي أبن غنام
وأبن بشر وعرض منجين لسجل الوهابيين. فهذا المصنف الذي وضعه شخص غير متفق مع
الوهابيين، ولكنه موضوعي لدرجة كافية، يعتبر قيما بسبب استقلاليته وخلوه من الصبغة
الرسمية. ويتضمن "لمع الشهاب" معلومات إضافية حول طائفة من القضايا:
طابع العلاقات الإقطاعية والقبلية في الجزيرة، والتجارة والصنائع في نجد، وأشكال
الشريعة عند القبائل البدوية، وتنظيم السلطة وجهاز جباية الضرائب والنظام القضائي،
والقوات في الدولة السعودية الأولى.
ومما لا شك فيه أن مؤلفات أبن عبد
الوهاب المخطوطة من اقدم المصادر التي ظلت محفوظة حتى الآن. اثنان منها _
"كتاب التوحيد" و "كتاب كشف الشبهات في التوحيد" _ يتفقان من
حيث أحكامهما الأساسية مع ما نشر مؤخرا من مطبوعات. إلا أن مؤلفات أبن عبد الوهاب
التي صدرت في القرن العشرين قد تعرضت لتعديلات كبيرة من المحققين والمراجعين أو
طبعت استنادا إلى صياغات أخرى لهذه المؤلفات نفسها.
ويمكن الحصول على معلومات إضافية عن
الحركة الوهابية والدولة السعودية الأولى وعلى مواد للتثبت من صحة الوقائع
المعروفة من مؤلفات المؤرخين الحجازي احمد بن زيني دحلان، واليماني محمد بن علي
الشوكاني، والعماني سليل بن رزيق، والمؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي،
والبحراني محمد بن خليفة النبهاني، والعراقي عثمان بن سند البصري، وكذلك إبراهيم
الحيدري البغدادي.
وبعد أبن بشر واصل تسجيل التواريخ
النجدية إبراهيم بن صالح بن عيسى الذي ولد في شقراء عام 1853 _ 1854.فان مصنفه
"عقد الدرر فيما وقع في نجد من الحوادث في أواخر القرن الثالث عشر والقرن
الرابع عشر" يتناول الأحداث المنتهية عام 1885_1886، ولكنه كتبه أو أنجزه في
عهد مؤسس العربية السعودية المعاصرة عبد العزيز (أبن سعود) الذي يمتدحه في مدخل
الكتاب. ولم نتمكن من العثور على هذا المصنف. لذا اعتمدنا على كتابة "تاريخ
بعض الحوادث الواقعة في نجد".
وهناك مصنف احدث هو "عنوان
السعادة والمجد فيما استظرف من أخبار الحجاز ونجد" لمؤلفه عبد الرحمن بن
الناصر. ويتناول الأحداث حتى منتصف ثلاثينات القرن العشرين. وقد استخدمنا هذا
المرجع بصورة غير مباشرة، عن طريق عرض مضمونه الذي قدمه المستشرق الإنجليزي فيلبي
وبعض المؤرخين العرب.
ومن المصادر الهامة مصنف ضاري بن
فهيد بن رشد، فهو يعبر عن وجهة نظر شمر بشان الأحداث في نجد في النصف الثاني من
القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. و "تاريخ ملوك آل سعود" في أواخر
القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لمؤلفه الأمير سعود بن هذلول أحد أفخاذ آل
سعود.
وخلال السنوات الأخيرة بدا استخدام
عدة مصنفات مخطوطة وأحدها بقلم البسام استندنا إليها عند إعداد المواد المكرسة
لتأسيس المملكة العربية السعودية في الثلث الأول من القرن العشرين.
وتشكل مؤلفات محمد بن عبد الوهاب وأتباعه
مجموعة من المراجع الهامة جدا لدراسة المذهب الوهابي، وقد وصلتنا في العديد من
المستنسخات التي يحفظ بعضها في مكتبات ومتاحف أوروبا الغربية. وقد ورد عند أبن
غنام أو أبن بشر أو كليهما ذكر المؤلفات التي تعبر عن جوهر الوهابية: "كتاب
التوحيد" (وهو اقدم تلك المؤلفات، وضع في ثلاثينيات القرن الثامن عشر) و
"كتاب كشف الشبهات في التوحيد" و "كتاب الكبائر" ومسائل
الجاهلية التي خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية" و "مختصر سيرة
الرسول". أما مؤلفات أبن عبد الوهاب الأخرى، ومنها "مفيد المستفيد في كفر
تارك التوحيد" و "أصول الإيمان و "فضل الإسلام ونصيحة المسلمين
بأحاديث خاتم المرسلين" و "الأصول الثلاثة وادلتها" و
"الرسائل"، فهي عديدة وقد أدرجها كارك بروكلمان في مراجع كتابه
"تاريخ الأدب العربي".
وقد طُبعت مؤلفات أبن عبد الوهاب
استنادا إلى المستنسخات المبكرة العائدة إلى أواخر القرن الثامن عشر والنصف الأول
من القرن التاسع عشر، مع أنها، على ما يبدو، قد روجعت في ما بعد. ثم أن المعلومات
التي جمعها المستشرقون الأوربيون عن مذهب الوهابيين تطابق على العموم الأصول
المعروضة في هذه المراجع. وقد اشتهر عبد الله، وهو أبن مؤسس الوهابية، بتأليف كتب
في الفقه أيضا.
ومنها "الرسالة" التي نشرت
في الترجمة الإنجليزية لاول مرة نقلا عن مخطوطة عربية عام 1874 في "مجلة
جمعية البنغال الآسيوية (المجلد 43، الجزء الأول، ص 68_82) (وذكرت المجلة، خطا
هنا، أن المؤلف هو حفيد محمد بن عبد الوهاب). ثم نشرت في مجموعة "الهدية
السنية والتحفة الوهابية النجدية" التي صدرت عام 1923 / 1924 . وتعتبر
"الرسالة" ذات قيمة لانها غير مُثقلة بالاستشهادات والأحاديث والتعليقات
وتعبر بدقة عن بعض أصول الوهابية.
وكتب عبد الرحمن بن حسن، حفيد محمد
بن عبد الوهاب، في أمور فقهية كثيرة. فكان مؤلفه "فتح المجيد، شرح كتاب
التوحيد" عبارة عن تعليق ضاف على مؤلف أبن عبد الوهاب "كتاب
التوحيد". وتتجاوب مع تعاليم الوهابية أيضا "رسالة" الفقيه النجدي،
احمد بن ناصر بن عثمان، من أعيان آل معمر.
أن العثور على مؤلفات خصوم الوهابية الآن اصعب
بكثير مما في السابق.
وبالإضافة إلى مؤلفات أبن زيني دحلان
وأبن رزيق، تجدر الإشارة إلى مخطوطتين في المسائل الأصولية محفوظتين في مكتبة
توبينغين في ألمانيا الاتحادية. وهما "رسالة في رد أبن عبد الوهاب"
لمحمد بن عفالق الحنبلي الاحسائي و "المشكلات المضية ردا على الوهابية"
لابن السويدي.
كتابات
الأوروبيين الذين زاروا الجزيرة العربية والبلدان المجاورة في القرن الثامن عشر ومطلع
القرن التاسع عشر. كان الرحالة الدانمركي نيبور أول
من حمل أنباء الوهابيين إلى أوروبا قبل اكثر من مائتي عام.
وفي سبعينات القرن الثامن عشر زار
الرحالة والعالم الموسوعي فولني الشام وفلسطين، ولكنه لم يصل إلى الجزيرة العربية.
ومع ذلك تتميز كتاباته عن البدو الأعراب المترحلين على مقربة من غزة وأحاديثه عن
قبائل الجزيرة بدقة الملاحظة والأحكام.
وفي عام 1807 زار الحجاز ومكة مخبر
نابليون، وهو أسباني اسمه باديا أي ليبليخ انتحل لنفسه أثناء تجواله اسم علي بك.
ويحتل بوركهاردت مكانا بارزا بين
الرحالة. وهو سويسري الأصل يحمل الجنسية البريطانية، وكان مندفعا برغبة عارمة في
التجوال. وكانت الحجاز التي وصلها عام 1814_1815 مجرد مرحله في تجواله. وقد جمع
معلومات كثيرة جدا عن الجزيرة العربية وعن حياة العرب مستندا إلى أحاديثه الشخصية
مع الحجازيين والنجديين. ولم يكتف بوركهاردت بدراسة تاريخ الوهابيين ومذهبهم
وتركيب الدولة السعودية الأولى، بل تناول كذلك العلاقات الاجتماعية والشريعة عند
البدو والحضر على حد سواء، كما اهتم بأشكال الأسرة والملكية وجباية الضرائب. وكانت
الثقافة الواسعة التي يتحلى بها هذا الرحالة وسعة افقه إلى جانب النزاهة العلمية
قد ساعدته في تأليف كتب لولاها لبقيت معلوماتنا عن الجزيرة العربية في القرنين
الثامن عشر والتاسع عشر شحيحة للغاية. ويجدر بنا أن نذكر بين مزايا بوركهاردت
الكثيرة أسلوبه الممتع الذي لا يترك سبيلا أمام الضجر المرهق في مطالعة الكثير مما
كتبه الرحالة الأوروبيون.
وفي عام 1819 عبر الضابط البريطاني
ج. سادلر شبه جزيرة العرب من القطيف إلى ينبع.
وكتب الأوروبيون عن الجزيرة العربية
من البلدان المجاورة أيضا. ويحتل مرتبة الصدارة بين هذا النوع من المؤلفات
"تاريخ الوهابيين" الذي أصدره عام 1810 ل. كورانسيز القنصل الفرنسي في
حلب. وكان كورانسيز قد شارك مع مجموعة من العلماء في حملة نابليون على مصر ثم
استقر في حلب، حيث عاش ثماني سنوات. ويتضمن كتابه معلومات غير قليلة عن التاريخ
السياسي لدولة السعوديين وبُنيتها ومذهبها. إلا أن كتاب كورانسيز "تاريخ
الوهابيين" لا يخلو من الأخطاء والأحكام غير الموزونة.
وجمع المدفعي الفرنسي ج. رايمون الذي
كان في خدمة والي بغداد مواد في العراق وضمنها تقريرا بعث به إلى وزارة الخارجية
الفرنسية.
وكان بريجيز، المعتمد السياسي لشركة
الهند الشرقية في البصرة (اعتبارا من عام1784) ثم في بغداد، قد نشر مذكراته بعد
مرور عدة عقود على عودته من الأقطار العربية.
وقد وصلت إلى الصحافة الروسية
معلومات عن الوهابيين بالأساس عن طريق أوروبا الغربية.ومن اقدم الكتابات التي تم
العثور عليها (بعد طبع "رحلة" فولني) ما نشرته مجلة "بشير
أوروبا" (فينسك يفروبي) بالروسية عام 1803: "قدر للجزيرة العربية أن
تكون مهد الثورات الآسيوية. الإمام الجديد هناك عبد الوهاب لديه الآن…قوات غفيرة
وهو يقترب من مكة". وفيما بعد نشرت "مجلة المنوعات الأدبية (1805) ومجلة
"بشير أوربا" (1819) مقالات ألقت الأضواء على الأحداث في الجزيرة
العربية.
ويقدم الرحالة الأوروبيون الذين زاروا شبه
جزيرة العرب بعد ج.سادلر في القرن التاسع عشر مادة غنية ممتازة لإيضاح حياتها
الاجتماعية والسياسية. فهم يضيفون إلى ما كتبه بوركهاردت و فولني ونيبور والمؤرخون
العرب ويثبتون شيئا فيه أو ينفون شيئا أخر فيساعدون على دراسة مجتمع الجزيرة
العربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
وفي ثلاثينات القرن الماضي زار
الضابط البريطاني د. ولستيد عمان وجاب ساحل الجزيرة. وفي الوقت نفسه تقريبا زار
الفرنسي م. تاميزيه الحجاز وعسير،وفي الأربعينات تجول العالم الفنلندي فالين في
ربوع الحجاز وشمال الجزيرة، وزار الإنجليزي ر. بارتون في الخمسينات الحجاز وبادية
الشام. وفي عام 1854 زار الفرنسي ش. جيديه مكة. وفي عام 1862_1863 تسلل عضو سلك
الجزويتين (اليسوعيين) المخبر الفرنسي و. بلغريف إلى أواسط نجد وزار عاصمة الدولة
الوهابية الجديدة _ الرياض،وكذلك القصيم والأحساء. وقد أبديت الشكوك مرارا في حقيقة رحلة بلغريف، وذلك بسبب عدم دقته،
ولكن هذه الرحلة تأكدت الآن بالفعل.
وكان ل. بيلي المقيم البريطاني في
بوشهر قد زار الرياض عام 1846 _ 1865 وفي ذلك الوقت تقريبا زار الإيطالي ك.
غوارماني شمال نجد.
وتجول العالم الأثرى والكاتب
الإنجليزي دوتي في شمال نجد والحجاز عام 1876 _ 1878. ويعتبر مؤلفه تحفة في أدب
الرحلات الإنجليزي. والمعلومات التي يوردها دوتي غنية جدا.
وتجدر الإشارة إلى الرحالة الفرنسي
يوبير الذي زار شمال نجد والحجاز عام 1878_ وعام 1883 _ 1884وقتل هناك، وإلى
الرحالة الإنجليزي بلانت وعقيلته اللذين زارا بادية الشام وجبل شمر عام 1878 _
1879 وعام 1881، ومربي الخيول الروسي ستروغونوف وشرباتون وعقيلته الذين قاموا
برحلتين إلى بادية الشام في 1888 و1890، والضابط الروسي دافليتشن الذي زار الحجاز
في أواخر السبعينات.
ومن بين المؤلفات المكرسة لبدو
الجزيرة الرحل نشير إلى كتابات المستعرب والمخبر الألماني فون أوبينهايم الذي تجول
في بادية الشام في تسعينات القرن التاسع عشر، ولكن مؤلفه عن البدو بمجلداته الثلاثة
لم يصدر إلا بعد عدة عقود.
واستمرت
الدراسات الأوروبية للجزيرة العربية في النصف الأول من القرن العشرين.
ويبرز خصيصا بين جميع الباحثين فيلبي
وديكسون. فقد صرف كلاهما قسما كبيرا من حياته في الجزيرة العربية ودرساها من
النواحي الجغرافية والاجتماعية والاثنوغرافية. كان فيلبي ضابطا في الجيش البريطاني
الهندي. واعتبارا من عام 1917 عمل في الفيلق البريطاني في العراق، وفي العام نفسه
صار ممثلا سياسيا لبريطانيا عند أبن سعود. وفي بداية العشرينات عُين مندوبا سياسيا
لبريطانيا في شرق الأردن. وفي عام 1925 ترك الخدمة الرسمية في الجيش البريطاني
وأقام في العربية واعتنق الإسلام بعد بضع سنوات. وفي فترة معينة مارس تجارة سيارات
فورد. وكان واحدا من الوسطاء لدى توقيع اتفاقية امتياز شركة "ستاندارد أوبل
أوف كاليفورنيا" التي أرست بداية شركة ارامكو الجبارة التي هي أول منتج للنفط
في العالم. وقام فيلبي بدراسة عدد من مناطق العربية السعودية وخلَّف مذكرات كثيرة
عن رحلاته.
أما نطاق رحلات ديكسون فهو أضيق من
ذلك. لقد كان ممثلا سياسيا لبريطانيا في إمارات شرق الجزيرة ثم مقيما سياسيا في
الكويت. وقد زار المناطق الوسطى من شبه جزيرة العرب. ويتضمن كتاباه "عرب
البادية" و "الكويت وجاراتها" وصفا هاما، فريدا من نوعه أحيانا،
لحياة القبائل البدوية ونشاطها الاقتصادي وبنيتها الاجتماعية، وكذلك طائفة من
المعلومات الهامة عن تاريخ العربية السعودية والكويت.
أما لورانس فانه يشغل مكانة خاصة،
لقد كان ضابطا للاتصال عند شريف مكة أبان انتفاضة عرب الحجاز ضد الأتراك. وبعد
الحرب العالمية الأولى احتاجت الدعاية البريطانية الرسمية إلى أبطال فجعلت من
لورانس واحدا منهم. وزادت من أمجاده مؤلفاته التي كتبها بومضات أدبية لا جدال في
قيمتها. ولكن تلك لم تكن مؤلفات عن جزيرة العرب والانتفاضة العربية ضد الأتراك
بقدر ما كانت مؤلفات بقلم لورنس عن دوره شخصيا في هذه الانتفاضة ، وليس دوره
الفعلي طبعا، بل الصورة التي تخيلها عبر منظار الغرور الذي كان يعاني منه. لذا، لم
تكن لمؤلفاته أهمية علمية كبرى.
وكثيرا ما طاف العالم التشيكي، ا.
موسيل، في شمال الجزيرة العربية والأقطار المجاورة لها اعتبارا من أواخر التسعينات
وحتى عام 1917 .وأبان الحرب العالمية الأولى، كان يؤدي مهمات الأركان العامة
النمساوية _ المجرية في جبل شمر. وقد نشر عدة مؤلفات بعضها ذو طابع اثنوغرافي.
وتجدر الإشارة إلى دراسة ا. جوسان
المكرسة لبدو الجزيرة، وكذلك إلى مؤلفات ر. مونتان.
وترك تسجيلات بمختلف الصياغات العالم
الطبيعي د. كاروتيرز الذي عمل في شمال غربي الجزيرة وبادية النفود عام 1909
والباحث الدنماركي ب. راونكيار الذي زار نجد عام 1912 والباحث الألماني ك. راسوران
الذي عمل في بادية السام في الفترة 1911_ 1914 وفي مطلع العشرينات، وكذلك الباحثون
الانجليز س. باتلروج. ليشمان ور. شيزمان.
وألفت المخبرة البريطانية والمستعربة
الكبيرة هيرترودا بيل عدة كتب. وكتب ب. توماس وصفا لرحلاته إلى شمال الجزيرة في
الجزيرة في العشرينات ودراسات عن وسطها وجنوبها.
ويهيئ مؤلفون آخرون في هذه الفترة
الإمكانية لإدراك الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لشبه جزيرة العرب في
الثلاثينات والأربعينات بشكل افضل. ومن هؤلاء المؤلفين الرحالة الإنجليزي و.سيبروك
والقنصل الهولندي في جدة فان دير ميولين وقائد السلك العربي في الأردن والكاتب
الثر فيما بعد حول القضايا العربية ج.غلوب وغيرهم.
وثمة طائفة من الكتب التي ترد فيها
أحيانا بعض الوقائع الجديدة، وربما القليلة الأهمية، عن مجتمع الجزيرة. وهي من
تأليف أوروبيين وأميركان زاروا جزيرة العرب في الثلاثينات والأربعينات
والخمسينات،ومنهم ك. نالينو وج. ديغوري وا. زيشكه وج. خير الله وف يلزان. وغ.
ارمسترونغ ود. هاورز وا. راتر وف.توميشا وك. تويتشل وا. فالك وم. شيني ور. سانجر وب. هاريسون. وتساعدنا معلوماتهم في
الحكم بمزيد من الوضوح على التبدلات التي جرت في الجزيرة خلال عدد من العقود
الأخيرة، كما تساعدنا في الدراسة الأفضل للأنظمة الاجتماعية المعروفة هنا طوال
القرون والتي ظلت باقية حتى الآونة الأخيرة تقريبا.
ونجد معلومات تفصيلية عن الباحثين
الأوروبيين الذين درسوا الجزيرة العربية في كتب ا.زيمهه وا.رالي وس. زويمير ود.
هوغارت وف. بارتولد ور. كيرنان وج. بيرين.
وتشكل وثائق ومطبوعات الإدارة البريطانية الهندية مجموعة هامة من المراجع والمصادر التي لم يبدأ استخدامها في البحث
العلمي إلا في العقدين الأخيرين. ومن أبرزها مجموعة الاتفاقيات بين الهند والبلدان
المجاورة، وهي المجموعة التي أعدها ك. ايتشيسون في أواخر القرن التاسع عشر ونشرت
لاول مرة في كلكتا عام 1892.وصدرت الطبعة الثانية المزيدة من هذه المجموعة في دلهي عام 1933.
وفي الفترة 1908_1915 نشر ج.
لوريمير، وهو موظف في الإدارة البريطانية الهندية،مؤلفا ًضخما بعنوان "سجل
الأحداث في الخليج وعمان ووسط الجزيرة". يحتوي هذا المؤلف على بضعة آلاف من
الصفحات من القطع الكبير. وكان مخصصا خلال فترة طويلة للاستخدام الإداري، ولم
يتمكن علماء البلدان الأخرى من الإطلاع عليه إلا بعد الحرب العالمية الثانية.
وتكمن قيمته في كونه يجسد وجهة نظر الإدارة البريطانية الهندية بخصوص الأوضاع في
بلدان الخليج ومجموع المعلومات التي كانت في حوزتها عن هذه المنطقة ابتداء من
القرن الثامن عشر وحتى مطلع القرن العشرين. أما عيب مؤلف لوريمير هذا فهو قلة
الإشارة إلى المراجع. ويصعب القول على وجه التحديد هل استقى لوريمير معلوماته من
مؤلفات بوركهاردت وكورانسيز ومنجين وبريجيز وغيرهم أم من إخباريات رجال المخابرات
البريطانية.
وتتميز بقيمة كبيرة من هذه الناحية
منشورات ج. سالدانا المكرسة لمنطقة الخليج في القرن التاسع عشر ومطلع القرن
العشرين والتي استند فيها إلى مواد الارشيفات البريطانية الهندية. ولكننا لم نتمكن
من الحصول عليها، واكتفينا بالاستفادة من استشهادات ر. ويندير الكثيرة بها في
مؤلفه "تاريخ العربية السعودية في القرن التاسع عشر".
المطبوعات
السعودية الرسمية. نشرت إحصائيات سعودية هامة، بما
فيها إحصائيات عن قوام المجتمع السعودي، في "الكتاب الإحصائي السنوي".
كما أن مجاميع الوثائق والبيانات السعودية تتميز بأهمية معينة.
لقد أسفر النزاع السعودي البريطاني
بسبب واحات البريمي عن ظهور "مذكرة حكومة العربية السعودية" بثلاثة
مجلدات و "مذكرة" الحكومة البريطانية بمجلدين. وكانت الطبعة السعودية
تستهدف إثبات عائدية الأراضي المتنازع عليها إلى العربية السعودية، ولكنها تضمنت
في الوقت نفسه طائفة من المواد الجديدة عن جباية الضرائب وعن القبائل.
وفي
القرن العشرين ظهر بين المراجع العربية التي ألفها أشخاص ساهموا في الأحداث مرجع يمكن أن يقارن، من حيث أهميته لدراسة مجتمع العربية السعودية في
القرن الحالي بكتاب "عنوان المجد في تاريخ نجد" و "لمع
الشهاب" بالنسبة للقرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر. ونعني
به كتاب خير الدين الزركلي بأربعة مجلدات:"شبه الجزيرة في عهد الملك عبد
العزيز. بديهي أن هذا الكتاب يدافع دون تحفظ عن مؤسس العربية السعودية وعن آل سعود
وعن النظام السعودي عموما. ولكن إلى جانب ذلك فهو عبارة عن مجموعة غنية من
المعلومات الواقعية المتنوعة عن البلاد _ من النشوء حتى تشكيل الجيش النظامي، ومن
النظام القضائي والحقوقي حتى الاثنوغرافيا، ومن الاقتصاد حتى التفاصيل الفكاهية
لحياة البلاط الملكي. وكان الزركلي، الذي خدم مدة طويلة في وزارة الخارجية، قد
ادرج ضمن كتابه عدة وثائق قيمة من موجودات الدبلوماسية السعودية. ولكن من عيوب
الكتاب عدم الإشارة إلى الكثير من المراجع.
وترك لنا حافظ وهبه المصري الذي خدم
زهاء خمسين عاما عند الملوك السعوديين مذكرات تزيد من معلوماتنا عن تطور المجتمع
السعودي. فقد كان أبن سعود يأتمنه في المباحثات الدبلوماسية، كما شغل وهبه مناصب
إدارية هامة في الحجاز بعد فتحه وترأس ديوان التربية وعمل سفيرا للسعودية في لندن،
وخلف عدة مؤلفات. ويتحدث وهبه عن النشاط الاقتصادي والتنظيم الاجتماعي للحضر
والبدو في وسط الجزيرة قبل ظهور الصناعة النفطية وعن حركة الأخوان.
وألف فؤاد حمزة السوري الذي كان في
خدمة الملوك السعوديين أيضا عدة كتب، تتضمن فيما تتضمن، معلومات ذات طابع اجتماعي
وسياسي واقتصادي عن العربية السعودية قبل عصر النفط.
أن مطبوعات المعارضة السعودية، بما فيها اليسارية المتطرفة، قليلة ولكنها قيمة لانها تكشف عن توجهات
المنظمات التي تعارض النظام السعودي.
وإلى جانب المئات من المؤلفات
السطحية التي لا تتسم في الواقع بأهمية علمية،
أخذت تظهر بين المطبوعات العربية في الثلاثينات حتى
السبعينات مؤلفات جادة،
ومنها دراسة التطورات الاجتماعية
والاقتصادية في منطقة القصيم النجدية والتي أعدها الباحث السعودي عبد الرحمن
الشريف في أواسط الستينات. وفي عام 1965 أصدرت جامعة الدول العربية كتابا عن البدو
الرحل في الاقطار العربية، بما فيها جزيرة العرب. وقدم نزار الكيالي شرحا ضافيا
لقوانين العمل. وتناول محمد صادق (ولعله مصري) تطور الجهاز الإداري السعودي. أن المؤلفات العربية في تاريخ العربية
السعودية تستند بالأساس إلى مصنفات الجزيرة، ولا
تستخدم كثيرا المراجع والمطبوعات الأوروبية. ثم أن المؤلفين العرب يقتصرون، عادة، على
سرد الأحداث التاريخية دون أن يمحصوا مضامينها السياسية، ناهيك عن مضامينها
الاجتماعية. ونلاحظ ذلك حتى عند افضل الباحثين، من أمثال محمود شكري الالوسي وأمين
الريحاني واحمد علي وأمين سعيد وصلاح الدين المختار واحمد عبد الغفور ومحمد عبد
الله وراقب حراز ومنير العجلاني. ويهتم خصوصا بعرض المذهب الوهابي عبد الله
القاسمي واحمد أمين ومحمد حميد الفقيه وعباس محمود العقاد وكذلك محمد رشيد رضا أحد
زعماء الحركة الإصلاحية الإسلامية في مصر. وتتناول مؤلفات محمد المدني وحسين ناصيف
نشأة العربية السعودية.
ويتميز بمستوى أعلى بعض الشيء كتاب
الباحث الحجازي عبد الحميد الخطيب "الإمام العادل" الذي يتحدث عن عهد
عبد العزيز. وهو يحتوي على طائفة من الوقائع التاريخية المجهولة أو غير المعروفة
كثيرا. وكان مؤلفه من خصوم السعوديين سابقا ومن مؤسسي الحزب الحجازي اللبرالي.
وبعد تدمير الحزب عفا أبن سعود عن زعمائه وأُعيد إليهم اعتبارهم بعد فترة من
الزمن. وكرس عبد الله عبد الجبار وفهد المارك دراسات للفكر والأدب في العربية
السعودية في القرن العشرين.
ويتناول الحقوقي صبحي المحمصاني
بالتفصيل النظام الحقوقي والشريعة في العربية السعودية.
وأورد عبد الرحمن عبد الرحيم بعض
المواد الجديدة من الارشيفات المصرية وغيرها عن تاريخ الدولة السعودية الأولى، كما
أورد عبد الفتاح أبو علية معلومات مماثلة عن الدولة السعودية الثانية.
ثم أن الكتب الجديدة المدافعة عن الوهابية
والتي ألفها سليمان بن سحمان تتضمن، بالإضافة إلى الأصول الوهابية، مقتطفات من
مؤلفات خصوم الوهابية.
وفي
"عصر البترول" ازداد مرارا عدد المؤلفات الأوروبية الغربية والأميركية
الخاصة بالعربية السعودية. وبديهي أن رحالة أوروبيين
كثيرين تناولوا التغيرات الاجتماعية السياسة والاقتصادية. ويضاف إلى ذلك عدد من
المؤلفات الهامة.
في بداية الخمسينات أجرى ف. فايدال،
بتكليف من إدارة أرمك، دراسة ميدانية لواحات الأحساء، وجمع طائفة من المعلومات
الجديدة عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية لسكانها.
وفي أواخر الستينات أعدت الباحثة
اليابانية موتوكو كاتاكورا دراسة ميدانية مختصة اثنوغرافية واجتماعية واقتصادية في
وادي فاطمة بين مكة والمدينة. وكانت هذه الدراسة ذات قيمة لانها تتضمن وصفا لسكنى
الحضر والروابط بينهم وبين قبائل البدو، والصلات الاجتماعية التقليدية واستخدام
العلاقات البضاعية النقدية.
وأجرى و، راو الذي كان مديرا لمكتب
الاستعلامات في السفارة الاميركية في الرياض تحليلا لنظام التعليم في العربية
السعودية ودوره في المجتمع. وجمع معلومات قيمة مع أن طريقته في تصنيف الناس ضمن
"صفوف" طبقا لتحصيلهم العلمي لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد.
وهناك طائفة من الكتب الاميركية
الضخمة حول العربية السعودية لا يمكن إدراجها رسميا في عداد المراجع ولكنها تعتبر
مراجع على أي حال. ومنها كتاب "جزيرة أبن سعود" بقلم موظفي ارامكو
ليبكتشر ورينتز وستينيكه، وقد نشر عام 1952، وكتاب "العربية السعودية: سكانها
ومجتمعها وثقافتها" بقلم ج. ليبسكي وآخرين،وقد صدر عام 1959، وطبعتان صدرتا
عن وزارة العمل الاميركية بعنوان "قوانين العمل والتطبيق في العربية
السعودية"، "وكتاب شبه سري بعنوان "الدليل الإقليمي للعربية
السعودية"، وقد صدرت منه عدة طبعات مزيدة.
أن هذه الكتب موضوعة على أساس التي
جمعت في العربية السعودية مباشر، بما فيها الدراسات الميدانية الاثنوغرافية
والانثروبولوجية والاجتماعية والاقتصادية. فقد استخدم واضعو "الدليل
الإقليمي، مثلا، تقارير ودراسات المخابرات الاميركية والسفارة الاميركية وعدد من
دوائر ارأمكو. وكانت في متناول أيديهم مواد الارشيفات وبعض التقارير الإحصائية
الأصلية لمختلف الدواوين السعودية. وهذه الكتب غير مخصصة للجمهور الواسع، فهي تعني
بالدرجة الأولى الخبراء والأشخاص المرتبطين بالعربية السعودية مباشرة _ رجال
الأعمال والمهندسين والدبلوماسيين
والصحفيين. لذا فهي غاصة بكثير من الوقائع والأرقام وتحتوي على بعض التقييمات
الموضوعية. إلا أن نقطة الضعف المشتركة بينها، شأن كل المطبوعات الاميركية بخصوص
العربية السعودية، هي طابعها المتحيز للسياسية الاميركية ونشاط أرمك. وان
تقييماتها للنظام السعودي على أكبر قدر من الحذر، فهي اقرب إلى التزلف مما هي إلى
التحليل العلمي. ولكن بوسع الباحث أن يغترف من هذه المطبوعات معلومات عن طابع
علاقات الأرض واستثمارها والتغيرات في الزراعة وخصائص نشوء الطبقة العاملة
والبرجوازية، والتطورات في المجتمع السعودي وإصلاح جهاز الحكم وتطور النظام
الحقوقي.
ألف ر. كناويرهيز كتابا قيما في
الاقتصاد السعودي في أواسط السبعينات أورد فيه الكثير من الوقائع والأرقام
المستقاة مباشرة من مصادر سعودية.
ومن المؤلفات ذات الطابع السياسي بل
الصحافي على الأغلب، والتي تتضمن تفاصيل هامة عن الأوضاع في العربية السعودية،
كتاب" الجزيرة العربية بلا سلاطين" بقلم الكاتب الإنجليزي ف. هولدي،
وكتابان ألفهما بصورة مشتركة الباحثان الفرنسيان ل. شامبينوا وج _ ل. سوليه.
وتعتبر مقالات ب. بونيتغان من الكتابات الصحفية الجادة. وفي السنوات الأخيرة صدرت
كتب في الاقتصاد السعودي استخدم مؤلفوها الطرائق العصرية في البحث الاقتصادي
استنادا إلى مادة معلوماتية غنية. ومنها كتب ر.كراين وب. لوني وف.الفارسي.
واشتهر بين المؤلفين الغربيين الذين
كتبوا عن القضايا النفطية في الشرقيين الأدنى والأوسط كل من س.لونغريغ وب.شفادران
وش. كليبانوف وف. روحاني وج _ م شفاليه وش. علي واضعي دليل ارأمكو وأدلة أوبيك
وأوابيك.
وتتناول طائفة هامة من المؤلفات
الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الراهنة في العربية السعودية، ومنها مؤلف ج. لبركز
وك. سنكلير حول نزوح السكان وكتاب ج. كارتر وبحث إبراهيم سعد الدين وكذلك كتاب
"الدولة والمجتمع والاقتصاد في العربية السعودية" لجماعة من المؤلفين.
وحلل ج. بارودي النظام الحقوقي في
السعودية. وأبدى مؤلفو كتاب "المملكة العربية السعودية" الصادر في لندن
ب. هوبدي وا.كيليدار ود. لونغ اهتماما كبيرا بالقضايا الاجتماعية والسياسية، بما
فيها تركيب السلطة والقانون.
وفي الثمانينات والتسعينات في أوروبا
الغربية والولايات المتحدة الاميركية ازداد الاهتمام بالعربية السعودية. ومن
المستحيل الإشارة إلى كل المؤلفات الصادرة في هذا التقديم الموجز. ولا نذكر سوى
المطبوعات بقلم الباحث الأميركي نداف سفران التي أثارت رد فعل سلبي في الدوائر
الرسمية في الرياض وكتاب بإشراف "تيم نبيلوك" من بريطانيا العظمى.
وخلال السنوات العشر الأخيرة نشرت
الحوليات والدوريات الغربية والعربية الكثير من المقالات عن العربية السعودية.
أن
المطبوعات الأوروبية الغربية والروسية الصادرة قبل ثورة أكتوبر حول تاريخ العربية
السعودية تتميز، أساسا، بطريقتها الوصفية التي تتجاهل
الجانب الاجتماعي من الأحداث، كما تتميز بملاحظات سطحية عن الدوافع السياسة لتلك
الأحداث، ولا تعترف أكثرية المستشرقين الأوربيين بوجود أي تطور في مجتمع الجزيرة
حتى القرن العشرين. ولا يختلف عن ذلك كتاب المستشرق الروسي ا. كريمسكي "تاريخ
العرب والأدب العربي" بجزأين (1911_1912).
والمؤلف الأوروبي الوحيد الذي يتناول
بتفصيل كبير تاريخ السعودية كله هو كتاب فيلبي "العربية السعودية"
الصادر عام 1955 والذي سبق أن أشرنا إليه.وهو عبارة عن صيغة موسعة لكتابه الأسبق
"الجزيرة العربية" الذي صدر عام 1930 .واعتمد فيلبي في سرد الأحداث كليا
على مصنفات مؤلفي الجزيرة ابتداء من أبن غنام وحتى أبن هذلول، وكان أول أوروبي قام
بهذا العمل. ولكنه يتحاشى الاعتماد على المراجع الأوروبية في تاريخ الجزيرة ويبدي
أدنى قدر من الاهتمام بتطور البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصاد. ولا يمكن أن
تنسب إليه فضيلة الموضوعية وعدم التحيز في عرض الوقائع التاريخية. كما انه كان
مولعا بشخصية أبن سعود،فأضفى صبغة مثالية على نشاط آل سعود. بيد أن المؤرخ الذي
يتناول دراسة العربية السعودية لا يحق له أن يتجاهل كتب فيلبي في أدب الرحلات ولا
مؤلفاته التاريخية، وذلك لان صاحبها أوروبي مطلع عن كثب على خفايا الحياة في
الجزيرة العربية، لذا فهو قادر على الالتفات إلى نقاط خفية يمكن أن يمر بها
الباحثون الأكاديميون مرور الكرام.
وتجر الإشارة إلى أن الباحث التشيكي
ا.موسيل استخدم هو الأخر المصنفات العربية.
ومن بين المؤلفات الاميركية المنشورة
والمخصصة لفترات معينة في تاريخ الجزيرة يبرز كتاب ر. ويندير الآنف الذكر:
"العربية السعودية في القرن التاسع عشر"، وكتاب ج.ترولير "ميلاد
العربية السعودية الحديثة" المكرس للعقدين الأول والثاني من القرن العشرين.
وكلا الكتابين يعتمدان على مراجع كثيرة متنوعة، إلا انهما يقتصران بالأساس على سرد
الأحداث السياسية.
أن بعض المستشرقين الأوروبيين، مثل
العام المجري ا. غولدزيهير، يستعرضون بشكل صائب، على العموم، الجانب العقائدي
الأصولي للوهابية ويشيرون إلى السمات الخاصة للمذهب الوهابي. ونجد عرضا تفصيليا
للأصول الوهابية في مقالة مارغوليوس المنشورة في الطبعة الأولى " لدائرة
المعارف الإسلامية" بأربع مجلدات. وكتب المستشرق الفرنسي أ. لياوست عدة
دراسات هامة مكرسة لابن تيمية، سلف الوهابيين، وتأثير مذهبة على معتقدات الطبقة
الحاكمة في المجتمع السعودي. كما أن لهذا المستشرق مقالة عن محمد بن عبد الوهاب في
الطبعة الجديدة من "دائرة المعارف الإسلامية.
وفي الفترة من أواخر السبعينات حتى
مطلع التسعينات صدرت عدة مؤلفات مكرسة للصحوة الإسلامية وتنشط الحركات الدينية في
الشرق، وتتناول الإسلام في العربية السعودية. ومنها كتاب ى. مورتيمير وكتابا
"الإسلام في السياسة الخارجية" و "الشيعة والرفض الاجتماعي"
لجماعة من المؤلفين، بالإضافة إلى كثير من المقالات في الصحف والمجلات.
وفي المطبوعات السوفييتية كان م. تومارا أول
من تناول موضوع الوهابية وتاريخ الدولة السعودية. ويعود له الفضل في طرح الجذور
الاجتماعية للوهابية. إلا أن استنتاجاته غدت عتيقة في الوقت الحاضر.
وكتب أ. بتيرشيتس عدة دراسات عن
الجزيرة العربية ونظامها الاجتماعي والسياسي واثنوغرافيتها. وعرض حصيلة دراسات
استغرقت سنوات طويلة في كتاب جيد بعنوان "الاقتصاد والنظام الاجتماعي
والسياسة في شمال الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن
العشرين". وقد اعتمدنا عليه في إعداد الفصل الأول من بحثنا هذا. وهو يتضمن
كمية كبيرة من الوقائع المصنفة والمقتبسة من أغلبية الرحالة الأوروبيين الذين
طافوا الجزيرة العربية. كما يحتوي على تحليل لمجتمع الجزيرة. وساعد كتاب بيرشيتس
على الاستيعاب الأفضل لمجموعة المصادر الأوربية المدونة. إلا أن بعض أحكام المؤلف
قابلة للجدل. وقد استكمل بيرشيتس آراءه وطورها بقدر معين، الأمر الذي انعكس في
مقالاته التي ظهرت فيما بعد بعنوان "بعض خصائص نشوء الطبقات والعلاقات
الطبقية المبكرة عند الرعاة الرحل".
ونشر م. شوراكوف كتابا بعنوان
"تاريخ نجد الحديث" لخص فيه كتاب أمين الريحاني الذي يصف الأحداث حتى
أواسط القرن التاسع عشر كما جاءت عند أبن بشر. وشدد شوراكوف على النقاط الهامة في
دراسة الاثنوغرافيا والعلاقات الاجتماعية في أواسط الجزيرة.
ويتيح كتاب ى.بيلايف "العرب
والإسلام والخلافة في أوائل القرون الوسطى" إمكانية التعمق التاريخي في دراسة
مجتمع الجزيرة العربية ومعتقداته على امتداد القرون. كما أن مؤلفات ن. ايفانوف عن
القبائل العربية في شمال أفريقيا وتاريخ المغرب والمجتمع العربي والعثماني وكذلك
كتابات الباحثة ا. سميليانسكايا عن آسيا الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع
عشر لدارسي الجزيرة العربية تهيئ مجالا للمقارنات الاجتماعية والتاريخية الهامة.
وألف ن. بروشين بحثا بعنوان
"العربية السعودية" أهم ما في جزئه التاريخي سرد أحداث الأربعينات
والخمسينات ومطلع الستينات. ويستعرض الكتاب بشيء من التفصيل انتفاضة الإخوان في
العشرينات. وهو أول محاولة في روسيا لتحليل منشأ الرأسمالية السعودية وظهور وتطور
العلاقات الرأسمالية ونشوء الطبقة العاملة في العربية السعودية.
واصدر ف. أوزولينغ ثلاثة كتب قيمة عن
العربية السعودية، وهي مكرسة بالدرجة الأولى لاقتصاد هذا البلد، ولكنها تحتوي في
الوقت نفسه على مادة جيدة عن مجتمعه وعن تطور الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية
والاقتصادية. وقد استعنا بتحليلات أوزولينغ الاقتصادية أثناء الحديث عن البنية
الاجتماعية والسياسية للعربية السعودية في فصل "عصر البترول".
وألفت الباحثة الروسية ل. فاكوفا
كتابا عن السياسة الخارجية للعربية السعودية في الستينات والسبعينات أساسا. ويتضمن
الكتاب مادة وفيرة في هذا الموضوع. كما أصدرت المؤلفة كتابا أخر بعنوان
"العربية السعودية: النفط والإسلام والسياسة".
وقد وضع ا. ياكوفلين كتابين وسلسلة
مقالات معظمها مكرس لقضايا التطور الاقتصادي والاجتماعي في العربية السعودية
والعلاقات المتبادلة بينها وبين البلدان الغربية. وللباحث ياكوفليف بالاشتراك مع
ف. ميشين كتاب عن دور الخليج في سياسة الولايات المتحدة وأقطار أوروبا الغربية.
وحظيت قضايا السياسة الخارجية للعربية السعودية بالتحليل في كتابات ر. بوريسوف ول.
ميدفيدكو وي. بريماكوف ور. توروسونوف، وكذلك في بحث "السياسة الخارجية لأقطار
الشرقيين الأدنى والأوسط" بقلم جماعة من المؤلفين.
ويتضمن دليل "العربية
السعودية" الصادر عام 1980 مادة غنية عن المملكة.
وكرس غ. بونداريفسكي كتابا للاوضاع
في حوض الخليج على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين. ويلقي المؤلف الأضواء على
بعض قضايا تاريخ الجزيرة خلال تلك الحقبة.ويمكن تتبع سير الحرب العالمية
الأولى بالنسبة للجزيرة العربية في كتاب
م.لازاريف "سقوط السيطرة العثمانية في العالم العربي".
ونجد توضيحات لبعض المسائل الحقوقية
في المواد المخصصة لبناء نظام الدولة السعودية في كتاب "دساتير دول الشرقيين
الأدنى والأوسط" مع أن ترجمة بعض النصوص تحتاج إلى تدقيق. وقام س. كامينسكي
بتحليل الأنظمة الملكية في العالم العرب ، كما عالج ل. سوكياينين في كتاب
"الشريعة الإسلامية" القضايا المتعلقة بالفقه والشريعة في النظام
الحقوقي السعودي.
وشهدت الثمانينات ومطلع التسعينات
بحوثا إسلامية تناولت بهذا القدر أو ذاك قضايا الإسلام وأحواله الراهنة في العربية
السعودية. ومن تلك البحوث "الإسلام في السياسة الراهنة لبلدان الشرق" و
"العامل الإسلامي في العلاقات الدولية في آسيا" بقلم جماعة من المؤلفين
والدليل الموسوعي "الإسلام وكذلك دراسات الباحثين ا. كودربافتسيف ود.
ماليشيفا وغ. ميلوسلافسكي ور. شريفوفا. كما كرس ف. شيستوبالوف بحثا لقضايا تحديد
الجرف القاري في الخليج العربي.
ثم نشر كتبا عن العربية السعودية كل
من ا. بيليايف وف. بوديانسكي وم. لازاريف وو. غيراسيموف. وظهرت في عدة مجلات روسية
مقالات تناولت مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية في العربية السعودية.
ويبدي الباحثون في روسيا اهتماما
كبيرا بقضايا النفط ودور الصناعة النفطية في مجتمع بلدان الشرق الأوسط، ومنها
العربية السعودية. وفي مقدمة أولئك الباحثين ر.اندياسيان وب. راتشكوف وأ. مكسيموف
وأ. بيوتروفسكايا وأ. بريماكوف وأ. سيف الملوكوف.
وفي الختام تجدر الإشارة إلى الفهارس الخاصة بالعربية السعودية والتي وضعها ر. ماكرو وهيورت دون وج. ستيفينس ور. كينغ والباحثان
السعوديان يحيى محمود ساعاتي وعبدالله القحطاني، وكذلك الدليل الذي صدر في واشنطن
عام 1951 وقائمة المؤلفات الخاصة بالجزيرة العربية والمحفوظة في المكتبة الوطنية
بالقاهرة، وكتاب "الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز. قائمة بيبليوغرافية
مختارة عن حياته وأعماله". وفي عام 1994 اصدر الباحث الأستاذ فهد السماري من
الرياض القائمة المفصلة للكتب المكرسة لعهد الملك عبد العزيز آل سعود. وتتضمن
"بيبليوغرافيا العربية السعودية" (من وضع كاتب السطور) اكثر من أربعة
آلاف عنوان كمؤلفات عن المملكة بالروسية والعربية وبلغات أوروبية. ويضاف إليها سجل
"بيبليوغرافيا بلدان جنوب وشرقي الجزيرة العربية" من وضع ا. شفاكوف. ومن
اكمل السجلات في هذا المجال "بيبليوغرافيا" هانس يورغين فيليب التي صدرت
في ألمانيا عام 1984.
وفي عام 1989م صدر المجلد الثاني للبيبليوغرافيا للمؤلف نفسه. وللاسف
لم يدمج "فيليب" في هذين المجلدين الكتب لا باللغة العربية ولا بغيرها
من اللغات الشرقية ولا باللغة الروسية واللغات الشرق أوروبية الأخرى. وقد زاد عدد
المؤلفات البيبليوغرافية البحتة التي تخص العربية السعودية على اكثر من 100 كتاب.
الجزء الأول
الفصل الأول
الجزيرة العربية قبيل ظهور الوهابية
الاقتصاد والمجتمع والسياسة
ظهرت دولة
السعوديين في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر الميلادي على أساس حركة
المصلحين الإسلاميين الوهابيين. بديهي أن دراسة مجتمع الجزيرة العربية بالدرجة
الأولى يمكن أن تقدم لنا مفتاح فهم المذهب الوهابي وأسباب تأسيس وتطور واندثار
وبعث الدولة التي تحمل اليوم اسم العربية السعودية . ونستدرك هنا فنقول إن
اهتمامنا منصب على المناطق الوسطى والشمالية والشرقية من شبه جزيرة العرب، على نجد
والأحساء . أما اليمن وعمان فلا نتناولهما بالدراسة. والسبب في ذلك لا ينحصر في
كونهما فد احتفظتا باستقلالهما عن العربية السعودية، بل يكمن بالدرجة الأولى في احتفاظهما بالخصائص المتميزة
تماما (الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والسكانية والمذهبية) التي تقدم المبررات
لاعتبار سكانهما شعبين مستقلين لهما مصيرهما وتركيبهما الاجتماعية والسياسي. لقد
كان من الصعب على الحجاز أن يحتفظ باستقلاله لأن الحرمين في مكة والمدينة كانا
يستثيران شهية جميع الإمبراطوريات في الشرق الأوسط. وكان النظام
الاجتماعي،والسياسي والاقتصادي في الحجاز مشابهاً تقريبا للنظام في نجد التي لم
تشهد في الواقع السيطرة الأجنبية. إلا أن مكانة الحجاز كولاية للخلافة الأموية أو
العباسية، لمصر أو الإمبراطورية العثمانية، وكذلك الحج والتجارة والنشاطات الأخرى
المرتبطة به، قد جعلته يختلف عن جيرانه. ولذلك فعندما نتكلم عن "مجتمع"
نعني بالدرجة الأولى نجد، مهد الوهابية ودولة السعوديين، والمناطق المتاخمة لها من
الشمال والشرق.
بحران من الرمال -
صحراء النفود الكبرى في الشمال والربع الخالي في الجنوب - يرسمان على وجه التعريب
حدود نجد الشمالية والجنوبية. وتنبسط نجد من الغرب إلى الشرق من جبال الحجاز حتى
الخط الساحلي على الخليج. ويمتد الانحدار العام لأراضي البلاد من الغرب إلى الشرق.
ويتميز الطقس بتذبذب منتظم لدرجات الحرارة - من القيظ الساخن الجاف في الصيف إلى
البرد الشديد نسبيا في الشتاء. وغالبا ما تصادف سنوات جفاف مطبق. ولكن عندما تهطل
الأمطار تعتبر خيراً مخلوطا ببعض الشرور. فالسيول العارمة التي تجتاح الوديان تسفر
عن كوارث في بعض الأحيان. أشهر هذه الوديان وادي الرمة الذي يبدأ في الحجاز، شمال
شرعي خيبر، ويتجه إلى الشرق على مسافة 360 كيلو مترا تقريبا ثم يلتف نحو الشمال
الشرقي ويضيع بين الرمال ثم يظهر باسم آخر هو الباطن وينتهي قرب البصرة في العراق
على مسافة ألف كيلو متر تقريبا من "منبعه". ومن الوديان الشهيرة الأخرى
وادي حنيفة ووادي الدواسر ووادي نجران. والمياه الجوفية في الوديان أقرب إلى سطح
الأرض، مما يوفر أسباب الحياة هناك. وفي وادي حنيفة بالذات ظهرت عدة واحات كبيرة صارت
مهدا للوهابية وآل سعود.
وتقع في وادي
الرمة المدينتان الرئيسيتان في منطقة القصيم، وهما بريدة وعنيزة.
إن نجد مقسمة إلى
مناطق ذات حدود مائعة. ألا أن تلك المناطق نشأت تاريخياً ويتميز كل منها بوحدة
جغرافية معينة. وأهمها منطقة العارض التي يقطعها وادي حنيفة والتي تقع فيها الرياض
العاصمة، ومناطق المحمل وسدير والوشم. وأهم مناطق الجنوب الخرج المعروفة بآبارها
العميقة وأحواضها، والأفلاج التي ظلت باقية فيها قنوات الري الجوفية القديمة،
ووادي الدواسر، وفي الشمال تقع منطقتان هامتان هما القصيم وجبل شمر. في القصيم توجد
المدينتان المتنافستان بريدة وعنيزة الواقعتان على الطريق من البصرة إلى المدينة
المنورة، لذا كانتا على الدوام مركزين تجاريين هامين. وتقع منطقة جبل شمر جنوبي
صحراء النفود الكبرى، وهي أبعد قسم شمالي من أقسام نجد.
لقد حملت إلينا
مراجع القرن الثامن عشر مشاهد متفرقة من الحياة الاجتماعية في الجزيرة العربية.
لكن المعلومات الأحدث تمكننا من تصور اللوحة كاملة وأن بالخطوط العامة. أن تباطؤ
تطور القوى المنتجة وثبات البنيات الاجتماعية طوال القرون يهيئان لنا فرصة
"سحب" خصائص العلاقات الاجتماعية في الجزيرة العربية في القرن التاسع
عشر أو مطلع القرن العشرين على القرون السابقة.
كانت حياة السواد
الأعظم من سكان نجد والأحساء وكذلك الحجاز مرتبطة أساسا بنوعين من النشاط
الاقتصادي - الزراعة السيحية أو الإروائية في الواحات والرعي البدوي.
الزراعة
الإروائية. إن الطقس الجاف شبه الاستوائي في القسم الأكبر من الجزيرة يستدعي ضرورة
الإرواء الاصطناعي في الزراعة. وتنبجس إلى أسطح إللى أسطح مياه جوفية وفيرة بهذا
القدر أو ذاك في المناطق الشرقية من الجزيرة فقط. أما أغلبية المناطق الأخرى
فالإرواء ممكن بواسطة الآبار، وفي حالات نادرة تستخدم مياه الأمطار أو السيول. في
بعض الأحيان تبعد منابع المياه عشرات بل مئات الكيلومترات بعضها عن بعض. ولكننا
نصادف عدداً كبيًرا نسبياً من الواحات في نجد حيث تتواجد الطبقات الحاوية للمياه
على مقربة من سطح الأرض، وكذلك في الأحساء.
وتطلب حفر الآبار
جهداً كبيراً وأموالاً طائلة. وكانت الوسائل البدائية لرفع المياه تديرها الجمال
والبغال والحمير. بديهي إن ذلك يحدد الأراضي الزراعية المروية وحجم الإنتاج
الزراعي. فقد كانوا يروون فداناً واحداً على وجه التقريب (خمس الهكتار) من بئر
عادي بعمق عشرة أمتار تقريباً ترفع مياهه بواسطة شادوف أو ناعور أو غيره (1).
وكانت النخيل هي
المزروعات الرئيسية في المناطق الشمالية والوسطى من الجزيرة. ويستخدم التمر طعاماً
بمختلف الأشكال، وكان يمثل المحصول الزراعي الهام الوحيد الذي يسد حاجات الحضر
والبدو على نحو ما في سنوات "الرخاء".
وتأتي الحبوب -
الشعير والدخن والقمح والهرطمان - في المرتبة الثانية بعد التمور. ومعروف أن كمية
معينة من الحبوب كانت تنقل من نجد إلى الحجاز في يعض السنوات. وكانوا في بعض
الأماكن يزرعون الأرز والقطن والخضر والفواكه.
وكانوا يجنون في
الأراضي المروية محاصيل كبيرة نسبيا، إلا أن الحجم الإجمالي للمحاصيل غير كبير
بسبب محدودية الأراضي المفلوحة وقلة الأسمدة وبدئية الطرائق الزراعية. إن الجفاف
المتواصل الذي كتب مؤرخو الجزيرة والرحالة الأوروبيون عن مصائبه يعني استحالة ضمان
جني محاصيل ثابتة حتى في الأراضي المروية. وفي فترات الجفاف الطويل الأمد تجف بعض
الآبار نهائياً. وعند ذاك تهلك المزروعات وتتقلص مساحات الأراضي المفلوحة وتذبل
حتى النخيل وتغدو عقيمة ويعاني السكان من المجاعة فيموتون أو يرحلون عن ديارهم
زرافات ووحدانا. وعندما تهطل الأمطار من جديد يستأنف الفلاحون البذار ويشرعون
برعاية ما تبقى من نخيل، ولكن بعض الواحات يكون قد اختفى إلى الأبد.
وليس الجفاف وحدة
من خصوم المزارعين. فأن هطول الأمطار الغزيرة على ندرته يشكل خطراً عليهم أيضاً.
فيحدث أن تقشط السيول العارمة الطبقة العليا من تربة الحقول مع بذارها وزرعها،
وتُدمر المساكن وتتلف ثمار جهد السنين. كما أن الجراد غالباً ما كان يلتهم كل
النباتات فيحرم الناس من أسباب العيش. وفي الغالب لا تكفي المواد الغذائية أهالي
الواحات حتى موسم الحصاد الجديد.
وكانت الأوبئة
المتفشية (الكوليرا والطاعون) تجهز على قرى بكاملها.
إن ضيق القاعدة
الإنتاجية والعوامل الطبيعية الضارة بالزراعة (ناهيك عن العوامل الاجتماعية التي
سنتناولها فيما بعد) والطرق الزراعية البدائية وإنعزال الواحات بعضها عن بعض - كل
ذلك أدى إلى تباطؤ شديد جداً في تطور الاقتصاد. وان إمكانية تجديد الإنتاج الموسع
المنتظم كانت ضئيلة وغالباً ما يلغيها التراجع إلى الوراء.
كانت الزراعة في
الواحات تتميز ليس بجمع الجهود الاقتصادية بل بتشتيتها، وكان يسودها نشاط جماعات
صغيرة من الفلاحين أو عوائل منفصلة.ولم تكن هناك منشآت ري كبري أو مساحات زراعية
إروائية واسعة من شأنها إن تفرض على مجتمع الجزيرة في القرون الوسطى ضرورة التنظيم
المركزي. ولم يكن تشتت الواحات يتطلب توحيد المزارعين تحت لواء قيادة مركزية. لأجل
ممارسة النشاط الاقتصادي المشترك.
الري البدوي وشبه البدوي. كان
الرعي عند بدو الجزيرة يقسم إلى نوعين.
فالأعراب
"الحقيقيون" هم البدو الرحل الذين يمارسون في الغالب أو بالأساس تربية الإبل
التي تكاد تكون الماشية الأكثر شمولاً وإحاطة بين سائر المواشي والدواب. فإن لبن
الإبل الطازج أو المخمر والجبن والزبدة تستخدم في الطعام. وغالبا ما يعيش البدوي
أسابيع طويلة على اللبن ومشتقاته فقط. وفي حالات خاصة كانوا ينحرون الناقة ويأكلون
لحمها وشحمها. ويصنعون الأنسجة من وبر الإبل، ويستخدمون جلودها لمختلف الأغراض،
كما يستخدمون بعرها وقودا وبولها للغسل والعلاج. وكان الجمل الصبور المتحمل بشكل
مدهش هو وسيلة النقل التي لا يُستغنى عنها إطلاقاً في اجتياز البوادي القاحلة.
فالجمل في الصحراء، كما يقول فولني بحق، مهم
لدرجة تجعل اختفاءه منها يؤدي إلى اختفاء
سكانها جميعا(2).
بيد أن قول
المستشرق النمساوي شبرينغير: "البدوي طفيفي على الجمل" قد انتشر على
سبيل النكتة لا غير. إن عمل البدو من مربى الإبل عمل مرهق يتطلب مهارة وقدرة،
ويتوجب عليهم أن يعرفوا جيداً ويستخدموا المراعي ويقتادوا الإبل ويعالجوها
ويحلبوها ويجزوا وبرها. وكانوا يعلمون صغار الإبل على أداء مختلف الأعمال وعلى
الانصياع للركوب والأحمال. وكان البدو يحفرون الآبار ويعتنون بها، فالمسافات التي
تقطعها القوافل كانت تبلغ آلاف الكيلومترات.
وكانت حياتهم غاصة
بالحرمان. ففي الشتاء القارص أحيانا تهلك صغار الإبل وتجوع الماشية وتجف ضروع
النوق. وكان الحرمان والمخاطر يتربصان بالبدوي في الصيف القائظ أيضا، بحيث تنفد
حتى الاحتياطيات الشحيحة من التمر والحبوب فيقتات فقراء البدو على الجذور والثمار
البرية، ويهلك الكثيرون بسبب الجوع. وكانت المقابر تقع عادة قرب مواقف البدو
الصيفية(3).
أن الخيول العربية
الشهيرة التي هي موضع افتخار لدى أصحابها وحسد لدى سواهم، كانت تستخدم للأغراض
الحربية فقط وللاستعراضات. وفي رحلات القوافل الطويلة الأمد كانوا يأخذون دوماً
احتياطياً من المياه لأجل الخيول أو يسقونها لبن الإبل.
أما الرعاة الذين
يمارسون في الغالب أو بصورة أساسية تربية الأغنام والماعز فلم تكن لديهم إمكانية
كبيرة للترحل في الأماكن الخالية من المياه، ولذا كان ترحالهم لا يتجاوز بضع مئات
من الكيلومترات. وكان من اللزوم أن يعثروا على مصادر للمياه قرب المراعي.
أن المسافات غير
البعيدة نسبياً للترحال في الأماكن التي توجد فيها مصادر مائية ثابتة قد مكنت رعاة
الضأن من ممارسة الزراعة. فكانوا يقطعون الترحال في شهور الأعمال الزراعية لكي
يعتنوا بالنخيل أو بحقول الحبوب. وغدا العمل الزراعي رئيسيا بالنسبة لقسم من رعاة
الضأن.
ونجد عند غ. فالين
وصفاً لهذا النوع من اقتران العمل الزراعي
بالرعي البدوي في شمال نجد: "بسبب العرى الوثقى التي تربط بين فخذي
الشمريين نجن أن سكان القرى ما يزالون يتشبثون لدرجة معينة بعادات وتقاليد الحياة
البدوية، في حين يزاول البدو أعمالاً تعتبر عادة أموراً غير لائقة بهم. فأن قسماً
كبيراً من الأولين يترحلون في الربيع مع خيولهم وقطعانهم في البادية ويعيشون بعض
الوقت في بيوت الشعر، في حين تمتلك عوائل بدوية كثيرة بسابين النخيل وحقول
الحبوب…التي تفلحها بنفسها"(4). ويقول أ. بوركهاردت أن أحد أفخاذ قبيلة حرب الحجازية
"يمتلك عدة مشارب متواجدة في بقعة خصبة يزرعون فيها الهرطمان والشعير. ولكنهم
يعيشون في بيوت الشعر ويقضون اكبر قسم من العام في البادية"(5).
ولم تكن توجد بين
رعاة الإبل الرحل ورعاة الضأن شبه الرحل والحضر حدود معينة فيما يخص النشاط الاقتصادي عادة. فالكثيرون من البدو رعاة الإبل
بدأوا بممارسة تربية الضأن. واستقر قسم من البدو الرحل فصاروا حضراً. وفي الوقت
نفسه جرت عملية معاكسة هي تحول الحضر إلى بدو. إن التوازن غير المستقر بين البدو
والحضر كان يتوقف على الظروف الطبيعية والتاريخية في الجزيرة العربية، وما كان
بوسعه أن يتجاوز أطراً معينة. وكان فائض السكان الرحل ينتقل إلى الشمال. وإذا
أستقر هناك فهو يقطع الصلة نهائياً، على الأكثر، بماضيه البدوي. وليس من قبيل
الصدفة أن يقال إن العراق قبر الأعراب(6). ويشمل هذا القول سورية بقدر ما. لذلك
ففي إطار الجزيرة العربية كان هناك توازن تلقائي بين التحضر والبداوة.
يمكن لتقسيم سكان
الجزيرة إلى بدو من رعاة الإبل وشبه بدو من رعاه الضأن أن يتوافق مع تقسيمهم إلى
قبائل. وفي بعض الأحيان يمارس فخذ من القبيلة تربية الإبل، ويمارس فخذ آخر تربية
الضأن والماعز، بينما يمارس الفخذ الثالث الزراعة كالحضر.
وكان الاقتصاد
البدوي يعتمد على هطول الأمطار أكثر من اعتماد الاقتصاد الحضري عليه. فعندما
تتساقط الأمطار بعد فترة تكتسي السهب والبوادي بأعشاب ريانة وتتسمن القطعان وتزدهر
حياة البدو الرحل. أما جفاف الصيف وبرد الشتاء والأوبئة الحيوانية فتؤدي إلى هلاك
أعداد كبيرة من الماشية وإلى المجاعة وانقراض البدو. وإمكانيات تجديد الإنتاج
الموسع والحصول على منتوج زائد أضيق في الرعي البدوي مما هي في الواحات.
الحرف
والتجارة. كانت الحرف
والصنائع المنزلية عند الفلاحين الحضر تسد حاجاتهم المحدودة جداً. لقد كانوا
يضفرون السلال والأكياس والحصر من سعف النخيل
ويفتلون من أليافها الحبال
والأعنة، ويستخدمون جذوعها في صنع الأدوات الزراعية وفي بناء المساكن،
وكانوا يصنعون الأواني الخزفية البدائية والأنسجة الصوفية والقطنية.
وفي الوقت نفسه
يصل إلى السوق قسم كبير من منتوج البدو الحرفي الأقل تطوراً (الأنسجة الصوفية
الخشنة والمصنوعات الجلدية).
وفي الواحات
الكبيرة تطورت بعض الشيء الصنائع الحرفية المختصة. وكان بين الصنائع حدادون
ونحاسون ولحامون وصاغة ونجارون وصناع سلاح وأسطوات في صنع التحف الخشبية وبناة
وعمال طلاء وأخصائيون في صنع العجلات للنواعير واسكافيون وخياطون ومطرزون ومفصلون
وصناع هواوين المرمر لدق القهوة وضافرو الحصر(7). وكان الصفارون وصناع الأسلحة
أكبر فئة من الحرفيين. وقد أًطلق لفظ "الصناع" بالمعنى الضيق للكلمة عليهم
بالذات. وبالمناسبة فأن صناع الأسلحة كانوا يمارسون في الغالب تصليح الأسلحة
المستوردة. ونشأ تخصص معين لدرجة ما في الإنتاج ببعض المناطق. إلا أن من الصعب
تحديد هذا التخصص قبل القرن الثامن عشر. ومن المعروف، مثلاً، إن الناس "في
نجد كانوا ينسجون الأقمشة القطنية التي تستخدم في خياطة ألبسة السكان وفي مبادلتها
بالأصواف والماشية مع القبائل"(8)وفي بعض المناطق تطور صنع الأنسجة الصوفية وخياطة العباءات منها
(اشتهرت الأحساء بها خصوصا) وكذلك أقمشة بيوت الشعر.
ولم يصادف وجود
ورش ضخمة في الجزيرة العربية. وفي حالات نادرة فقط شكل الصناع ما يشبه التنظيمات
الحرفية.
كان قسم من الصناع
يترحل مع قبائل البدو. فكان بعضهم يصنع حدوات الخيل ويصلح السلاح أو الأدوات
المنزلية وبعضهم يعالج الماشية إذا مرضت. وكان الصناع الرحل أنفسهم يمارسون تربية
الماشية.
كان من الصعب
العثور في الجزيرة العربية على مدينة بالمعنى الكامل للكلمة حيث لا تعتبر الزراعة
المصدر الرئيسي لمعيشة أغلبية سكانها(9). وكانت مكة تمثل استثناء واضحاً من
القعدة. وفي أغلب الأحوال كان مفهوم "الواحة الكبيرة" ومفهوم
"المدينة" متطابقين في الجزيرة العربية. وكانت عاصمة الدولة السعودية المرتقبة
- الدرعية مكونة من عدة قرى متقاربة.
ولم تكن الصنائع
تحدد ملامح الحياة الاقتصادية في المدن - الواحات في الجزيرة العربية. وكان دورها
الهام في حياة مجتمع الجزيرة مرتبطاً بالتبادل التجاري المكثف ونابعاً من التقسيم
العميق للعمل بين الزراع والرعاة والرحل.
وكان اقتصاد البدو
الرحل يتميز بطابع يعوزه الاكتفاء الذاتي، وكان اقتصاد الزراع أفضل قليلًا من هذه
الناحية. ومع أن بعض البدو غالباً ما كانوا مضطرين إلى أن يقتاتوا أساساً على لبن
الإبل، فأن السواد الأعظم منهم ما كان قادراً على الاستغناء عن المنتجات الزراعية
والتمور والحبوب، كما كانوا بحاجة إلى المصنوعات الحرفية..وقد وزع بوركهاردت
مصروفات البدوي الموسر بالشكل التالي: أربعة أحمال من القمح - 200 قرش، شعير
للفرس- 100 قرش، ألبسة-200 قرش، بن وتبغ وحلويات ولحم غنم إلى 200 قرش. ويُشكل ذلك
بمجمله ما يعادل 35 _ 40 جنيهاً استرلينياً(10). ويبدو أن عدم ذكر التمور في هذه
القائمة يعود إلى أن البدو الأثرياء يمكن أن يحصلوا عليها ليس عن طريق التبادل
التجاري، بل بشكل أتاوة من الزراع الخاضعين لهم. ويبدو أن البدو البسطاء كانوا
يقتنون أيضاً الكثير من البضائع التي ذكرها بوركهاردت وأن بكميات أقل.
وفي الصيف كان
البدو يتقاطرون على الواحات الكبيرة والمراكز التجارية فيعرضون الماشية والأصواف
والسمن والجبن لمبادلتها بالتمر والحبوب والأقمشة والحصر والحدوات والأسلحة
والبارود والرصاص والمواد الطبية والبن والتبغ. وكان قسم من التجارة يجري عن طريق
التبادل العيني. إلا أن مؤرخي الجزيرة يذكرون على الدوام أسعاراً بالتعبير النقدي
لمختلف البضائع، مما يدل على تطور التداول النقدي في الجزيرة العربية آنذاك. إن
نزوح البدو الرحل الصيفي إلى المراكز التجارية يعتبر بالنسبة لهم وللحضر أعظم
أحداث السنة(11). ففي الأسواق الصيفية كان يجري الجزء الأساسي من التبادل البضاعي
بين البدو والحضر.
ولم يكن البدو
يتاجرون في الواحات القريبة فقط، بل كان نطاق صلاتهم التجارية أوسع بكثير،ويتجاوز
إطار شبه جزيرة العرب. كانت الإبل في تلك الحقبة الباب الأساسي في صادرات الجزيرة
حيث كانت تحظى بطلب واسع. كانت الإبل تُستخدم كوسائل للنقل ليس بالنسبة للجزيرة
وحدها، بل للبلدان الأخرى في الشرق الأوسط. وكانت الجزيرة تُصّدر الأصواف والسمن
والخلود والخيول الأصيلة أيضاً. وساعدت التجارة الخارجية، بقدر أكبر من التجارة
الداخلية، على تطوير العلاقات البضاعية النقدية في شبه جزيرة العرب.
وكان يصل إلى شمال
ووسط الجزيرة، وخصوصاً إلى الحجاز، الأرز المصري والهندي والقمح والشعير من مصر
واليمن. وكانوا يستوردون البن من اليمن والتوابل من الهند والفواكه المجففة من
سوريا والسكر من مصر كما كانوا يستوردون الأسلحة والحديد والنحاس والرصاص لصنع
الخراطيش والكبريت لصنع البارود(12).
ويتحدث مؤلف
"لمع الشهاب" فيقول: "الكفّية (الكوفية) وصناعها في نفس نجد قليلون
بل أكثر ما يلفيهم منها من جانب العراق ومن الأحساء والقطيف… والعباة تصنع في
بلدان نجد لكن قليلا وأكثر مجيها من ملك العراق ومن الأحساء… وقد تلبس نساء
الأغنياء منهم الحرير الهندي الذي يبلغ كل ثوب منه قيمة عشرين ريالا وأكثر بألوان
عديدة من أحمر وأصفر وأخضر… فتلبسه نساء المتمولين وأما صيغهم في أمر حلى النساء
فذاك شيء لا يُضبط بالعدد لأنهم يبالغون في ذلك جدا حتى الفقراء منهم لا بد أن
يصيغوا شيئا من الزينة الذهبية لنسائهم قطعاً… وأما الرجال فيزينون سيوفهم بكثير
من الفضة وكذا بنادقهم يلبسونها من أطواق الفضة كثيراً وهكذا خناجرهم ورماحهم
يطيبونها بالفضة…"(13)..
ويضيف المؤرخ
قائلا: "ومن صفات أهل نجد التجارة. فأن كثيرا منهم تجار يسفرون إلى أطراف
الروم وبقية جزيرة العرب ولم يذهبوا بسلعة من نفس نجد إلى ملك الروم وإنما يحملون
معهم الدراهم النقدية خاصة ويأتون من حلب أو الشام بالبز الحرير وغيره وكذا
بالنحاس ظروفاً وغيرها والحديد والرصاص…. وقد يسرون أهل نجد بخيل عناف إلى أطراف
ملك الروم بالتجارة لأن خيولهم مرغوب فيها عند الرومان لشد علوها وهكذا يجلب أعراب
نجد إبلاً كثيرة إلى حلب والشام للبيع.
وقد قال لي بعض
الناس أنا شاهدت تجار وأهل نجد أهل القصيم منهم يبيعون تمراً في دمشق الشام وعرفت
أنهم يجلبونه من بلادهم وقد يسافر أهل نجد إلى أرض مصر لكنهم لم يشتروا منها إلا
السلاح والمرجان واعلم أن تجارتهم في بقية بلاد العرب كذلك غالبا ما يذهبون به إلى
هذه النواحي هو الدراهم ويأتون من اليمن بالقهوة كثيراً والورس والميعة واللبان
واعلم أن ليس لأجل تجار أهل نجد خانات معينة للبيع والشراء بل جميع أموال التاجر في
بيته… وأما أهل بيع القليل منهم فلهم دكاكين وليس سوقهم مسقف مثل سوق أهل فارس ولا
ضيق كضيقه بل سوقهم مكشوف لا سقف له وواسع الطريق جداً بحيث تمر القوافل محملة فيه
وأعلم أن أجناس الهند من سكر وبلوج وهيل وقرنفل وقرفة وفلفل وكركم ونحو ذلك
الأجناس كلها مرغوبة عند أهل وأكثر هذه يجلبونها من بنادر اليمن وقلما يأتون به من
ساحل عمان ويأتيهم من طريق القطيف والبحرين شيء كثير…
ولهم اشتياق عظيم
للسفر وهمة غربية وطاقة عجيبة بحيث يمكن الشخص منهم أن يتغرب عن أهله ووطنه مدة
عشرين سنه أو أكثر وأن يسافر عن بيته إلى ملك الصين مثلاً كما أن كثيراً من تجارهم
اليوم جلسوا ونزلوا في حلب ودمشق الشام ومنهم من هو في مصر… وأيضا من جملة أحوال
أهل نجد الحضر منهم أنهم يتعاطون الزروع كثيراً ويستعملون غرس الأشجار والنخيل
ويتعبون أنفسهم عليها جداً وكذلك لأهل الحضر منهم غنم وبقر وإبل وأن لم تكن كثيرة
لكن لا بد لهم منها بقدر ما يسع المعاش لأجل الحليب واللحم والركوب.
وأما أحوال نجد
فأنهم أهل بيت شعر خاصة ولا لهم غير المواشي شيء ولا يردون بأهاليهم البلاد أصلاً
وما يأتي الرجال منهم لأجل التجارة قحطوا فأنهم يدخلون المدن والقرى
بأهاليهم…"(14).
وكان البدو يقدمون
الإبل والأدلاء لأجل القوافل التجارية في الجزيرة العربية ويشاركون في تكوين
القوافل خارج الجزيرة.
وكانت توجد في
شمال الجزيرة اتحادات تجار الإبل وأدلاء القوافل المنتسبين إلى قبيلة بني عقيل.
وقد استقروا في مختلف أرجاء نجد، إلا أن بعضهم أقام في العراق. وفي أواخر القرن
الثامن عشر كانوا وحدهم يتمتعون بحق تشكيل القوافل التي تعبر بادية الشام وقيادتها
وحمايتها(15).
وكان التجار قد
جمعوا ثروات طائلة. صحيح أن البيوتات التجارية في نجد كانت أقل شأنا من تجار
الجملة الحجازيين. ففي جدة بلغت رساميل تجار البن والبضائع الهندية ما يعادل عشرات
بل مئات الآلاف من الجنيهات الإسترلينية. واتسم الحج إلى مكة والمدينة بأهمية
فائقة للجزيرة العربية عموماً وللحجاز خصوصاً. وكانت قوافل الحجاج الرئيسية تمر من
شمال الحجاز قادمة من مصر والشام عبر المناطق الشمالية من نجد مع ميلان نحو الشمال
أو الجنوب على اختلاف السنين يمتد طريق الحج الإيراني العراقي من أن أهميته كانت
أقل من أهمية طريقي مصر والشام. والطريق الرابع يأتي من موانئ الخليج ومن عمان عبر
وسط نجد والحجاز، أما الطريق الخامس فيأتي من اليمن إلى مكة. ويقترن الحج
بالتجارة، فقد كان الحجاج يجلبون مختلف أنواع البضائع. وقد أمن نقل الحجاج أسباب
العيش للكثير من البدو.
عناصر
العلاقات القبلية العشائرية في الواحات. كان
قسم كبير من السكان الحضر في الجزيرة العربية يعتبرون أنفسهم من هذه الأفخاذ
والقبائل أو تلك. وكان أبناء القبيلة الواحدة من بدو وحضر على ارتباط وثيق فيما
بينهم يمكن أن يظل قائماً طوال حياة أجيال عديدة. وفي بعض الأحيان كان أبناء
القبائل المختلفة يعيشون في أحياء منفصلة
في الواحات نفسها.
وكان الفلاحون
وأهل المدن الأصليون يعتقدون أن أنسابهم تغوص عميقاً في انساب العرب.
وتشكل عدة عوائل
كبيرة أو صغيرة جماعة تسمى الحمولة. وكتب دوتي يقول "إن الجماعة تحالف طبيعي
لاستثمارات تربط بين أفرادها صلات القربى ولهم جد واحد. وهم متوحدون فيما بينهم
تحت راية عمدتهم ورب الأسرة كله الذي يرث سلطة مؤسس الجماعة. وفي إطار هذه الأواصر
والتقسيمات العائلية يمكن وجود الحياة المترابطة الآمنة في بلد خاو أو خال من
السلطة. ويعتبر الغرباء المنتسبون إلى الجماعة حلفاء لإصدقائهم . ويعتبر المعتوقون
زبائن للعائلة السائدة … وكلهم من "أبناء عمومة" الجماعة المعنية… إن
الجماعات في الواحات هي روابط يقطن أفرادها في عدة أحياء أو حارات. وعندما يتشاجر
أبناء المدن من جماعات مختلفة يحاول زعماؤهم المصالحة فيما بينهم، مع أن أبناء
المدن في الواحات الكبيرة ذات التسيير الذاتي، مثل عنيزة، يراجعون الأمير المتربع
في المجلس لأجل حل الخلافات بينهم… وقبل أن تهيئ السلطة الوهابية الوئام المدني
كان سكان المراكز الكبيرة في باطن الجزيرة في نزاع دائم: جماعة ضد جماعة وسوقاً ضد
سوق"(16) والشخص الذي يعيش خارج الجماعة وحيداً لا نسب له إنما يعاني من
صعوبات كبيرة، فلا جماعة تحميه من التطاولات على حياته وأمواله.
وكانت عوائل
الأمراء والشيوخ تتميز بصلات القربى الوثقى خصوصاً، مما يمنحها وزنا ونفوذاً
كبيرين. وغالباً ما توحد بينها الملكية المشتركة للأرض والعائدات.
وقد ضعف التنظيم
القبلي العشائري لدرجة كبيرة لدى السكان الحضر ما عدا قسم منهم ممن انتقلوا إلى
حياة الاستقرار الحضرية مؤخراً ولم يقطعوا الصلات القديمة بالكامل. والشيء الوحيد
الباقي فعلا هو العائلة الكبيرة والمجموعة غير الكبيرة نسبياً من ذوي القربى والتي
تمثل الخلية القبلية المتبقية التي غالباً ما تنعت في مطبوعاتنا الاثنوغرافية
بالخلية الأبوية (العشائرية).
وكانت العائلة
الكبيرة تمتلك الأرض والأموال الأخرى بصورة مشتركة وتمارس تسيير استثمار غير موزعة
وذلك بإشراف الأب.
وبعد وفاة الأب
يجري تقسيم التركة. وكان للابن البكر حقوق تفضيلية في الميراث.
وظلت باقية في بعض
مناطق الجزيرة العربية أشكال مختلفة للملكية المشاعة لأراضي أفخاذ معينة. وفي
الأماكن التي يجري الإرواء فيها من مصادر مائية كبيرة
يمتلكون المياه
ويستخدمونها بصورة مشتركة. وفي بعض الأحيان كانت المراعي من الملكية المشاعة
للحضر. وإذا لم يكن سكان الواحات يمتلكون مراعي خاصة بهم فهم مضطرون إلى رعي
الماشية في الأراضي العائدة لقبائل البدو الرحل(17).
أن عادات التعاضد
العشائري كانت موجودة بقدر ما عند السكان الحضر. وكان المزارعون ينفقون بصورة
مشتركة على رعاة ماشيتهم وحراسها ويلتزمون بعادة كرم الضيافة. وظلت باقية تقاليد
عونة الجيران. ويصادف أن لا يحصد مالكو الحقول السنابل الساقطة إذ يتركونها
للفقراء. وفي بعض الأحيان يخصص للفقراء قسم غير محصود من الحقل أو عدد من النخيل
المثمرة(18). ألا أن العلاقات الاجتماعية في الواحات لا تضبطها هذه الروابط
العشائرية.
التقسيم
الطبقي في الواحات. بنتيجة عملية
طويلة معقدة في المجتمع الزراعي في الجزيرة العربية خلال القرن الثامن عشر وقع قسم
من الأراضي في حوزة الوجهاء من بين البدو وكذلك الذين تحولوا إلى حضر من زمان في
الواحات. مثلاً، كان حاكم واحة العيينة في النصف الأول من القرن الثامن عشر، يمتلك
أرضاً في الأحساء ويستلم منها عائدات(19). وكانت بساتين النخيل والجنائن والحقول
ملكاً للفقهاء أيضاً. والمثال على ذلك أملاك مؤسس الوهابية محمد بن عبد الوهاب(20)
ولكننا لا نجد عند مؤرخي الجزيرة والرحالة الأوربيين إشارة إلى أن الملكية
العقارية الكبيرة كانت سائدة أو منتشرة في نجد والحجاز والأحساء.
فقد أشار بلغريف
في أواسط القرن التاسع عشر تقريباً إلى أن الأرض "نادراً ما كانت في حوزة
الملاك العقاريين الكبار مثل الإقطاعيين الهنود وكبار المزارعين
الإنجليز"(21).
إن المزارعين
الصغار المكبلين بالديون كانوا يفقدون ملكية الأرض التي تنتقل إلى المرابين
الأثرياء والتجار. وكتب دوتي عن الفلاحين "أن الدائنين الأثرياء كانوا
يلتهمون الفلاحين مع حصتهم من الأرض (بقدر لا يكاد يقل عما في مصر والشام)،
ويكبلونهم لأمد طويل بالديون الربوية الجائرة"(22). ويبدو أن هذه الظاهرة
كانت منتشرة كذلك عشية ظهور حركة الوهابيين في القرن الثامن عشر، ولعل ذلك هو سبب
إصرارهم على شجب الفوائد الربوية.
وكان الملاك
العقاريون يقدمون قطع الأرضي إلى الفلاحين على سبيل الإيجار بمختلف الشروط.وكان
الطريق الرئيسي للحصول على الريع هو المحاصة العينية التي تحدد مقاديرها بموجب
العادات والتقاليد.
وكان الاستيلاء
على مصادر المياه الكبيرة والصغيرة قد مكن أصحابها من بيع الماء وبالتالي الحصول
على حصة من ريع الأراضي المروية. ولم تكن لدى الكثير من الفلاحين دواب عمل ولم يكن
بوسعهم الاستفادة من الآبار أو المصادر العامة وفلاحة الأرض بصورة مستقلة، فكانوا
مضطرين إلى استئجار الدواب.
وكانت مختلف
الأتاوات المفروضة على السكان تعود بمداخيل كبيرة على الوجهاء. ومن المعروف،
مثلاً، أن الأمير الذي يتمتع بالسلطة السياسية كان في أواسط القرن الثامن عشر يجبي
ضريبة ما من السكان(23). وكانت الرسوم المفروضة على القوافل التجارية قد أدت كذلك
إلى إثراء الوجهاء بالدرجة الأولى. لقد كان حكام الحضر الأقوياء يملئون خزائنهم
أثناء الغزوات الناجحة على الواحات المجاورة وعلى قبائل البدو الرحل وشبه الرحل،
ما جعل الغزوات المصدر الرئيسي للمداخيل بالنسبة للعديد من الإقطاعيين.
وتبين عائدات شريف
مكة أساليب إثراء الوجهاء من حكام الواحات. فقد كانت الرسوم الجمركية في جدة تعود
عليه بـأكبر المداخيل، وكان يشارك في التجارة المربحة التي تمر عبر هذه المدينة،
كما كان يمتلك سفناً بحرية ويبيع المواد الغذائية إلى الحجاج. وقد فرض ضريبة نفوس
كبيرة على الحجاج الفرس، وكان يستلم الهدايا والهبات من الحجاج السنة الأثرياء.
وكان يستحوذ على قسم من النقود التي تأتي من الأستانة إلى مكة بمثابة هدية من
السلطان العثماني لأهالي مكة المكرمة. وترد إلى خزينة الشريف عائدات الملكية
العقارية من الطائف الواحات الأخرى وكذلك من الدور العائدة له. ويعتقد بوركهاردت
أن الدخل السنوي لشريف مكة كان يعادل 350 ألف جنيه إسترليني(24). بديهي أن الشريف
كانت له مكانة خاصة في الجزيرة العربية إلا
أن الأمراء الآخرين كانت لهم بعض أبواب الدخل المذكور أعلاه وان بقدر أقل.
ولم تتطور في
الجزيرة أشكال ربط الفلاح الإعرابي بالأرض
مباشرة. فقد أشار نيبور إلى "إن الفلاح المتذمر من سيده كان حراً في
تركه والانتقال إلى مكان آخر"(25). إلا أن عدم إمكان الاستغناء عن حماية شخص
قوي أو فخذ قبلي في ظروف انعدام الأمان قد أدرى إلى ظهور تبعية الفلاح شخصياً
لأمير الواحة مع أن هذه التبعية كانت
ضعيفة جداً.
وكانت توجد في
واحات الجزيرة دون شك، في الحقبة موضوع البحث، علاقات طبقية من طراز ما قبل
الرأسمالية، ويبدو أنها نشأت لقرون عديدة قبل القرن الثامن عشر. ولكننا عندما نقول
إنها علاقات "إقطاعية" علينا أن
نستدرك ونذكر أن البنية الاجتماعية للسكان الزراعيين في الجزيرة التي هي على
العموم من الأطراف المتخلفة في الشرقيين الأدنى والأوسط، كانت تكرر بشكل بدائي
العناصر الأساسية للتنظيم الاجتماعي في البلدان الأكثر تطوراً في هذه المنطقة.
لذلك فعندما نستخدم مصطلح "الإقطاعية" في تحليل مجتمع الجزيرة نعني بها
الإقطاعية الملازمة لبلدان الشرق الأوسط.
العلاقات
القبلية العشائرية داخل قبائل البدو الرحل. ورد في "لمع الشهاب" تعداد لقبائل البدو
الرحل في وسط وشرق وشمال وغرب الجزيرة في القرن الثامن عشر ومطلع(26)، الأمر الذي
لانجده في المصنفات التاريخية الوهابية في تلك الحقبة. ويرى مؤلف "لمع
الشهاب" أن أكبر قبيلة عربية (تذكرنا باتحاد القبائل) هي قبيلة عنزة التي تضم
ثلاث مجموعات في كل منها حوالي60 ألف رجل. ويقصد مؤلف الكتاب بهذا الرقم الخيالة
القادرين على حمل السلاح. (وذكر منجين أن نسبة الخيالة إلى النساء والأطفال
والعجزة والشيوخ هي الثلث(27)، وذلك يمكننا من تقدير العدد الإجمالي لأفراد عنزة بأنه
حوالي نصف مليون نسمة). واشتهرت عنزة بفن الفروسية. وكانت تقاليد العونة والنخوة
والتعاضد عندها أقوى مما عند القبائل الأخرى. وعندما يرتحل قسم من عنزة أثناء
الجفاف من نجد إلى المناطق شبه الصحراوية في الشام فأن أبناء هذه القبيلة المقيمين
هناك يساعدون القادمين.
ويقول مؤلف
"لمع الشهاب" أن القسم الأكبر من عنزة خضع للسعوديين بدون حرب. وذلك أمر
كبير الدلالة. فأن الجهود التوحيدية المركزية لأمراء الدرعية كانت، على ما يبدو،
تستجيب لمصالح هذه القبيلة المنتشرة في قسم كبير من شبه جزيرة العرب.
وكان لدى قبيلة
شمر التي تقطن شمال نجد وتعتبر نفسها من أبناء قحطان ومن قبائل طي عشرون ألف فارس. وكان لدى قبيلة حرب
الحجازية 30 ألف رجل مسلح من البدو والحضر.
وكان لدى قبيلة
مطير النجدية التي اشتهرت بفرسانها وحماسها 14 ألف فارس ، ولدى قبيلة عتبية (من
القحطانيين) التي قطنت نجد والحجاز 40 ألفا، ولدى قبيلة عتيبة البقوم 4 آلاف ولدى
قبيلة سبيع المخلصة للسعوديين كل الإخلاص 12 ألفا، ولدى قبيلة السهول 110 آلاف.
وفي جنوب نجد كان
لدى قبيلة الجبارة قحطان 50 ألف فارس، فلم يتجرأ أحد على التحرش بها. وانضم
القحطانيون إلى السعوديين بشرط تأييد الدرعية لغزواتهم على تهامة ومرتفعات اليمن
وحضرموت.
وكان لدى قبيلة
العجام خمسة آلاف فارس. وكانت هذه القبيلة قد ارتحلت في القرن الثامن عشر من منطقة
نجران إلى الشمال فازداد تعدادها وتَقّوت على ما يبدو. وفي الثلث الأخير من القرن
التاسع عشر قدمت إلى سوح القتال في شرق الجزيرة آلافاً عديدة من المحاربين.
ويقول مؤلف
"لمع الشهاب" أن بني مرة أو آل مرة الذين كانوا يقطنون أطراف أدهشت هذا
المؤرخ العربي فلم يجد بداً من القول إنهم
كانوا قادرين على أن يقتاتوا بلبن الإبل وحده ويشربوا الماء المالح تقريباً.
وأخيرا نجد 30 ألف
فارس عند خالد أسياد شرق الجزيرة في أواسط القرن الثامن عشر ومنافسي إمارة الدرعية
في عهد نهوضها.
ومما لا ريبه فيه
أن الأرقام تقريبية بعيدة عن الدقة. ولم يبد المؤرخ اهتماماً بالقبائل غير الكريمة
المحتد ولا المملوكين والمعتوقين والصناع الذين سنتحدث عنهم فيما بعد. إلا أن
تعداد القبائل يقدم لنا لوحه إحصائية، وأن افتراضية، لمجتمع البدو في الجزيرة
العربية آنذاك (ما عدا اليمن وعمان). وقد بلغ العدد الإجمالي للخيالة البدو حوالي
400 ألف شخص، الأمر الذي يشير إلى أن عدد البدو الرحل في الجزيرة يكاد يكون 2,1 -
1,5 مليون شخص.
كانت العائلة هي
أصغر خلية في القبيلة. وفي بعض الأحيان كانت مجموعة من ثلاث أو أربع عوائل مترابطة
بصلة القربى تمتلك "أموالاً غير مجزأة بهذا القدر أو ذاك"(28). ولكن هذه الظاهرة كانت نادرة. فأن حاجات حياة الترحل ورعاية
الماشية ورعيها لم تكن تستدعي في ظروف الجزيرة توحيد جماعات كبيرة من الناس لأجل
العمل المشترك.
وكانت عدة عوائل
من ذوي القربى الحميمة أو البعيدة، الذين يتذكرون أو يعرفون جداً مشتركاً
لهم،تُشّكل جماعة قبلية صغيرة.
وكانت الجماعة
القبلية الكبيرة تشمل عوائل متوحدة بصلة قربى متباعدة. وأكثر أسماء تلك الجماعة
انتشاراً العشيرة. كان أفراد العشيرة مترابطين فيما بينهم بالتزامات وحقوق صارمة
للتعاضد والمسئولية المتبادلة. ويرأس العشيرة شيح أو قائد عسكري أحياناً - عقيد.
وكان للعشيرة كذلك عارف ومفسر لأصول العادات والأعراف. ولدى كل عشيرة اسمها الخاص
وطمغتها وصيحتها في الحرب وأحياناً مقبرة خاصة بها. ويمكن للعشيرة أن تقبل انتساب
بعض الغرباء إليها.
وبعد ذلك يأتي
الفخذ أو البطن وهو مجموعة من العشائر المترابطة بعلاقات نسب مفتعلة أو حقيقية
وبتحالف سياسي أو حربي.
والدرجة التالية
من البنية الاجتماعية للبدو الرحل هي القبيلة التي لها أراضيها وبعض خصائص اللهجة
في لغتها وسمات معينة لحياتها المعيشية وثقافتها ومعتقداتها، كما لها طمغتها
وصيحتها. وكان أبناء القبيلة يعتبرون أنفسهم أقرباء متحدرين من جد أو سلف واحد.
ويترأس القبيلة شيخ وفيها أيضاً عقيد وعدد من العِّراف المتضلعين في معرفة العادات
والتقاليد.
وكان تكتل القبائل
يجري حسب صلة القربى وكذلك لاعتبارات سياسية. كما كانت العلاقات بين القبائل
المترابطة بصلة القربى تضبط حسب العرف(29).
وظلت الظواهر
الفعلية الملازمة للمجتمع العشائري باقية داخل قبائل البدو الرحل. وفي مقدمتها
ملكية القبيلة الجماعية للمراعي (الديرة). وكانت حدود الأراضي العائدة للقبيلة
مرسومة بتنشين دقيق. ويقول فولني "أن كل قبيلة من هذه القبائل تستأثر بمنطقة
معينة تصبح ملكاً لها. وتختلف القبائل من هذه الناحية عن الشعوب الزراعية بأن
أراضيها يجب أن تكون أوسع بكثير لكي تؤمن العلف للقطعان طوال العام. وتشكل كل من
هذه قبائل مخيماً أو عدة مخيمات موزعة على المنطقة. وتستبدل مواقفها على الدوام في
هذه المنطقة حالما تلتهم القطعان الكلأ حول المخيمات"(30).
كان قسم كبير من
الآبار وأحواض الماء في السهوب ملكا لقبائل البدو. ويقول بوركهاردت "أن أغلبية
الآبار في أعماق البادية وخصوصاً في نجد ملك مطلق لقبيلة ما أو لأشخاص حفر أجدادهم
تلك الآبار… وعندما تنفد مياه الأمطار في البادية تنصب القبيلة خيامها قرب بئرها
ولا يسمح لأي بدو آخرين بإرواء إبلهم هنا"31).
ويمكن للقبائل
والأفخاذ والبطون أن تمتلك بصورة جماعية الأراضي المفلوحة في الواحات(32). وكان
البدو يقدمون تلك الأراضي على سبيل الإيجار إلى الزنوج المعتوقين أو الفلاحين
العرب ويستلمون لقاء ذلك حصة من الغلة ويوزعونها على العوائل (33).
وكان قسم كبير
من جياد الأنسال ملكاً عاماً
للقبيلة، ولكن الأفراس تعتبر على الدوام ملكية خاصة لأصحابها(34).
كانت لدى البدو
الرحل عناصر كثيرة من التعاضد العشائري في
الأمور الاقتصادية مثل جز الأغنام الذي
يتم تقديم الطعام أثناءه. وكان أبناء القبيلة الواحدة يساعدون بعضهم بعضاً في
المناسبات العائلية - الزفاف والختان واستقبال الضيوف.
واشتهر البدو بكرم
الضيافة. وكانوا يعتبرون الإستهانة بهذه العادات عيباً شنيعاً. وكتب فولني يقول:
"إذا لمس الغريب، وحتى العدو، خيمة البدوي يحصل على الحصانة الشخصية أن صح
القول. وحتى أخذ الثأر المستحق يعتبر عاراً لا يمحى إذا جرى على حساب حسن الضيافة.
وإذا وافق البدوي على اقتسام رغيف العيش مع الضيف فما من قوة في العالم ترغمه على
خيانة ضيفه"(35).
وتتسم بأهمية
بالغة المعونة المادية التي يقدمها أبناء القبيلة لمن تهلك قطعانه بسبب الجفاف أو
الأمراض ولمن يفقد أمواله أثناء غزوات النهب. فالأموال المضيعة يعوض عنها بالماشية
والنقود والأدوات المنزلية أو مستلزمات الخيام. والعوائل التي تصاب بكارثة تتلقى
المعونة من أقاربها، بينما تتلقى القبيلة المتضررة المعونة من أفرادها أو من
القبائل الأخرى المتحالفة معها. وكتب دوتي يقول: مهما كان الشخص الذي تنهب أمواله
فأن ذلك يعتبر "مصيبة عامة للقبيلة كلها، ولا ينبغي أن يظل أحد ممن فقد
ماشيته فقيراً معوزاً. والشيخ الحاكم يلزم جميع أفراد القبيلة بأن يعوضوا
للمتضررين في غضون يوم أو يومين عن كل الماشية التي فقدوها"(36).
وتجدر الإشارة مع
ذلك إلى أن التعويض عن الخسائر بشكل الكامل لم يمكن ممكنا في أغلب الأحيان رغم
متانة أواصر التضامن العشائري. فإذا فقدت القبيلة قسماً كبيراً من قطعانها بعد
هزيمة حربية ماحقة فإن عادة التعويض عن الخسائر لن تعود سارية المفعول في الواقع.
ويتعرض الفقراء في مثل هذه الأحوال للموت جوعاً. ويحدث الشيء نفسه أثناء الجفاف الفظيع
أو انتشار الأوبئة. فالخسائر آنذاك تصيب بهذا القدر أو ذاك كل أفراد القبيلة، وفي
تلك الحالة لا يعودون قادرين في الغالب على نجدة الأكثر تضرراً. أن عادة التعويض
عن الخسائر لم تكن شيئاً وهمياً، ولكن أطرها مقيدة بالإمكانيات الفعلية.
كانت العلاقات بين
مختلف القبائل تضبط في المقام الأول بأهم عنصر في الأعراف القبلية وهو الثأر(37).
ويقول فولني "أن مصالح الأمان المشترك قد أوجدت عند العرب منذ القدم قانوناً
يتطلب غسل عار مقتل أي شخص بالثأر له من القاتل. ويأخذ الثأر أقرباء القتيل، لأن
شرفه قد تلوث في أنظار سائر الأعراب لدرجة لا يمكن معها أن يستهين بواجب الثأر،
وإلا سيبقى شرفه ملوثاً إلى أبد الآبدين.لذا ينتهز الفرصة السائحة ليثأر للقتيل.
وإذا مات عدوه لسبب آخر يبقى غير راض إطلاقاً ويأخذ ثأره من أقرب أقرباء القاتل.
وتنتقل هذه الأحقاد بالوراثة من الأب إلى أبنائه ولا تختفي إلا باختفاء أحد
الفخذين إذا لم تتفق العائلتان على تسليم المذنب أو دفع تعويض بالنقود أو
الماشية" (38).
وكان الثأر عند
البدو يشمل عادة الأقارب من خامس ظهر. وفي الغالب تترك كل الجماعة التي يشملها
الثأر قبيلتها وتبحث عن ملجأ وحماية عند شيخ قوي لقبيلة أخرى. وبعد ذلك تحاول تلك
الجماعة البحث عن وسيلة الاتفاق بشأن دفع التعويض. وإذا كان القتيل من غير الوجهاء
فإن أقرباءه يوافقون على التفويض. ومقادير التعويض تختلف باختلاف المناطق
والقبائل، ولكنها مقادير كبيرة ويشارك جميع أقارب القاتل في تسديد التعويض. أما
الشيوخ فلا يقبلون إلا بالقتل ثأراً للقتيل(39).
وتشارك القبيلة
كلها في دفع التعويض لإطلاق سراح أبنائها من الأسر(40). وكان البدو الأثرياء
يساعدون الفقراء عند الاقتضاء. كما كانوا يقدمون إلى أقربائهم الفقراء هدايا من
أطعمة وألبسة وماشية. وبهذه الصورة يحصلون على شعبية. وكان من العيب على أبناء
الوجهاء أن يتهموا بالبخل، في حين يعتبر السخاء أسمى فضيلة(41).
ولم يكن البدو
يعرفون الضرائب المنتظمة. وكانوا يعتبرون "دفع الضرائب إهانة"(42). وإن
انعدام الضرائب داخل القبيلة من أهم الأدلة على متانة العلاقات العشائرية.
ومع ذلك فحتى المراقبون
المعجبون بتضامن البدو الوحل وتعاضدهم قد عثروا في القبائل على ظواهر بعيدة عن
المثاليات العشائرية.
عناصر
التفاوت داخل القبائل البدوية. في
أواخر عام 1784 عندما زار فولني شيخ قبيلة كانت تترحل في منطقة غرة، رأى أن مقارنة
رفاه ممثل الوجهاء العشائريين هذا، على الرغم من انه لا يعتبر غنياً بالمقاييس
الأوروبية، مع حالة البدوي العادي تكشف عن أمور كثيرة.
"كانوا
يعتبرون الشيخ أغنى الجميع في المنطقة. ولكنه خيل إلى أن نفقاته لا تزيد على نفقات
تاجر عادي ثري. وأمواله المنقولة المكونة من الألبسة والبسط والسلاح والخيول
والإبل لا تتجاوز 50 ألف ليرة. وتجدر الإشارة إلى أن ذلك يشمل أربع أفراس أصيلة
بستة آلاف ليرة… ولذا فإذا تحدثنا عن البدو لا ينبغي لنا أن نضمن الكلمات مفاهيمنا
المعتادة لمصطلح "السيد". أن الشيخ الذي يقود مفرزة من 50 خيالاً لا
يستنكف من إسراج حصانه بنفسه ومن تقديم الشعير والقش له. وفي بيت الشعر تعد زوجته
القهوة وتعجن العجين بنفسها وتطبخ اللحم. وتغسل بناته وقريباته البياضات ويتوجهن
محجبات إلى البئر لإحضار الماء بأباريق يحملنها على رؤوسهن. وهذه اللوحة تشبه
بالضبط ما وصفه هوميروس أو "كتاب الوجود" في قصه إبراهيم الخليل…
إن بساطة البدو أو
فقرهم، أن صح القول، من بساطه ظروف حياة شيوخهم. فأن ملكية العائلة كلها تتكون من
أموال أوردها هنا بالشكل الكامل تقريباً: عدد من الجمال والنوق والماعز وبضع
دجاجات، وفرس مع عدتها وبيت شعر ورمح طوله 13 قدما وسيف منحن وبندقية صدئة، وغليون
ورحى وإبريق ودلو جلدي ومقلاة لتحميص البن وحصير وبعض الألبسة وعباءة صوفية سوداء
وأخيراً، وبدلاً من كل الحلى الثمينة، عدة أساور وخلاخيل زجاجية أو فضية ترتديها
المرأة في قدميها أو معصميها. وإذا كان ذلك كله متوفراً فإن العائلة تعتبر
غنية"(43).
إن أوصاف فولني
هذه تصطبغ بالصبغة السياسية أكثر من الأثنوغرفية. ومع أن هذه الرحالة يضفي
طابعاً مثالياً على بساطة حياة الشيخ
البدوي، فإن الفارق في الحالة المالية للشيخ كبير جداً إذا ما قارناه ببدوي يممتلك
حصاناً. أما البدو الفقراء فكانوا يعيشون في ضنك أكبر بكثير.
ويقول فولني:
" لاحظت أن الشيوخ، أي الأثرياء، وخدمهم، على العموم أطول قامة وأكثر
اكتنازاً من سائر أبناء القبائل… ولا يفسر ذلك
إلا بطعامهم الأوفر مما لدى باقي الناس. ويمكن القول أن البدوي البسيط يعيش
دوماً في عز ويعاني من الجوع طوال الوقت… إن طعام اليوم الواحد للسواد الأعظم منهم
لا يتجاوز ست أوقيات. وفي قبائل نجد والحجاز يصل الاعتدال في الطعام إلى حده
الأقصى. فإن وجبة البدوي لليوم الواحد تتكون من ست ثمرات أو سبع منقعة في سمن
ذائبة وقليل من اللبن الطازج أو المخمر. والبدوي يعتبر نفسه سعيداً إذا استطاع أن
يضيف إلى ذلك حفنة من الدقيق الخشن أو قليلاً من الأرز. والبدو لا يأكلون اللحم
إلا في أكبر الأعياد. ففي حفلات الزفاف أو المآتم ينحرون معزة صغيرة. ولا ينحر
صغار الإبل ويأكل الأرز مع اللحم إلا الشيوخ الأثرياء وقادة العساكر"(44).
وقد تجلى التفاوت
في الأموال لدى قبائل البدو الرحل بشكل ملحوظ خصوصاً في ملكية الماشية. فلئن كان
الواحد من فقراء فقبيلة عنزة لا يكاد يمتلك في مطلع القرن التاسع عشر 10 جمال، فأن
قطعان البدو الأغنى كانت تضم زهاء 50 جملاً، في حين أن عائلة الشيخ تمتلك عدة مئات
من الإبل(45). وكان الشيوخ الأكثر قوة وثراء يمتلكون عدة آلاف من الإبل.
إن وجهاء القبائل
الذين يضبطون الترحال الموسمي ويشاركون في توزيع المراعي صاروا يكتسبون حقوق
الأسبقية للتصرف بالأراضي مع أن تعسفهم كان مقيداً بالعادات العشائرية. لقد كانت
القطعان التابعة للشيوخ تحصل على المراعي الأفضل. وكان هناك منذ القدم حمى لهذه
القطعان، وغدا قسم من موارد المياه ملكاً لوجهاء البدو الرحل.
ومن نظام التعاضد
القبلي ظهر استغلال البدو أثناء تسليمهم الماشية لأجل رعيها. في بادئ الأمر كان
تسليم الماشية يبدو بمثابة سلفه مؤقتة عبارة عن عدد من رؤوس الماشية تقدم إلى أبن
القبيلة الذي أصابه الإملاق(46). وقد انتشرت هذه الظاهرة عند بدو الجزيرة ومكنت
كبار ملاك الماشية من صيانة قطعانهم ومضاعفتها.
والدرجة التالية
في الاستغلال هي تسليم الماشية على سبيل المحاصة إلى الفقراء المعدمين وغير
المعدمين، حيث يستلم الملاك جزاءاً من النسل والمحاصيل الحيوانية(47).
وكان تسليم
الأغنام لأجل الرعي أكثر انتشاراً. مثلاً فإن رعاة الإبل يكن بوسعهم أن يأخذوا
معهم الماشية الصغيرة أثناء الترحال الطويل الأمد. لذا كانوا يتركون الأغنام عند
رعاة الغنم من أبناء الأفخاذ الأخرى أو القبائل الغريبة بغية رعيها. وفي هذه
الحالة كان الاستغلال أكثر وضوحاً وغير مموه بالإشكال العشائرية. وإذا لم تتمكن
عوائل الوجهاء من رعاية قطعان إبلها فهي تستخدم الرقيق أو أبناء القبائل الأخرى.
ونادراًص ما تستخدم أبناء قبيلتها.
وتحولت الإتاوات
الخاصة بالصرف على كرم الضيافة إلى واحد من أساليب استغلال البدو من قبل الوجهاء.
وقال بوركهاردت: :عندما يأتي الضيوف ويتعين نحر كبش من أجلهم فإن الأعراب يحضرون
هذا الكبش عادة إلى خيمة الشيخ. وفي بعض القبائل لا يسمح الأعراب بأن ينحر شيخهم
كبشه، ولذا يزودون خيمته باللحوم حسب الدور"(48). ولما الشيخ "مضطراً
إلى استقبال الضيوف كان يأخذ جملاً أو خروفاً من هذا أو ذلك، وكان الناس يقدمونهما
له بطيبة خاطر، وذلك لأنهم لا يندر أن يأكلوا لحمهما عنده بعد الضيوف". بهذه
الصورة أوضحوا للرحالة موسيل طبيعة هذه الأتاوات حتى في مطلع القرن العشرين(49).
وكانت القبيلة
تساعد الشيخ في اقتناء حصان. وعندما يتناقص قطيعه بسبب غزوات النهب يحاول أبناء
القبيلة التعويض عن كل خسائره. وفي الحالات المماثلة لا يعوضون للبدوي العادي إلا
عن جزء من خسائره كما يقول بوركهاردت(50).
وكان الشيوخ
والعراف في القبائل يستلمون مكافأة على الفصل في النزاعات القضائية.
وفي بعض الأحيان
يقع البدو البسطاء في تبعية شخصية بقدر ما للوجهاء. وساعد على ذلك نظام التجاء
البدو إلى شيخ قوي من قبيلتهم أو من غير قبيلتهم (الدخلة) من أجل حمايتهم. وكانت
تلتف حول هذا الشيخ "عوائل صغيرة لا تقوى بالقدر الكافي على الحياة المستقلة،
بل هي بحاجة إلى الحماية والتحالف"(51).
وكانت الوصاية من
أشكال التبعية الأكثر تطوراً. فالفقراء في هذه الحالة ينشدون حماية الشيخ تلقاء
مدفوعات معينة. وانتشر على نطاق واسع لجوء جماعات بكاملها إلى وصاية الشيوخ طلباً
للحماية. فالأشخاص الذين يخشون الثأر من جانب أهل القتيل يسعون إلى الحصول على
حماية الوجهاء من قبيلة أخرى. وعلى البدو أن يتحملوا مقابل ذلك بعض الواجبات،
ومنها واجبات اقتصادية. وإن الحرية
الشخصية لمثل هؤلاء الناس تكون مقيدة بعض الشيء(52).
ويدل على ضعف
الأواصر العشائرية كذلك واقع أن المدين داخل القبيلة ملزم بأن يسدد الدين بنفسه
إلى الدائن، ولا أحد يساعده في ذلك، خلافاً لممارسة التعاضد وتسديد الدين لدائن
غريب.
ويتبادر إلى الذهن
سؤال: هل وصل تحلل الأواصر العشائرية داخل قبائل البدو إلى درجة تجعلها تتحول إلى
علاقات طبقية إذا استخدمنا المصطلح الماركسي المعهود؟ إن تحليل طابع ملكية أراضي
المراعي والآبار يساعدنا في الجواب على هذا السؤال.
كتب كارل ماركس
يقول: "إن الملكية العقارية تفترض احتكار أشخاص معينين لتصرف بقطع معينة من
الأراضي بوصفها ميادين استثنائية لإرادتهم الشخصية خاضعة لهم وحدهم"(53). فهل
كان شيخ قبيلة ما أو جماعة من الوجهاء يتمتعان بحق التصرف بالمراعي "بوصفها
ميادين استثنائية لإرادتهما الشخصية خاضعة لهما وحدهما" مع أن أشكال الملكية
في القرون الوسطى لم تكن ناجزة لا جدال فيها؟ وهل يمكن، والحال هذه، الكلام عن
ملكية شيخ ما أو جماعة من الوجهاء لقطع من أراضي المراعي؟ وهل يعني ذلك انهما،
مثلاً، يتمكنان من بيع مراعي القبيلة للغرباء؟ أو تأجيرها والاستئثار بكل
عائداتها؟ وهل يستبدلاها بأخرى، في الواحة مثلا؟ والأمر الأهم هو هل يستطيعان أن
يحرما أبناء قبيلتهما من حق الانتفاع بالمراعي؟ في ظروف الجزيرة العربية قبل القرن
العشرين لم تكن هذه التصرفات ممكنة، أو أنها كانت تمثل حالات استثنائية نادرة وغير
معروفة لدينا. كان حق الشيوخ والوجهاء في التصرف بالأراضي مقيداً على الأقل
بانتمائهم إلى قبيلتهم إي أنهم كانوا ينتفعون بالأراضي المشاعية بسبس كونهم من
أبناء تلك القبيلة وأن كانوا وجهاء وأثرياء يتمتعون بالامتيازات وهذا طبعاً يقيد
حقهم في التصرف بالأراضي ويقيد إمكانيات الطريقة الإقطاعية في تسيير الاقتصاد، كما
يقلل من الاستغلال الإقطاعي داخل القبيلة(54).
وفي بعض القبائل
المترحلة المنفردة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يمكن ملاحظة مجرد اتجاه نحو
العلاقات الإقطاعية، وليس شيوع تلك العلاقات. فإن تصفية الملكية المشاعية القبلية
للمراعي في العربية السعودية لم تنجز ولم تكتمل حتى الآن .
وتدل وقائع كثيرة
على أن العائدات التي يستلمها الوجهاء في قبيلتهم لم تكن كبيرة، وفي بعض الأحيان
لا تسد النفقات المرتبطة بتقاليد التضامن والتعاضد العشائريين. وانتشرت عند قبائل
البدو، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على إي حال، العلاقات العشائرية
المستندة إلى الملكية المشاعية للمراعي ومنابع المياه وإلى أواصر القربى المتينة
وإلى تقاليد التعاضد والتضامن. إن عملية تشديد استغلال البدو البسطاء من قبل
الوجهاء، وهو الاستغلال المستند إلى التفاوت في الأموال، كانت جارية ولكنها لم
تبلغ بعد مرحلة شق قبائل البدو الرحل وتقسيمها إلى طبقات.
ونعتقد أن أسباب
ذلك تكمن في صفوف القوى المنتجة البدوية وشحة المنتوج الفائض، وكذلك في استقرار
الأحوال النفسية الاجتماعية للبدو والأحرار. وما كان بوسع وجهاء البدو أن يشددوا
استغلال أبناء قبائلهم أكثر من الحد الأدنى المعين.
إن بقاء فئة كبيرة
بل وغالبة من البدو "المتوسطين" أو الفقراء الذين يمارسون شؤوناً
اقتصادية مستقلة في قبائل البدو لهو دليل قاطع على عدم وجود العلاقات الاستغلالية
الناجزة هنا. ولا يذكر الرحالة الأوروبيون شيئاً عن بدو تعرضوا للاستغلال داخل
القبائل المترحلة. ويفترض ذلك أن أغلبية البدو تمتلك ماشية خاصة بها وترعاها في
المراعي العامة.
ولكننا، عندما
نقيم طابع العلاقات الاجتماعية عند قبائل البدو الرحل، لا يجدر بنا أن نتناولها
بمعزل عن مجتمع الجزيرة عموماً، وذلك لأن مثل هذا الأسلوب يشوه اللوحة الفعلية.
لأن سكان الجزيرة العربية البدو الرحل وشبه الرحل والحضر كانوا يمثلون كياناً
اجتماعياً مترابطاً واحداً. وإن دراسة العلاقات المتبادلة بين مختلف جماعات السكان
في الجزيرة العربية، ودراسة الكثير من السمات الخاصة بالحياة في الجزيرة إنما
تتميز بأهمية خاصة وتقدم تحليلاً للقبيلة البدوية وللمجتع كله.
الغزوات. كان البدو، في ظل انعدام السلطة المركزية القوية،
يقومون بالغزوات دوماً. وكانت الماشية في الغالب عرضة للنهب، ويشمل النهب أدوات
بيوت الشعر والأسلحة والألبسة والعبيد. وكانت سلع التجار تسلب منهم، كما تسلب من
الحضر مختلف المحاصيل والأدوات الزراعية. وكان هناك فارق بين الغزوات وبين الحرب
الحقيقية بسبب المراعي والآبار. إلا أن هذين النوعين من العمليات الحربية كانا
متشابكين دوماً.
كتب بوركهاردت
يقول: "إن القبائل العربية في حالة حرب دائمة تقريباً فيما بينها، ونادراً ما
يحدث أن تتمتع قبيلة ما بلحظة من السلام المشترك مع سائر جيرانها. إلا أن الحرب بين قبيلتين نادراً
ما تستمر طويلاً، فالصلح يعقد بسهولة، ولكنه يخرق لأتفه الأسباب. وإن أسلوب خوض
الحرب هو أسلوب الأنصار، فالمعارك الشاملة نادرة. والهدف الرئيسي لكلا الطرفية
المتحاربين هو مباغتة العدو بهجوم غير متوقع ونهب مخيمه. لذا فإن حروبهم عادة لا
تراق فيها الدماء. ويهاجمون العدو، بقوات متفوقة عددياً فيتنازل لهم دون قتال. ثم
أن عواقب الثأر الفظيع تدرأ الكثير من النزاعات الدموية"(55).
وكتب فولني عن
غزوات البدو يقول: "لما كان الإعرابي نهاباً أكثر مما هو محارب فهو لا يسعى
إلى إراقة الدماء. إنه يهاجم فقط من أجل النهب والسلب، وإذا قوبل بمقاومة فهو
يعتقد بأن الغنيمة الزهيدة لا تستحق المجازفة بحياته. وبغية إثارة غضبه لا بد من محاولة إراقة دمه، وعند ذاك يكون مصراً على
الثأر والانتقام بقدر ما كان حذراً يتحاشى المخاطر. غالباً ما يلومون الأعراب على
ميلهم إلى النهب والسلب، ولكن اللائمين الذين لا يريدون تبرير هذا الميل لم يلتفتوا
بالقدر الكافي إلى أن الميل إلى النهب والسلب موجه ضد الغريب الذي يعتبره الأعراب
عدواً، ولذا يستند هذا الميل إلى أعراف أغلبية الشعوب"(56).
كان الغزو يعتبر
عملاً نبيلا جداً، وكانت الرغبة في النهب تثير دوماً حماس البدو، وكانت المشاركة
في الغزوات طواعية ولكن المحاربين في الواقع، وخصوصاً الشبان، ما كان بوسعهم
رفضها. فالامتناع عنها ينطوي على خطر الاتهام بالجبن وتضييع الاحترام لدى الأقارب
وأبناء القبيلة. وكتب نيبور: "يقال أن الفتى لا يستطيع أن يتزوج ما لم يتزوج
عدة مآثر". وكانت أسماء أبرز المشاركين في الغزوات تتناقلها الألسن ويتغنى
بها الشعراء. وحتى في القرن العشرين يعدد المؤلفون أسماء الأبطال الاماجد في
الفروسية البدوية.
وبنتيجة الغزوات
يستطيع البدوي الفقير بعد غارة موفقة واحدة أن يصلح أحواله المالية بل ويمكن أن
يغدو موسراً. ومما لا شك فيه أن الغزوات كانت واحداً من أسباب بقاء فئة البدو
الرحل المستقلين.
وكانت الغزوات
مصدراً لأثرياء وجهاء القبائل. فإليهم يرد أكبر جزء من الغنائم وأفضلها(58).
ويتزعم الغزوات الشيوخ أو العقداء. و "تفرد" للشيخ حصة حتى ولو لم يشارك
في الغزوات. وليس من قبيل الصدفة أن غنائم الغزوات تعتبر من أهم مداخيل وجهاء
البدو.
بديهي أن السلب
والنهب المتواصلين في الجزيرة العربية قد ألحقا ضرراً بالاقتصاد والقوى المنتجة.
ويصادف أن الغزوات لا تمر دون إراقة دماء، بل وتؤدي إلى حروب إبادة قاسية. وبنتيجة
المداهمات يمكن أن تهلك أو تنقرض أفخاذ وقبائل عن بكرة أبيها. ويقول فولني
"في بعض الأحيان ترتقي قبيلة ضعيفة، وينتشر نفوذها، بينما يصيب الركود، وحتى
الإبادة، قبيلة أخرى كانت قوية فيما سبق"(59). ولاحظ جوسان مثل هذه الظاهرة
بعد أكثر من مائة عام: "يمكن للقبيلة أن تختفي من البلاد بأساليب عديدة، وفي
مقدمتها بالنزوح بسبب النزاعات الكبيرة أو المجاعة المتواصلة في المنطقة… والسبب
الآخر الأكثر انتشاراً لإبادة هذه القبائل يكمن في الحروب والغزوات الدائمة. فيكفي
يوم منحوس واحد لإبادة قبيلة بكاملها: الرجال جثث في ساحة القتال والنساء يتوزعن
على القبائل المجاورة أو… يهلكن من الجوع"(60). ويمكن أن تنهار القبائل
القوية فيما مضى، وتفقد أبناءها وماشيتها ومراعيها وتخضع لقبائل أخرى وتندمج معها
أحياناً.
ولكن هل هناك سُنة
معينة في انتصارات وهزائم القبائل؟
كانت القوات
المقاتلة لمختلف القبائل والأفخاذ غالباً ما تتوقف على طابع أعمالها الاقتصادية،
وليس فقط على بسالة المقاتلين وموهبة القائد وشجاعته. وإن رعاة الإبل بالذات، أي
البدو الرحل الحقيقيين، هم الذين كانوا يمتلكون أكبر قدرة حربية. فالإبل تمكنهم من
التنقل بسرعة ولمسافات طويلة في البوادي الخالية من المياه، وتحشيد القوات وتسديد
الضربات المباغتة، والتخلص، عند الاقتضاء، من الملاحقة واللجوء إلى البادية التي
لا يُطالها العدو. وكان رعاة الإبل قد قاموا بأكثر الغزوات توفيقاً وغالباً ما
كانوا يخرجون من المعارك الكبرى ظافرين، ولا أحد ينافسهم إلا أمثالهم من رعاة
الإبل. إن القبائل والأفخاذ من رعاة الإبل هي بالذات الرابحة في الميزان العام
للخسائر والغنائم بعد الغزوات، أما رعاة الغنم شبه الرحل فكانوا الخاسرين. وفي سوح
القتال المكشوفة كان الحضر أيضاً يهابون البدو الحقيقيين في الغالب. فإن سلامة
روابطهم التجارية وماشيتهم التي ترعى في السهوب أو أشباه البوادي، وسلامة مزارعهم
وبساتين نخيلهم غير المحمية بأسوار كانت تتوقف على العلاقات المتبادلة مع
البدو.
وكانت قبائل البدو
القوية من رعاة الإبل تفرض الإتاوات على القبائل الأضعف، وخصوصاً رعاة الغنم
والحضر. وكانت الغزوات واحدة من طرق الإكراه وتبعية الجزية والخراج وأحياناً
تبعية الخدم والحشم.
الخوة
أو الخاوة. كانت الخوة التي
يدفعها السكان الحضر وشبه الرحل إلى البدو ترتدي منذ القدم لبوساً عشائرياً وكأنها
مكافأة على الحماية والوصاية. ولذلك اشتق اسمها من لفظ الاخوة. كتب بوركهاردت
يقول: "تدفع الخوة عادة إلى الشيخ أو أحد أبناء القبيلة الذين يتمتعون
باحترام كبير. وحالماً تتفق الجماعة مع إعرابي ما بشأن الخوة يطالب هذا الأخير
فوراً بجزء من المبلغ السنوي المتفق عليه. ويشتري به بعض الاحتياطات ويتقاسمها مع
أصدقائه لكي يكونوا، بعد تناول جزء من الخوة، شهود عيان على الاتفاق"(61).
ويقول فالين أن
الخوة تدفع ليس فقط إلى حامي دافعيها "شيخ المشايخ، بل كذلك إلى كل شخص متنفذ
في مختلف الأفخاذ"(62). ويستقر قسم كبير من
الخوة في جيوب وجهاء القبيلة، ومع ذلك فإن حصة منها تبقى عند أبناء القبيلة
البسطاء. وكان الحضر والبدو شبه الرحل يدفعون الخوة إلى عدة قبائل بدوية في وقت
معاً، علماً أن هذه القبائل تجمع الخوة بدورها من مختلف الواحات وقبائل رعاة
الغنم(63). وفي بعض الأحيان يقوم البدو
شبه الرحل الذين يدفعون الخوة لمن هو أقوى منهم بجباية الجزية من القبائل أو
الواحات الأضعف.
وخلق ذلك كله
أشكالا معقدة من التبعية ولكن جوهر القضية لم يتغير، وهو ابتزاز قسم كبير من
المنتوج الفائض، وأحياناً قسم من المنتوج الضروري، من الحضر والبدو شبه الرحل إلى
الأكثر جبروتاً. وكانت الخوة مصدراً لعائدات كبيرة على وجهاء الرحل وسائر البدو.
وكانت قبائل البدو تتنازع على حق جباية
الخوة. وأثناء تلك المنازعات يهلك دافعو الخوة أيضاً. ولم يكن بالإمكان التخلص من
نير جباة الخوة إلا بالمقاومة المسلحة.
وتتحول علاقات
الخوة أحياناً إلى علاقات تبعية الخدم والحشم، وعند ذاك تشارك القبائل الخاضعة في
الغزوات الحربية لأسيادها، أي إنها تدفع جزية الدم. ويقدم الشيخ التابع آيات
التكريم الظاهري للشيخ المتبوع. وكانت تبعية بعض القبائل قد بلغت حدا جعل ديكسون،
مثلاً، ينعت قبيلة الرشايدة "بالاقنان" لقبيلة مطير، وينعت قبيلة
العوازم "بالخدم" لقبيلة العجمان(64). صحيح أن هذا القول يخص القرن العشرين،
ولكن مثل هذه العلاقات كانت، على ما يبدو، موجودة في السابق أيضاً.
وكان البدو قد
فرضوا رسوماً على قوافل التجار والحجاج وأطلقوا عليها كذلك أسم
"الخوة"(65). وأستخدم أبن بشر للدلالة على هذه الرسوم كلمة من نفس الأصل
"خاوى" وقد وردت عند أبن خلدون أيضاً. وجمع ثروة كبيرة خصوصاً وجهاء
القبائل المسيطرة على طرق الحج.
وكان الباب العالي
يدفع إلى البدو مبالغ كبيرة لقاء مرور قوافل الحجاج العثمانيين إلى مكة في القرنين
الثامن عشر والتاسع عشر. وقدر بوركهاردت تلك المبالغ في بداية القرن التاسع عشر
بـ50 -60 ألف جنيه إسترليني سنوياً(66). وفي عام 1756 تلكأ والي دمشق العثماني في
دفع النقود وأعدم شيوخ البدو الذين جاءوا لاستلام المبالغ المقررة، ولكن قبائل
البدو توحدت بعد عامين وسحقت حرس الحجاج ونهبت القافلة وأرغمت السلطات العثمانية
من جديد على دفع هذه الضريبة(67).
وكان وجهاء البدو
يستلمون كذلك مدفوعات تحددها الأعراف لقاء "حماية" الصناع والباعة
المتجولين(68).
القبائل
"الوضيعة". العبيد والمعتوقون. ومن
بين دافعي الجزية لقبائل البدو القوية كذلك من يسمون بالقبائل الوضيعة في الجزيرة
العربية: الصلبة وهتيم والشرارات وفروعها.فبنتيجة التطور التاريخي الخاص غدت هذه
القبائل مجزأة إلى عدة أفخاذ هائمة في شبه الجزيرة كلها بشكل جماعات غير كبيرة وليس لها أرض خاصة بها، الأمر الذي كان سبباً في ضعفها.
وكان أغلبها يترحل في أراضي الغير مع
أصحاب تلك الأراضي. وكتب بوركهاردت يقول: "بين القبائل الكثيرة جداً التي
تقطن بوادي الجزيرة لا توجد قبيلة أكثر تشتتاً وتواجداً في جميع أرجاء هذا البلد
من قبيلة هتيم. فيمكن للمرء أن يصادف خيام هذه القبيلة في سوريا وفي صعيد مصر
والدلتا ونجد وبلاد الرافدين… وفي كل مكان تقريباً نجدها
مضطرة إلى دفع الأتاوت للقبائل المجاورة لقاء رعي الماشية"(69).
وكانت واسطة النقل
الرئيسية عند الصلبة هي الحمير وليس الإبل. ولم يكن الرعي عادة بقادر على إطعام
هذه القبيلة، ولذا اضطرت إلى ممارسة نشاط يعتبر مهينا في مجتمع الجزيرة، مثل بعض
الصنائع. وصار البعض موسيقيين محترفين وراقصين ومطببين. وخدموا عند الوجهاء في هذه
المهن(70). وكانوا يتكهنون باحتمالات الطقس ويشيرون إلى مواقع المراعي الأفضل
ويتلقون الهبات في مقابل ذلك(71).
وغدا أفراد
القبائل "الوضيعة" مادة للاستغلال والابتزاز بلا رحمة من قبل البدو
الأقوياء. وأورد دوتي مثالاً فقال: "وصل عدد من أبناء عنزة إلى الواحة وهم يقتادون
في الدرب شخصا عارياً يثير الشفقة والحبل في عنقه. كان ذلك من أبناء هتيم. وكان
البدو يصرخون كالمسعورين متهمين إياه بتأخير تسديد الخوة وقدرها عشرة ريالات.
اقتادوه لكي يروا ما إذا كان هناك شخص في خيبر يدفع الخوة بدلاً عنه كما وعدهم،
وإذا لم يجدوا ذلك الشخص فسيسحبون هذا المسكين إلى خارج المدينة
ويقتلونه"(72). إن هذه الواقعة وحدها تبين مدى الهوة العميقة التي تفصل بين
البدو الأحرار وبين أفراد القبائل "الوضيعة"، ومدى قساوة أشكال استغلال
بعضهم للبعض الآخر.
وقد ظلت العبودية
(الرقيق) في الجزيرة العربية قائمة طوال قرون(73). وكان العبيد ينقلون إلى شبه
الجزيرة في الغالب من شرق ووسط أفريقيا. كانت هناك حملات خاصة لتجارة العبيد
تستولي عليهم أو تشتريهم خصيصاً، كما أن بعض الحجاج كانوا يبيعونهم بغية تغطية
نفقاتهم على زيارة الحرمين. كانت تجارة العبيد متركزة في مكة على الأغلب، ولكنها
كانت تجري أيضاً في مدن أخرى، مثل الهفوف ومسقط. ويبدو أن عدة آلاف من العبيد كانت
ترد إلى الجزيرة سنوياً. وفي حالات استثنائية كان الأعراب يتحولون إلى عبيد.
كان أكبر عدد من
العبيد متواجداً في مركز تجارة العبيد - الحجاز، حيث كانت كل أسرة مستقلة بهذا
القدر أو ذاك تسعى إلى شراء الرقيق. أما خارج الحجاز فقد كانت العوائل الغنية فقط
هي التي تمتلك عبيداً. كتب بلغريف: "صادفنا أحياناً في الجزيرة العربية
زنوجاً، في الجوف وجبل شمر والقصيم وسدير. ولكننا رأيناهم فقط يؤدون أدوار العبيد،
ونادراً ما صادفناهم في منازل غير منازل أكثر الناس ثروة"(74). ويقول الرحالة
أن عدد الزنوج والمولدين في جنوب نجد كان في ازدياد وكانوا في بعض الواحات يشكلون
أغلبية السكان. "في الرياض كثير من الزنوج، وعددهم أكثر في منفوحة والسلمية
وغالباً ما نصادفهم في الخرج ووادي الدواسر وأطرافهما"(75).
وكان وجهاء البدو
يمتلكون العبيد أيضاً. كتب بوركهاردت عن عنزة يقول : "كل شيخ قوي يقتني
سنوياً خمسة عبيد أو ستة وعدداً من الإماء…"(76).وكانت الحال كذلك في القبائل
البدوية الأخرى.
كان العبيد يؤدون
أصعب وأقذر الأعمال. كانوا في القبائل المترحلة يرعون الماشية وينقلون الماء
وينصبون الخيام ويرفعوها ويجمعون الحطب والوقود. وكان عمل العبيد يستخدم كذلك في
الزراعة والصنائع، ولكن بقدر محدود جداً ولكن الميدان الأساسي لاستخدامه هو الشؤون
المنزلية حيث يؤدي العبيد واجبات الخدم والحراس ومدبري المنزل.
وتجدر الإشارة إلى
بعض الخصائص الجوهرية لأوضاع العبيد في الجزيرة العربية. فالعبودية هنا كانت تتميز
بطابع عشائري.وهذا هو السبب في المعاملة الطيبة نسبيا للعبيد. فالعبيد وخصوصاً
المولدون كأنما يغدون أفرادا غير كاملي الحقوق في عائلة سيدهم. وفي بعض الأحيان
يغدون ورثة لأملاك سيدهم. وكانت الإماء، عند وجهاء المدن خصوصاً، تستخدم كجوار
ويغدو أبناؤهن أحراراً عادة، ويصبحن هن حرائر بعد وفاة أسيادهن. كان العبيد
محرومين ومهانين من الناحية الاجتماعية، ولكنهم من الناحية الاقتصادية يعيشون أفضل
من البدو الرحل أو الفلاحين شبه الجياع. فقد كانوا يتمتعون بقسم من عائدات
الوجهاء.
وكان كثيرون من
العبيد في الجزيرة قد حصلوا على الحرية
وأصبحوا معتوقين ولكنهم ظلوا يسمون بالعبيد أيضاً. ولم يكن ذلك يشمل
الجواري وأبناءهن فقط. أن عدد العبيد "الموروثين" لم يكن كبيراً في
الجزيرة العربية.
كانت عملية عتق
العبيد في القبائل البدوية أشد مما عند الحضر. فبعد مضي فترة معينة كان البدو دوما يمنحون الحرية للعبيد ويزوجونهم
من نساء من بشرتهم. وقال بوركهاردت:"أبناء عنزة لا يعاشرون الإماء أبداً،
ولكنهم بعد بضع سنوات من الخدمة يمنحونهن الحرية ويزوجونهن من العبيد أو أبناء
العبيد المتبقين في القبيلة"(77). وكان المعتوقون يمارسون البيع والشراء
والصنائع ويعملون خدماً في منازل الأثرياء.
كان تحرير العبيد
في ظروف الجزيرة العربية يتسم كذلك بمغزى آخر. فإن أحد شيوخ عنزة مثلاًً
"يمتلك أكثر من خمسين عائلة من أُناس كانوا في زمن ما عبيداً له، وهم مدينون
لسخاء هذا الشيخ بكل ما يملكون. ولا يحق
له الآن أن يستحصل منهم الجزية السنوية، لأنهم صاروا يعتبرون من الأعراب الأحرار،
ولكنه يزوج بناتهم من عبيده الجدد ومن المعتوقين، وعندما يستولي ذوو البشرة السوداء هؤلاء على غنائم كبيرة
أثناء الحروب بوسع الشيخ أن يأخذ منهم ناقة جيدة، وهم لا يرفضون ذلك
أبداً"(78). وقد توحد بعض المعتوقين حسب السمة القبلية السكانية، إلا أن منزلة هذه القبائل الجديدة
أوطأ من منزلة قبائل الأعراب الأقحاح. وكان المعتوقون في تبعية مالية وشخصية
لوجهاء البدو.كان السواد الأعظم من المعتوقين يمارس الزراعة. كانوا محرومين من
الأراضي، ولذلك صاروا يستأجرونها بالمحاصة من وجهاء الحضر والبدو في الغالب (
وأحياناً من قبائل البدو الرحل بكاملها). وكان المستأجرون المعتوقون يتعرضون
لاستغلال بشع. يقول فالين: "أنهم نادراً ما يبلغون الثروة والرفاه"(79).
وظلت باقية كذلك تبعية المستأجرين المعتوقين الشخصية بقدر كبير لمالكي العبيد السابقين. وبالإضافة إلى ذلك كان
على المعتوق، في عدة حالات، أن يعيد إلى سيده قبل مغادرته، الأموال التي استلمها
أثناء التحرير(80)، الأمر الذي لم يكن ممكنا على الدوام. وكان المستأجرون المعتوقون
يرتبطون بالأرض بقد ما ، فضلا عن الريع الإقطاعي الذي يسددونه. ولذلك فأن أحوالهم
أقرب إلى أحوال الأقنان مما هي إلى سائر فئات سكان الجزيرة.
كان استغلالهم من
قبل وجهاء الحضر نوعاً خاصاً من الاستغلال الإقطاعي للأعراب المحاصين. وكانت
عائدات الأراضي التي يفلحها المعتوقون واحداً من أهم مصادر الدخل الخارجية (خارج
القبيلة) لوجهاء البدو.
تنظيم
السلطة وطابعها في القبائل البدوية. إذا
كانت تسود بين الوجهاء وبسطاء البدو داخل القبيلة المترحلة علاقات لم تصبح طبقية
بعد، فإن وجهاء البدو خارج القبيلة صاروا استغلاليين طبقيين. فهم يستلمون حصة
الأسد من المداخيل بشكل جزء من غنائم الغزوات وخوة وجزية من الحضر وأشباه البدو
والقبائل "الوضيعة" والصناع والباعة والحجاج وريع إقطاعي من الأراضي
السيحية المقدمة على سبيل الإيجار(81). كان وجهاء البدو، كما أسلفنا، يستلمون من
أبناء قبائلهم قسماً ضئيلاً من المنتوج الفائض لعملهم. إلا أن الزراعة أمنت
إنتاجية أعلى وساعدت على استغلال الفلاحين بقدر أكبر. زد على ذلك أن الوجهاء كانوا
يسمحون لأنفسهم، خارج القبيلة، بأن يستأثروا بشكل جزية، ليس بالمنتوج الفائض فقط،
بل بقسم من المنتوج الضروري أيضاً فيحمون على دافعي الجزية بالحرمان والجوع.
إن المداخيل
الخارجية الواردة على القبيلة تغني الوجهاء وتشدد التفاوت في الأموال. إلا أن
قسماً من هذه المداخيل يصل إلى أبناء القبيلة البسطاء، الأمر الذي ساعد على بقاء
فئة البدو المستقلين وطمس التفاوت.
إن الطابع المزدوج
لوجهاء القبائل بوصفهم من أبناء القبيلة الأكثر ثراءً وجاهاً وبوصفهم مستغلين
للسكان خارج قبيلتهم قد حدد خاصية السلطة السياسة عند البدو الرحل وفي مجتمع
الجزيرة عموماً.
فقد كان الشيخ داخل القبيلة بالدرجة الأولي
رئيساً عشائرياً للجماعة ومتصرفا بالنشاط الاقتصادي. كان يتزعم الرحلات الأساسية
للقبيلة ويشرف على توزيع المراعي والآبار ويختار مكان نصب المخيم ومدة المكوث فيه.
وكان بوسع الشيخ أن يضطلع بدور القاضي أو الحكم في النزاعات التي تنشأ داخل
القبيلة واختلاف الآراء والشكاوى في مسائل الأسرة والزواج والمعيشة، وكان يتابع
الالتزام بالعادات القبلية وخصوصاً المرتبطة بأخذ الثأر ويراقب استعادة الأموال
المسروقة. وكان يمثل القبيلة في العلاقات مع العالم الخارجي. وبوسع الشيخ أن يغدو
قائداً في الحرب وأن يعلن الحرب ويعقد الصلح(82).
وكان الشيخ يتخذ
أهم القرارات بعد التشاور مع وجهاء القبيلة أو مجلسها(83) الذي احتفظ بسمات
التنظيم الديمقراطي للمجتمع العشائري. ويقول الرحالة الإنجليزي دوتي: في المجلس
"يتكلم من يشاء، ويرتفع هنا صوت أبسط أبناء القبيلة لأنه من
أبنائها"(84). ولا يستطيع الشيخ أن يعلن الحرب أو يعقد الصلح بدون تشاور مبدئي
مع أبناء القبيلة المسموعي الكلمة. وإذا أراد أن ينصب مخيماً فعليه أن يستطلع
آراءهم(85).
ويقول دوتي أن
المجلس كذلك "شورى للشيوخ ومحكمة اجتماعية، ويراجعه أبناء القبيلة في أي وقت
للنظر في شؤونهم… ويتشاور الشيخ مع الشيوخ الآخرين والوجهاء والأشخاص الأرفع
منزلة. ويصدر القرار دوماً دون تحيز ودون آي ارتشاء. وهو قرار نهائي"(86).
وبالإضافة إلى ذلك يمارس العراف النظر في الدعاوى القضائية. وإذا اعترض المحكوم
عليه بالغرامة المالية على القرار يضطر إلى ترك القبيلة.
ويتجلى الطابع
العسكري الديمقراطي للتنظيم القبلي في تقسيم السلطة في الفخذ والقبيلة في عدة
حالات إلى سلطة "مدنية" (الشيخ) و"عسكرية" (العقيد). ويقول
بوركهاردت: "لكل قبيلة عقيد، إضافة إلى الشيخ، ويندر أن يتسلم شخص واحد كلا
هذين المنصبين. فأنا، على أي حال، لا أعرف مثالاً على ذلك مع أن بعض الأعراب يقولون
أنهم رأواً شيخاً كان بين أعراب منطقة البصرة عقيداً أيضاً… وإذا شارك الشيخ في
الحملة فهو يخضع، كسائر أبناء القبيلة، للعقيد الذي لا تنتهي صلاحياته ألا عندما
يعود المحاربون إلى ديارهم. وعند ذاك يعود الشيخ إلى منصبه"(87). ويفيد مؤرخو
الجزيرة والمعلومات الأحدث بأن توافق سلطة الشيخ والعقيد كان ظاهرة أكثر حدوثاً
مما يعتقد بوركهاردت. ويمكن أن يغدو عقيداً أبن الشيخ أو أحد أقربائه. ولا يندر أن
تربط أواصر القربى بين عائلتي الشيخ والعقيد.
ولم تكن لدى زعيم
القبيلة، عادة، شارات ظاهرية للسلطة ولم يكن يلتزم بمراسيم خاصة في معاملة أبناء
قبيلته. فالبدو البسطاء يتعاملون معه كما لو كان في منزلتهم.
وفي حالة وفاة أو
عجز الشيخ يختارون شخصاً آخر بدلاً عنة. ومن السجايا التي يجب توفرها في زعيم
القبيلة السخاء والشجاعة والذكاء والحكمة والثروة (الماشية والأرض). وينبغي أن
يكون له أنصار كثيرون من الأقارب والخدم(88). واليكم ما كتبه فولني عن شيخ قبيلة
بدوية: "حقاً، فإن شيخ المشايخ في كل قبيلة يضطلع بواجب الأنفاق على القادمين
والذاهبين، وهو الذي يستقبل الحلفاء وكل من يأتي أليه في حاجة ما. وقرب خيمته ينصب
بيت شعر كبير هو ملجأ لكل الغرباء والقادمين. وهنا بالذات تعقد الاجتماعات الكثيرة
للشيوخ والوجهاء لانتقاء مواقف المخيمات أو لشد الرحال، وللنظر في مسائل الحرب
والصلح والمنازعات مع الولاة العثمانيين أو القرى وللنظر في الشكاوى والنزاعات بين
الأفراد. ويجب إطعام جميع هؤلاء الأشخاص الذين لا ينقطع سيلهم بالرغيف المخبوز على
الرماد وبالأرز ولحم الماعز أو الجمال المشوي أحياناً والقهوة - وباختصار يتعين
على الشيخ أن يتحلى بكرم الضيافة"(89). وفي أغلب الأحوال يظل لقب الشيخ
محصوراً في عائلة واحدة من الأعيان والوجهاء طوال عقود وأحياناً طوال قرون. ويؤكد
دوتي: "لا يستطيع أن يكون زعيماً لعشيرة البدو أي بدوي بسيط أو أي شخص من غير
تلك العشيرة وأن كان يتفوق على الجميع من حيث الثروة والجاه والمواهب"(90).
وغالباً ما تنتقل
السلطة من الأب إلى الابن، ولكنه في حال عدم توفر الخصال اللازمة عند المرشح
للسلطة تحال إلى شخص آخر من الوجهاء. وتلك هي أيضاً حال سلطة العقيد. كان الشيخ
والعقيد يتنافسان في القبيلة، وفي بعض الأحيان كان العقداء يستولون على منصب
الزعيم المدني. ويجري داخل الفئة الحاكمة في القبيلة أحياناً صراع طاحن من أجل
السلطة، وترفق ذلك دسائس وقتل وانشقاق في القبيلة.
وكان من بين
الوجهاء الحاكمين أيضاً عراف العادات والتقاليد في القبيلة(91).
إن تركز أهم
المناصب الاجتماعية في القبيلة البدوية بأيدي كبار الوجهاء يدل على أن السلطة أخذت
تفقد سماتها العشائرية. ولكن هل كانت لدى الشيخ مستلزمات السلطة الطبقية؟ وبعبارة
أخرى، هل كانت وظائفه العشائرية الخارجية تكتسب مضموناً آخر؟ نعم، بقدر معين. فمما
لا شك فيه أن الشيخ يخدم بالدرجة الأولى مصالح وجهاء البدو. فالوجهاء يستلمون
بمساعدته أفضل المراعي وأفضل موارد المياه وحصة كبيرة من غنائم الحرب. وكان الشيخ
لا يكتفي، لكي يفرض إرادته، باستخدام السخاء والمنزلة الشخصية الرفيعة، بل يعتمد
كلك على قوة الفخذ الغفير وعلى الأنصار وعلى مفرزته المكونة من العبيد
والمعتوقين.ولكنه رغم الاتجاهات الواضحة نحو تحول سلطة الشيوخ داخل القبيلة إلى
سلطة من النمط الإقطاعي ، فإنها،على ما نعتقد، لم تتحول بعد إلى سلطة إقطاعية في
تلك الحقبة.
وبغية إيضاح هذه
المسألة يجدر بنا أن نتأكد مما إذا كان لدى وجهاء البدو جهاز خاص يتواجد فوق
المجتمع وما إذا كانوا يستطيعون استخدام العنف بانتظام لفرض إرادتهم.
يقول فولني:
"إن نمط إدارة هذا المجتمع خليط، فهو في الوقت نفسه جمهوري وأرستقراطي وحتى
طغياني دون أن يكون دقيقاً في أي صفة من هذه الصفات. فهو جمهوري لأن الشعب في هذا
المجتمع يتمتع بالنفوذ الأول في كل الشؤون، ولا يجري أي شيء بدون موافقة الأغلبية.
وهو أرستقراطي لأن عوائل الشيوخ تتمتع بطائفة من الامتيازات الناجمة عن القوة في
كل مكان. وأخيراً فهو طغياني لأن سلطة شيخ المشايخ غير محدودة ومطلقة تقريباً.
وعندما تكون طباع الشيخ شديدة فيمكن أن يستفيد من سلطيه إلى حد سوء التصرف، ولكن
هناك حدود ضيقة نسبيا حتى لسوء التصرف هذا. حقاً، فإذا اقترف الشيخ ظلماً كبيراً،
إذا قتل إعرابياً مثلاً، فلا يستطيع تقريباً أن يتحاشى العقاب، فأن غضب الذين
أهانهم لا يجعلهم يعيرون اهتماماً للقبه، ولذا يتعرض للثأر، وإذا لم يدفع لقاء
الدم الذي أراقه فسيُقتل من كل بد…
وإذا أثقل على
رعيته بقساوته فأنهم يتركونه وينتقلون إلى قبيلة أخرى. ويستفيد أقرباؤه من أخطائه
بغية تنحيته والحلول محله. ولا يستطيع استخدام قوات أجنبية ضدهم. وإن رعيته
يتفاهمون فيما بينهم بسهولة لا تمكنه من التفرقة بينهم وتشكيل كتلة كبيرة مؤيدة
له. ثم كيف يستطيع شراء ذمم هذه الكتلة إذا كان لا يستلم من القبيلة أي ضرائب
عندما يضطر القسم الأكبر من رعيته إلى الاكتفاء بالضروريات وإذا كانت ملكيته ضئيلة
ومثقلة بنفقات كبيرة؟"(92).
ولاحظ بوركهادت
"إن الشيخ ليست لديه سلطة فعلية على أبناء قبيلته ولكنه يستطيع أن يحظى بنفوذ
واسع عن طريق خصاله الشخصية. وهو لا يتمكن من إصدار الأوامر ولكنه يقدم النصائح…
وإذا حدث خلاف بين أثنين من أبناء القبيلة فالشيخ يحاول تسويته بالنصح والإرشاد
وليس بوسعه أن يصر على رأيه. ولا يتمكن أقوى زعيم لقبيلة عنزة من فرض أبسط عقوبة
على واحد من أكثر أبناء قبيلته فقراً دون أن يجازف بالتعرض للثأر من قبل هذا الشخص
وأقربائه والعقوبة الوحيدة المعروفة في هذا القبيلة هي الغرامة المالية…"(93).
كان جهاز العنف
الطبقي عند البدو الرحل في طور الظهور. ولم تكن مقوماته الأساسية - الجيش والشرطة
والسجون والآلة الإدارية والمحاكم الطبقية - موجودة عملياً في القبيلة. وإن
المفرزة الشخصية للشيخ والمكونة من العبيد يواجهها التنظيم العسكري الديمقراطي
للقبيلة، وهو تنظيم أقوى منها بكثير. والحالات التي نعرفها لاستخدام العنف داخل
القبيلة تعود إلى مطلع القرن العشرين، مع إنها يمكن أن تحدث أيضاً في وقت
أسبق(94).
وفي ظل البنية
التي كانت قائمة في مجتمع الجزيرة عموماً لم تكن لوجهاء البدو الرحل موضوعياً
مصلحة في تحطيم التنظيم العشائري واستبداله بنوع من أنواع آلة الدولة. فبالاعتماد
على القدرة الحربية للقبيلة وعلى التنظيم القبلي فقط كان وجهاء البدو يمارسون
سيطرتهم الطبقية على مجاميع السكان المتواجدين خارج القبيلة.
الطابع
الإقطاعي للسلطة في الواحات.
لاحظت الباحثة والرحالة الإنجليزية بلانت الطابع المزدوج للسلطة البدوية. وكتبت
بلانت تقول: "المدن تطلب حماية شيخ مشايخ البدو في المنطقة، وهو يؤمن، لقاء
جزية سنوية، سلامة سكان المدن خارج أسوارها فيمكنهم من الترحال دون عائق على طول
المسافة التي تشملها سلطته، وهي، إذا كنا نقصد شيخ قبيلة قوية، سلطة تشمل مئات
الأميال ومدناً كثيرة وعند ذاك يقال أن المدن "عائدة" لهذه القبيلة أو
تلك، ويغدو الشيخ البدوي وصياً عليها أو حاميها الرئيسي…
ثم يستمر التطور.
فالشيخ البدوي الذي يثرى على حساب الجزية من عدة مدن يبني لنفسه قلعة قرب إحدى تلك
المدن ويقضي أشهر الصيف فيها. ثم يغدو بسرعة حاكماً للمدينة في الواقع بفضل مكانته (لأن أصله البدوي ما يزال يعتبر هو
الأنقى) وبالاعتماد على سيطرته في البادية، يتحول الشيخ من وصي على سكان المدينة
إلى سيد لهم. وعند ذاك يمنحونه لقب الأمير، فيغدو ملكاً لجميع المدن التي تدفع له
الجزية مع بقائه شيخاً للبدو.
(التشديد للمؤلف).
ومن جهة أخرى فإن
الرأي العام في المدينة يقيد الأمير البدوي بقدر أكبر، مع أنه يمكن أن يكون طاغية…
فالأمير وأن كان حراً في تصرفاته الفردية ولكنه يعرف جيداً بأنه لا يمكن أن يخرق
قانون الجزيرة التقليدي غير المدون ويبقى بدون عقاب"(95).
كانت عملية تحول
وجهاء البدو إلى طبقة مسيطرة على الحضر في الجزيرة العربية قد جرت بالتدريج. علماً
أنه يمكننا ملاحظة الأشكال المتنوعة في العلاقات المتبادلة بين الوجهاء وبين
القبيلة والسكان الحضر ونمط الحياة المتباين والسلوك المختلف في الحياة المعيشية.
وإن شيوخ القبائل الأقوياء أو شيوخ اتحادات القبائل كان بوسعهم أن يفرضوا السيطرة
على الواحات أو على مجموعة منها. ولكن وجهاء القبائل يصادف أن يحافظوا على نمط
الحياة البدوي ويظلوا شيوخاً بدويين في الغالب. والمثال على ذلك هو أبناء آل حميد
من قبيلة بني خالد الذين سيطروا في القرنين السابع عشر والثامن عشر على منطقة
الأحساء الزراعية الغنية، ولكنهم فضلوا، مثل الأمويين الأوائل، البقاء في قبيلتهم
المترحلة. ولم يكن ذلك يمنعهم من الاحتفاظ بحاميات في الواحات الأساسية.
وبعد الاستيلاء
على السلطة في الواحات كان أبناء وجهاء البدو ينفصلون عن قبائلهم ويتحولون إلى
حكام إقطاعيين حضر . علماً أن مطامعهم الاستغلالية إزاء سكانهم الزراعيين كانت
تتعارض مع مصالح البدو الذين يشاركونهم في استلام الاتاوات. وبعد أن يتحول شيوخ
البدو السابقون إلى قسم من وجهاء الحضر يقومون بالدفاع عن ممتلكاتهم ومداخيلهم دون
اعتداءات البدو الرحل. ومن هذا الأصل يتحدر أمراء الدرعية السعوديون وحكام حائل
الرشيديون.
وأخيراً يقوم
الحاكم الحضري القوي، بالتحالف مع بعض القبائل البدوية أو بصورة مستقلة بغزوات على
البدو المجاورين فينهبهم ويرغمهم أحياناً على دفع الإتاوات.
لم تكن السلطة في
الواحات متركزة دوماً في أيدي أشخاص بعينهم. ففي بعض الأحيان كان المزارعون
المتحدرون من قبائل مختلفة يتنازعون فيما بينهم ولا يخضعون لحاكم واحد، إذا أن
لديهم شيوخهم وأمراءهم.
كانت سلطة الأمير
الحضري تختلف اختلافاً جوهرياً عن سلطة الشيخ البدوي. فالحاكم في الواحة لا يواجهه
تنظيم عسكري ديمقراطي عشائري. وكان المزارعون الذين ضعفت روابطهم العشائرية رازحين
تحت تبعية لوجهائهم أكبر بكثير من تبعية البدو. لذلك فلا يثير الدهشة أن ينعت
مؤرخو الجزيرة سكان الواحات بالرعية. وكان الأمير الإقطاعي يعتمد من جهة على وجهاء
الواحة الذين تربطه بالكثيرين منهم صلة القربى، ومن جهة أخرى يعتمد على مفرزته
الخاصة المكونة من العبيد والمعتوقين والجنود المرتزقة. وكان النظام القضائي في
الواحات مبنياً، عادة، على أساس الشريعة الإسلامية. ويمارس الأمير شخصياً أمور القضاء
إلى جانب القاضي الذي يتحلى بإعداد حقوقي وفقهي.
إن التركيب
السياسي لإمارة جبل شعر التي وصفها الرحالة في أواسط القرن التاسع عشر والنصف
الثاني منه يمكن أن يعتبر تكراراً لسمات تنظيم السلطة في الدويلات - الواحات في
وسط الجزيرة في القرن الثامن عشر. كان أمراء حائل يديرون الدولة بمساعدة أقربائهم،
وبصورة رئيسية بمساعدة العبيد والمعتوقين الذين يتمتعون بثقة الحاكم بقدر أكبر مما
يتمتع به أقرباؤه علماً أن مشايخ آل رشيد اعتمدوا على مفارز من العبيد والمرتزقة.
وكان زعماء العبيد الذين يسمون بزلم الشيوخ يتسلمون أهم المناصب في البلاط ومناصب
الموظفين في جهاز الدولة الناشئ. وكانوا ولاة أو عمالاً في الواحات. وكانت أهم
الدعاوى القضائية وبعض القضايا المدينة ينظر فيها في مجلس الأمير الذي يعقد جلساته
أمام الملأ، ويشارك فيه ممثلو وجهاء حائل وكبار علماء الدين. وكان حرس الحاكم نفسه
يضطلع بدور الشرطة في أمارة مشايخ آل رشيد. كما كان هناك سجن في حائل وكانت
العقوبات على الجرائم هي مصادرة الأموال والضرب بالعصي وقطع اليد(96).
إلا أن نظام
الدولة في الواحات الأخرى كان أقل تطوراً. فإن دوتي الذي زار عنيزة، المركز
التجاري الكبير في القصيم، لم يجد هناك سجناً(97).
ومن السهل أن
نلاحظ أن سند السلطة الإقطاعية في الواحات هو حرس العبيد.فهذا الحرس المعتمد كلياً
على سيده وغير المرتبط بالسكان المحليين، وسيلة ناجحة للسيطرة السياسية علماً بأن
العبيد - المحاربين والشرطة والموظفين والعمال - كانوا يتمتعون بمكانة متميزة
ويحصلون على مداخيل كبيرة، وقد تحولوا في الواقع إلى جزء من الطبقة الحاكمة، مع
أنه جزء خاص ذو حقوق مبتورة. وكانت فئة العبيد قد حصلت في بعض الحالات على وزن
ونفوذ كبيرين فادعت أحياناً بالسلطة العليا واستولت عليها. وحدث ذلك، مثلاً، في
الرياض في النصف الأول من القرن الثامن عشر، وكذلك في مكة في أواخر الثمانينات من
القرن المذكور(98). وتجلى تأثير القوة العسكرية لمفارز العبيد بقدر ما على مشايخ
البدو أيضاً إلا أن إمكانية تحول العبيد إلى طبقة حاكمة في الجزيرة العربية لم
تتحقق في سياق التطور التاريخي. ولكن الحرس التركي في عهد العباسيين والمماليك في
مصر دليل على مدى الشوط البعيد الذي يمكن أن تقطعه مثل هذه الاتجاهات في المجتمع.
الفئات
والمراتب في مجتمع الجزيرة. إن
البنية المتعددة الجوانب لمجتمع الجزيرة قد تعقدت بقدر أكبر بسبب عناصر التقسيم
الفئوي والعادات والتصورات المرتبطة بها. وكانت هذه العناصر نابعة بالأساس من
النشاط الاقتصادي والعلاقات العشائرية والتقسيم الطبقي والخصائص النفسانية.
كان البدو من رعاة
الإبل بالذات يعتبرون في الجزيرة من أنبل ممثلي النوع البشري. وكانوا هم أنفسهم
على اعتقاد راسخ بتفوقهم على الحضر وأشباه البدو. وكانوا يعتبرون العمل الوحيد
اللائق بهم هو الغزو وتربية الإبل والقوافل وأحياناً التجارة. وكان رعاة الغنم في
القبائل البدوية الكريمة المحتد يشغلون مرتبة وضيعة ولا يتمتعون بالاحترام. وان
تحول البدوي من راع للإبل إلى راع للغنم أو مزارع يهبط به من منزلته
"الرفيعة" لدرجة تجعل من الصعب عليه العودة إلى حظيرة البدو
الاقحاح(99). وكان البدو يبررون رفعة منزلتهم بانتسابهم إلى أصول تغوص في أعماق
القرون(100).
ويقف في الدرجة
التالية من سلم المراتب رعاة الغنم الذين ينظرون إلى الحضر باستعلاء. ويأتي بعدهم
الزراع إذا تهيأت لهم إمكانية الوصول بأنسابهم إلى أجداد كريمي المحتد. إن التفاوت
في مراتب هذه الفئات من السكان يعززه عدم وجود علاقات متينة للتزاوج فيما بينها.
ومن النادر أن يوافق البدوي المعدم على تزويج ابنته من فلاح موسر.
وكان الوجهاء
يحتلون منزلة أعلى من هذه الفئات الثلاث من سكان الجزيرة العربية والتي تتميز
بدرجات مختلفة من المحتد الكريم. وكان الوجهاء يعتبرون أنفسهم أرقى من سائر البدو
الرحل بقدر ما يعتبر هؤلاء أنفسهم أنبل من الزراع. وان بيوتات شيوخ مشايخ القبيلة،
خلافاً لسائر أبناء القبيلة الذين يعتبرون أنفسهم خلفاً لجد واحد، غالباً ما تدعي
بأصول تختلف عن الأصول النبيلة الخاصة بالقبيلة كلها. إن دم أفراد عائلة الشيخ
(عند البدو) يفوق التقدير أو أنه (عند أشباه البدو) أغلى من دم سائر أبناء
القبيلة. وكان الشيوخ يخرقون أصول الزواج العشائري المرسومة بالعادات والتقاليد فيزوجون
بناتهم من شيوخ قبائل أخرى ولا يتزوجون هم إلى من بنات الشيوخ، علماً بأن المهر
المتعارف عليه بين الشيوخ أعلى بكثير من المهر العادي. ونعت دوتي وجهاء القبائل
"بالأرستقراطية من حيث الدم والأصل (الجد المشترك)"(101). وكان هذا
أيضاً هو رأي فولني، حيث يقول: "تضم كل قبيلة عائلة أو عدة عوائل رئيسية يحمل
أبناؤها لقب الشيوخ. وهذه العوائل تماثل عوائل الأعيان في روما والنبلاء في
أوربا"(102).
وكان الإقطاعيون
الحضر يتباهون بتحدرهم من وجهاء البدو. وفي بعض الأحيان حاولوا الحفاظ على نمط
الحياة البدوي واحتفظوا بأواصر القربى مع وجهاء البادية.
وكانت القبائل
"الوضيعة" (هتيم وغيرها) منبوذة في مجتمع الجزيرة. وإذا نعت شخص ما من
قبيلة باسم تلك القبائل فهو يعتبر ذلك إهانة بالغة. وكان على أبناء القبائل
"الوضيعة" أن يقدموا آيات التبجيل للأعراب الكريمي المحتد. والذين تجري
الدماء الطاهرة في عورقهم لا يتزوجون أبداً من بنات القبائل
"الوضيعة"(103). وتتحدث عن أصول هذه القبائل حكايات وأساطير تحط من
سمعتها. ولكن ذلك لم يمنع شباب عوائل الوجهاء من الأستفادة من التسيب الخلقي في
القبائل "الوضيعة" وإقامة علاقات غرامية مع المحظيات منها. والشعر البدوي
الشفهي مليء بالأمثلة من هذا النوع(104).
ويعتقد بعض
الباثين في العلم المعاصر أن أصول بعض القبائل "الوضيعة" تعود إلى ما
قبل العرب بل وحتى إلى ما قبل السامين(105). ويرى آخرون إنها ظهرت في الجزيرة بعد
ظهور العرب(106).
كان الصناع في
مجتمع الجزيرة أكثر احتقاراً من القبائل "الوضيعة"، وكان احتراف
الصنائع، وخصوصاً النسيج، أحط عمل يمكن أن يمارسه الإعرابي. وكانت كلمة
"الصانع" تطلق للإهانة والتحقير. وحتى أبناء القبائل
"الوضيعة" كانوا يستنكفون من الدخول في علاقات زواج مع الصناع. وقد شَكَّل
بعض الصناع (وخصوصا الحدادون) طائفة منعزلة منتشرة في أرجاء شبه الجزيرة كافة
وكانوا يعتبرون أنفسهم أبناء قبيلة واحدة(107).ولم يكن تنظيمهم يشمل الصناع من بين
المعتوقين والأجانب.
وعلى أوطأ درجة من
السلم الاجتماعي في الجزيرة العربية يتواجد العبيد والمعتوقون. فهم وحدهم يقدمون
على الزواج من بنات القبائل "الوضيعة" والصناع،. ولا يستبعد أن يكون ذلك
بالذات هو السبب في التفرد الاثنوغرافي للقبائل "الوضيعة" والصناع.
إن تقسيم مجتمع
الجزيرة إلى فئات ومراتب غالباً ما لا يتوافق مع تقسيمه إلى استغلاليين ومستغلين.
فلدى كل فئة "منبوذة" من فئات السكان - القبائل "الوضيعة"
والصناع والعبيد - نخبة من أبنائها. وفي بعض الأحيان تتجاوز ثروة هذه النخبة ليس
فقط ثروة البدو العاديين، بل حتى بعض وجهاء البدو. فالعبيد (من موظفي كبار
الإقطاعيين) تفوق أحياناً على من وجهاء الحضر والبدو. إلا أن أكثر البدو فقراً كان
ينظر باستعلاء إلى العامل أو الوالي الزنجي المتنفذ، وما كان يوافق على تزويجه من
أبنته في أي حال.
مجتمع
الجزيرة من خلال تطوره. مما لا شك فيه
أن المجتمع الطبقي الاستغلالي كان موجداً في الجزيرة العربية في القرنين الثامن
عشر والتاسع عشر. إلا أن الحدود الطبقية فيه تمتد بخطوط متعرجة ليس فقط بين
الأغنياء والفقراء، بين الوجهاء والرعية، بل كذلك بين البدو من رعاة الإبل والسكان
شبه الرحل والحضر، بين القبائل الكريمة المحتد والقبائل "الوضيعة"، بين
الأحرار والعبيد. وفي بعض الحالات تطمس هذه الحدود في غمار العلاقات العشائرية
والفوارق الفئوية.
فهل يجوز القول إن
النظام الاجتماعي موضوع البحث قد نشأ في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر فقط؟
كلا، بالطبع. صحيح أن قضية تحديد الأطر الزمنية لوجوده تتطلب دراسة خاصة. إلا أن
بعض معلومات الأوربيين،مثلاً، عن الحياة في الجزيرة خلال القرون الوسطى لا
تتعارض مع المعلومات الأحدث. ومما يعزز
وجهة النظر هذه ما كتبه أبن خلدون عن مجتمع شمال أفريقيا في القرن الرابع عشر، في
المنطقة الصحراوية وشبه الصحراوية، والذي يتميز بكثير من السمات المشتركة مع مجتمع
الجزيرة العربية، حيث انتقلت العلاقات الاجتماعية للقبائل العربية دون شك، مع
ترحالها إلى شمال أفريقيا، فإن سمات النظام الاجتماعي في الجزيرة العربية في
القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مثل الحمية والدخلة واستبدال الثأر بالتعويض وحرس
العبيد في مكة، كانت معروفة في الجزيرة منذ
فجر الإسلام(108)، مع أنه لا يستبعد أن مضمون بعض الأنظمة اتسم خلال القرون
العديدة بصبغة طبقية لدرجة أكبر. إن الصعاليك
من شعراء الجاهلية يشبهون كثيراً فقراء البدو في القرنين الثامن عشر
والتاسع عشر، في حين كان نعت ممثلي وجهاء القبائل في القرنين السادس والسابع هو
"أصحاب المئات" (المقصود مئات الإبل)(109). ونظراً لعدم حدوث أي تغيرات
ثورية في تطور القوى المنتجة في الجزيرة خلال القرون الأخيرة حتى حلول القرن
العشرين، يمكن الافتراض أن مثل هذا النظام الاجتماعي ظل باقياً أمداً طويلاً مع
بعض التعديلات والتعمق التدريجي للفوارق الطبقية.
ومنذ عهد النبي
وحتى ظهور الوهابية لم تشهد الجزيرة العربية السلطة الموحدة والاستقرار والوئام.
وطوال القرون ظلت مجزأة في الغالب إلى دويلات - واحات صغيرة أو اتحادات لتلك
الدويلات وإلى قبائل مترحلة أو اتحادات لتلك القبائل. وكان التشتت الاقتصادي
للواحات والقبائل التي هي وحدات اقتصادية مستقلة، وكذلك نطاق البادية الخالية في
الجزيرة حيث كانت جزائر الحياة البشرية متباعدة عن بعضها بعضا لمئات الكيلومترات،
بمثابة عوامل للامركزية.
ومما أعاق التوحيد
كذلك الفوارق القبلية والمحلية بين سكان الجزيرة ولهجاتهم وتنوع وتناقض المذاهب
والمعتقدات الدينية.
وكانت لوجهاء
القبائل والحضر مصلحة في توسيع حدود سلطتهم من أجل زيادة مصادر الإثراء. واصطدمت
مطامح كل من كتل وجهاء القبائل والحضر بمصالح جيرانهم المماثلة. واستنزفت القوى في
الصراع بينهم. ولكنه صادف أن هذه الكتلة أو تلك من الوجهاء تنشر سيطرتها على نطاق
واسع بالاعتماد على القدرة العسكرية للبدو والحضر وبزعامة قائد موهوب. وبالنتيجة
نشأت دول على مساحات واسعة نسبياً. وكان التوسع المشترك الذي يؤمن غنائم الحرب
حافزاً رئيسياً للتوحيد. وكانت في الجزيرة العربية مناطق شاسعة اختلطت فيها قوى
الفوضى العشائرية اللامركزية بالقوى التوحيدية المركزية. وتلك المناطق هي الحجاز
ونجد والأحساء واليمن وعمان.
وبنتيجة إحلال
الأمن وتقاطر الثروات من الخارج كان من الممكن في أراضي الاتحادات الكبيرة على
صعيد الدولة أن يجري تطور القوى المنتجة بوتائر أسرع بعض الشيء. ولكن الحماس
الحثيث كان يستنفذ فيما بعد، ويؤدي الصراع الداخلي والتنافس إلى تفتت متانة
السلطة، ويشدد الوجهاء استغلال السكان الخاضعين لهم فيسببون بظهور مقدمات التذمر
الداخلي، وتتفوق القوى اللامركزية الطاردة وتنهار الدول. وكانت هذه العملية تسير
بسرعة في حالة الكوارث الطبيعية أو تفشي الأوبئة.
ولذلك يمكن القول
أن قوى التوحيد الكامنة كانت موجودة طوال القرون في الجزيرة العربية المجزأة، وأن
مفعول قوى التحلل الجبارة كان يبدأ في أي دولة مركزية تنشأ هناك.
ولا تستثنى من ذلك
الدولة السعودية الأولى في الجزيرة العربية. ولكنها بلغت قوة واتساعاً لم يسبق
لهما مثيل منذ فجر الإسلام، في حين ترك العصر أثره في طابعها وقرر مصيرها.
الإمبراطورية
العثمانية والجزيرة العربية. ضعف النفوذ الأجنبي في الجزيرة عند أواسط القرن
الثامن عشر. كانت الدول
الإسلامية الكبرى التي نشأت وسقطت في الشرقيين الأدنى والأوسط قد أثرت بصورة
مباشرة أو غير مباشرة على الجزيرة العربية. واعتباراً من القرن السادس عشر صار
الأتراك العثمانيون عاملاً دائماً للسياسة في الجزيرة. فعلى أثر احتلالهم لمصر جاء
دور الحجاز ثم اليمن والأحساء وسائر مناطق الجزيرة العربية. وعين الباب العالي
والياً له في جدة - البوابة البحرية لمكة. ورابطت حاميات تركية غير كبيرة بين فترة
وأخرى في مكة والمدينة وجدة وبعض المناطق الأخرى. وأرسلت الأستانة بعض الموظفين
إلى مكة والمدينة. ومع ذلك كانت سلطة العثمانيين في الحجاز اسمية، وكان الحكام
المحليون يتمتعون باستقلال كبير.
كانت السلطة في
مكة بأيدي عوائل الأشراف المتنافسة التي كانت تبعث إلى والي مصر والسلطان العثماني
نقوداً وهدايا ثمينة. إلا أن مكة كانت مدينة متميزة تعيش على الحج والتبرعات
الخيرية من العالم الإسلامي كله. وكان السلاطين الجبابرة والمسلمون الأطهار
يتبرعون بالأموال لترميم الكعبة والمساجد والإنفاق عليها ولشق القنوات. وكان قسم
من هذه الأموال يبقى قي المدينة ولا يندر أن تستقر في خزنة الشريف. كانت مكة منطقة
هامة للعثمانيين، ولكنها بعيدة جداً فلم يستطيعوا أن يقيموا سيطرتهم المباشرة
عليها، وفضلوا الإبقاء على حكامها المحليين. وكانت عوائل الأشراف المقيمة في
الأستانة مستعدة دوماً للمشاركة في دسائس الباب العالي السياسية(110).
وعلى تخوم القرنين
السادس عشر والسابع عشر، في فترة الفتن والقلاقل التي اجتاحت الإمبراطورية
العثمانية، اكتسب وسط وشرق الجزيرة العربية الاستقلال الفعلي عن العثمانيين مع أن
والي بغداد ووالي البصرة ظلا حتى أواخر القرن السابع عشر يؤثران على سير الأحداث
في الأحساء ونجد.
وفي مطلع القرن
الثامن عشر دخلت الإمبراطورية العثمانية مرحلة الأفول بعد هزيمة معركة فيينا عام
1683. ومع أن العثمانيين استطاعوا في العقود الأولى من القرن الثامن عشر أن
ينتصروا على الفرس في الشرق فإن ذلك لم يغير شيئا في سير الأمور. كانت
الإمبراطورية العثمانية ما تزال تمتلك مساحات شاسعة في أوروبا وآسيا وأفريقيا حيث
تركزت الثروات الطبيعية والموارد البشرية، إلا أن أساس الجبروت العثماني - النظام
العسكري الإقطاعي - أخذ يتفتت دون رجعة. وتدهورت القوة الكفاحية للانكشارية الذين
أسسوا عوائل ومارسوا الحرف والصنائع والتجارة. وحل التسيب والفساد محل الانضباط
السابق لدى جنود وموظفي الإمبراطورية العثمانية.
وبنتيجة الهزائم
الحربية انتفى أهم مصدر لعائدات الطبقة الحاكمة - نهب المغلوبين عسكرياً. فأخذ
الولاة والموظفون العثمانيون ينهبون دون رحمة سكان الإمبراطورية الكادحين وبالدرجة
الأولى الفلاحين. وجرى بوتائر سريعة خراب الزراعة التي هي أساس اقتصاد
الإمبراطورية العثمانية.
ولم تكن الحياة
ولا الملكية مضمونة في الإمبراطورية العثمانية. وكان السلطان وولاة الأقاليم
والإقطاعيون والموظفون الأصغر غالباً ما يعدمون الناس لسبب واجد هو مصادرة أموالهم
فيما بعد. ولم يتمتع بالأمان الشخصي وحصانة الملكية إلا علماء الدين. وبغية تحاشي
المصادرة كان أصحاب المقاطعات المدمرون وصغار المالكين يحيلون مزارعهم ودورهم إلى
الأوقاف ويستخدمونها على سبل الإيجار.
وحصلت أقاليم
الإمبراطورية العثمانية على المزيد من الاستقلال ووقعت تحت سلطة الكتل الإقطاعية
الضارية شبه التابعة. ولا يثير الدهشة أن يفقد الباب العالي السلطة في هذه الظروف
على أراضي الجزيرة العربية أيضاً.
صار أشراف مكة
يتصرفون بمزيد من الاستقلال ولا يعيرون اهتماما كبيراً للعثمانيين. وصار السلاطين
يمنحون لقب والي جدة إلى أشخاص لا يظهرون في الحجاز على الأغلب، وأخذ أشراف مكة
يستأثرون بحصة متزايدة من مداخيل جمارك جدة، وقبائل البدو تسيطر على طرق الحج
الأخرى. وكانت متانة موقع الباب العالي في الحجاز آنذاك تحددها ليس قوته العسكرية
بقدر ما تحددها مصلحة وجهاء الحجاز والسكان جميعاً بمداخيل الحجاج القدمين بالأساس
من الإمبراطورية العثمانية، وبالهدايا الثمينة من السلاطين العثمانيين(111). أما
اليمن فقد أحرزت الاستقلال الرسمي والفعلي بعد الغزو العثماني في النصف الثاني من
القرن السابع عشر.
في سبعينات القرن
السابع عشر لمَّ المدعو براك، وهو شيخ أحد "أفخاذ قبيلة بني خالد، شمل
القبيلة كلها وطرد المفارز العثمانية الصغيرة من واحات الأحساء وحمى شرق الجزيرة
حتى من شبح السيطرة العثمانية(112).
وكان تضاؤل التدخل
الأجنبي في شؤون الجزيرة العربية قد تجلى كذلك في الضعف التدريجي الذي أصاب مواقع
البرتغال على سواحل الخليج العربي. وفي أواسط القرن السابع عشر طرد البرتغاليون من
عمان بعد أن استولوا عليها في القرن السادس عشر. أما الإنجليز والفرنسيون فإن بوسعهم
الاستعماري في الجزيرة العربية بعود على الأكثر إلى النصف الثاني من القرن الثامن
عشر. وكان اقتحام الفرس للمدن الساحلية في شرق الجزيرة في مطلع القرن الثامن عشر
يجري عرضاً ولم يؤد إلى تثبيت أقدامهم في هذه المنطقة من الجزيرة العربية.
كانت الجزيرة
العربية قبل ظهور الوهابيين متروكة لحالها بقدر كبير طوال عدة عقود من السنين.
نجد
والحجاز والأحساء في النصف الأول من القرن الثامن عشر. تعرض وسط الجزيرة في القرن السابع عشر ومطلع القرن
الثامن عشر لغزوات جيرانه من الشرق والغرب، مع أن ذلك لم يستبعد بعض الحملات
الموفقة التي قامت بها القبائل النجدية على واحات وقبائل الحجاز والأحساء. كان
الحجازيون قد هاجموا تقريباً كل مناطق نجد، وبالدرجة الأولى القصيم، كما هاجموا
القبائل البدوية في وسط الجزيرة - عنزة ومطير والظفير. وكان بعض قبائل وواحات وسط
الجزيرة تدفع الأتاوات لحكام مكة. ويذكر أبن بشر بعض الأشخاص من وجهاء الحجاز
وينعتهم بأشراف نجد(113).
وفي بداية القرن
الثامن عشر تدهورت الحالة الاقتصادية في الحجاز. وبنتيجة المجاعة المرعبة خلت مكة
من أهلها(114). وأشتد فيها الصراع من أجل السلطة والنزاعات الداخلية حتى لم يعد
بمقدور الحجازيين القيام بحملات على باطن الجزيرة. وكانت آخر الحملات الكبرى على
نجد عد قامت في أواسط عشرينات القرن الثامن عشر(115).
كان براك شيخ بني
خالد قد بدأ بعد أن سيطر على شرقي الجزيرة بغزوات على البدو المترحلين بين الأحساء
ونجد، ثم بغزوات على نجد. وواصل خلفاؤه توسعهم. وتعرضت الخرج وسدير وثادق والعارض
لغزوات الأحسائيين. وفي عام 1722/1723 توفي زعيم بني خالد بن سعدون عريعر(116).
وأدت الحزازات التي أعقبت ذلك إلى إضعاف الوحدة لدرجة كبيرة.
ولم تكن في نجد
اتحادات كبيرة تلعب دور القوة المسيطرة. فقد احتفظت بعض الواحات والقبائل باستقلالها.
وحتى الواحات - المدن، مثل العيينة والدرعية والرياض، التي كان مقدراً لها أن تلعب
دورا هاما في الصراع من أجل الزعامة في نجد، لم تكن ترتفع إلى أعلى من المستوى
المتوسط. وكانت مزيتها تكمن في أنها جميعاً واقعة في منطقة العارض، وهي المنطقة
الوسطى في نجد، حيث تلتقي كل الطرق التجارة. إلا أن الموقع الجغرافي وحده لا يعطي
مبرراً للاعتقاد بأنها بالذات كانت تستطيع أن تغدو مركز للدولة الموحدة لعموم يجد
ناهيك عن عموم الجزيرة.
ومن المستبعد
إمكان الموافقة على تأكيد فيلبي من أن الدرعية كانت في مطلع القرن الثامن عشر إحدى
المدن التي تدعي بالسيطرة ليس فقط في نجد وحدها، بل وحتى في الجزيرة العربية
كلها(117). فقد قال مؤلف "لمع الشهاب" أنه لم يكن في نجد "رئيس
قاهر يردع الظالم وينصر المظلوم بل كان كل من الحكام حاكم بلده مدينة كانت أو قرية
وفي بدوها كذلك كل طائفة منهم لها شيخ وكبير يرجع أمرهم إلية… والبلدة ذات قبائل
شتى يرعون البراري والقفار ويشربون المناهل والآبار وحكومة كل شيخ في قبيلته
برضاها فكل من تقدم كرماً وشجاعة رضوا به كبيراً لهم. وفيهم مشايخ صار في القبيلة الواحدة نفسها يخالفون رأي المشايخ
الكبار… وكان أهل المدن في نجد دائما بعضهم يحارب بعضا"(118).
كان الوضع في
القسم الأوسط من نجد في العقود الأولى من القرن الثامن عشر يتميز بتوازن القوى بين
الخصوم الرئيسيين. فقد اجتازت الدرعية تواً مرحلة القلاقل والفتن الداخلية والصراع
من أجل السلطة بين الوجهاء الحاكمين. وكان القتل والخيانات تتوالى الواحدة تلو
الأخرى، إلى أن صار مؤسس سلالة السعوديين، سعود بن محمد بن مقرن أميراً للواحة في
العقد الثاني. ويعتبر بعض السعوديين أنفسهم من قبيلة بني حنيفة، بينما يعود بعضهم
الآخر بنسبهم إلى عنزة أكبر وأقوى قبيلة في وسط وشمال الجزيرة(119).
لم يكن عهد سعود
طويلاً. فقد توفي في حزيران (يونيو) 1725(120 )، وبعد وفاته تنافس على رئاسة
الواحة عدة أشخاص تنافساً مستميتاً. واقترن الصراع بينهم بخيانات متبادلة وقتل عدة
أشخاص لبعضهم بعضاً. وأخيراً شغل مكان سعود أبن عمه زيد(121).
كان حكام العيينة
في تلك السنوات مشغولين بالحروب ضد جيرانهم في منفوحة وثادق، وكذلك ضد القبائل
البدوية في أطرافهما. ولم تتجاوز العمليات الحربية نطاق الحملات المحلية. وفي عام
1725/1726 اجتاح العيينة وباء الكوليرا(122 ). وكانت الضربة التي تلقتها شديدة
لدرجة جعلتها تخرج لسنوات طويلة من الصراع في سبيل السيطرة على وسط نجد.
وانتهز زيد هذه
الفرصة فهاجم الواحة الخالية في العام التالي. وأعرب أمير العيينة محمد بن معمر عن
استعداده للخضوع له، ولكنه استدرج الدرعيين إلى منزله وقتل زيداً. وتمكن محمد بن
سعود من الفرار مع جماعة من المحاربين.
فصار أميراً للدرعية(123).
وفي أواخر
الثلاثينات ومطلع الأربعينات استولى على السلطة في الرياض دهام بن دواس وهو رجل
همام نشيط ظل طوال عدة عقود من أشد خصوم الدرعية تصلباً. واليكم قصة توليه السلطة
كما كتبها أبن غنام: "كان أبوه رئيساً في بلد منفوحة متغلباً عليها فقتل
أناساً من جماعته من المزاريع ظلماً وعدواناً، وبقي بعد ذلك زماناً ثم مات. وتولى
بعدة أبنه محمد، فقام عليه أبن عمه زامل بن فارس هو وبعض أهل منفوحة فقتلوه وأجلوا
إخوانه، ومن جملتهم دهام وأخوته، فاستوطنوا الرياض وكان واليها إذ ذاك زيد بن موسى
أبا زرعة. فلما قتل زيد المذكور على غير سبب مأثور، وكان الذي قتله أحد أبناء عمه،
وكان معتوه العقل صعد إليه وهو نائم في علية له فذبحه بسكين معه. فلما قتله جاءه
عبد لزيد يقال له خميس فقتله… فتغلب العبد المذكور على بلد الرياض، وكان أولاد زيد
إذ ذاك صغاراً له وزعم أنه قابض لهم حتى يتأهلوا لذلك. فأقام والياً عليها مدة
يسيره نحو ثلاث سنوات ثم هرب خميس من الرياض خوفاً من أهلها لأمور جرت منه فأقام
في الحاير مده ثم أتى منفوحه فأقام بها مده، ثم عدا عليه رجل من أهلها كان قتل
أباه زمن رياسته على الرياض فقتله ثم بقيت الرياض مدة يسيرة بلا رئيس، وكان دهام
بن دواس مدة تغلب خميس على الرياض خادماً له. فلما بقيت الرياض بعد هروب خميس بلا
رئيس ترأس فيها دهام بشبهة أن أبن زيد أبا زرعة نهو أبن أخت دهام، فزعم أنه يكون
نائباً عنه في ذلك حتى يكبر ويعقل ثم بعد ذلك يتخلى له عن الولاية فأجلاه عن
البلاد. كرهه أهل الرياض وسعوا في عزله إذ لم يكن لهم حيله إلى قتله، فاجتمعوا
عليه وأحاطوا بقصره وحصروه فيه، وكانوا عامة وغوغاء ليس لهم رئيس. فأرسل أخاه
مشلباً راكباً فرساً إلى محمد بن سعود أمير الدرعية يطلب منه النجدة والنصرة على
تلك الرعية… فقام له محمد بالنصرة أتم قيام، وأرسل أليه من الجنود فئام ورئيسهم
مشاري بن سعود، فبلغ دهام بمجيئهم المرام والمقصود، فخرج من قصره مع تلك الجنود
وقتلوا من أهل الرياض ثلاثة أو أربعة رجا ل ثم فروا بلا توان ولا إمهال، فبعدها قر
ملكه فيها وأقام رئيسها وواليها وأقام مشاري عنده شهوراً، ولم يتوقع ما صدر من
الخبيث الشرور، فاستفحل أمره وتعاظم فجره ومكره وتزايد على الرعية شره وتوالى
عليهم ضره وتظاهر بأمور وأعلن بفجور تحاكي الأفعال النمرودية والقضايا الفرعونية:
فمنها أنه غضب يوماً على امرأة فأمر بفمها أن يخاط… ومنها أنه غضب يوماً على رجل
فقطع من فخذه قطعة وقال: لا بد أن يسيغها مضغة مضغة. فحاول الرجل المعذب بعد أن لم
يجد له مهرباً أن يأكلها بعد أن تشو فلم يسعفه بذلك فأكلها نعوذ بالله من البلوى.
ومنها أنه غضب يوماً على رجل مسجون ذكر له أنه فك بأسنانه الحديد، فأمر بمقمعة من
حديد فضربت بها أسنانه… ومنها أنه غضب على رجل آخر فأمر بقطع لسانه فقطعه بعض
أعوانه، وله قضايا مثل هذه كثيرة"(124).
هذا المقتطف من
أبن غنام عن تولي دهام بن دواس السلطة، وكذلك المواد الخاصة بتطور الأحداث في
الدرعية والعيينة، إنما تكشف عن الصراع من أجل السلطة والنزاعات الضارية والغزوات
المدمرة المتبادلة والنهب والسلب، مما صار من أصول الحياة السياسية في نجد في
النصف الأول من القرن الثامن عشر. ومما ساعد على تزعزع الحكم عدم الوضوح والدقة في
حق الميراث. فلا يندر أن يهب أخوة الحاكم المتوفي وأبناء عمومته ضد أبنائه. ولا
يمكن تفسير استيلاء عبد على السلطة في الرياض في تلك الحقبة إلا بتزعزع نظام
الإدارة الإقطاعية في الواحات.
وقد بلغ تعسف
وطغيان الوجهاء في الواحات أقصى الحدود. واتخذ الاستغلال طابعاً وحشياً. وهناك
مبررات للقول بأن اشتداد استغلال المزارعين من قبل الإقطاعيين قد أدى إلى اشتداد
الصراع الطبقي. فقد كتب أبن غنام عن انتفاضة السكان المتذمرين من دهام إلى حد
الغليان، ويمكن اعتبار إرسال أبن سعود أخاه لنجدة دهام مظهراً للتضامن الطبقي بين
الإقطاعيين. ويبدو أن بعث الوهابيين للأصول الإسلامية القديمة التي تحرم الفوائد
الربوية كان رد فعل على تعسف المرابين القاسي.
وفي القرن الثامن
عشر تدهور الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية. وكان الركود الاقتصادي في
الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر ودمار القوى المنتجة وتقلص التجارة كل
ذلك قد أدى في بعض الأحيان إلى تقلص مشتريات واسطة النقل الرئيسية - الإبل. وتدهورت
التجارة مع الهند عبر الحجاز(125). وكانت النزاعات والحزازات في الإمبراطورية
العثمانية والخراب الذي أصاب السكان قد أدت إلى تقلص الحج. وكانت لذلك كله أثار
أليمة على بدو الجزيرة.
ويمكن الافتراض
بأن الحروب العثمانية الفارسية المدمرة في مطلع القرن الثامن عشر قد تركت أثراً
فتاكاً على الحج من إيران والعراق، الأمر الذي انعكس على مداخيل سكان نجد. وفي هذه
الظروف، على ما يبدو، شدد البدو من نهب السكان الحضر المحليين والقوافل النادرة.
وما كان بالإمكان
تحقيق الاستقرار السياسي ووقف النهب البدوي وتأمين سلامة الروابط التجارية إلى في
ظل دولة مركزية. وكان بوسع سياسة التخفيف من الظلم الذي تعرض له السواد الأعظم من
السكان، أن تؤمن لمثل هذه الدولة دعماً جماهيريا. ولكن كان من اللازم العثور على
مصادر خارجية، أي على غنائم الحرب لأثرياء الوجهاء وعدم الإضرار بمصالحهم. وفي هذه
الفترة ولدت في نجد حركة دينية جبارة نشأت على أساسها دولة مركزية كبرى.
الفصل
الثاني
محمد بن عبد الوهاب ومذهبه
حياة
مؤسس الوهابية قبل بدء نشاطه السياسي. كتبت "مجلة المنوعات الأدبية الروسية
في عام 1805 تقول "قبل حوالي نصف قرن اسس هذه الطائفة _ المقصود الوهابية _
شيخ عربي اسمه محمد. ويؤكد الوهابيون انه ابن عبد الوهاب بن سليمان. وبقول رواية
قديمة أن سليمان هذا، وهو إعرابي فقير من قبيلة نجدية صغيرة، قد رأى في المنام أن
لهبا اندلع من بدنه وانتشر في البراري على مسافات بعيدة ملتهما في طريقه الخيام في
البوادي والمنازل في المدن. ارتعب سليمان من هذا الحلم وطلب له تفسيرا من شيوخ
قبيلته الذين اعتبروه بشير خير، واخبروه بان ابنه سيكون مؤسسا لمذهب جديد يعتنقه
أعراب البادية وان هؤلاء الأعراب سيخضعون سكان المدن. وقد تحقق هذا الحلم ليس بشخص
ابن سليمان عبد الوهاب، بل بشخص حفيده الشيخ محمد"(1).هذه الرواية تجسد جيدا
نفح تلك الحقبة، مع أن جفاف الوقائع التاريخية يخلع عما كتبته المجلة هالة
الغيبية.
ولد
مؤسس التيار الديني والاجتماعي والسياسي الذي يسمى بالوهابية في الجزيرة العربية
عام 1703/1704 في عائلة دينية في العيينة(2). كان والده عبد الوهاب بن سليمان
قاضيا شرعيا. وكان هو المعلم الأول لابنه. وكان أخوه سليمان بن عبد الوهاب قد ذكر
للمؤرخ ابن غنام أن مؤسس الحركة الإسلامية الجديدة المرتقب قد كشف في طفولته عن
مواهب كبيرة وحفظ القرآن قبل أن يبلغ العاشرة من العمر. واطلع الصبي على تفسير
القرآن والحديث وسيرة النبي. وفي الثانية عشرة بلغ محمد سن الرشد فزوجه أبوه.
بعد
الزواج أدى فريضة الحج بموافقة أبيه. وفيما بعد قضى شهرين في المدينة المنورة ثم
عاد إلى أهله. وطاف كثيرا في الأقطار المجاورة وزار الحجاز والبصرة مرارا ثم عاش
في الأحساء(3).
وتعلم
في المدينة على يد شخص يدعى عبد الله بن إبراهيم بن سيف، وهو من وجهاء واحة المجمعة
في سدير. وتحدث الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيما بعد قائلا: "كنت عنده يوما
فقال لي: تريد أن أريك سلاحا أعددته للمجمعة؟ قلت: نعم. فأدخلني منزلا عنده فيه
كتب كثيرة. وقال: هذا الذي أعددنا لها…"(4). ولمح ابن عبد الوهاب بذلك إلى أن معلمه في المدينة كان
يعد "سلاحا فكريا" لمحاربة المعتقدات السائدة في واحته.
وعندما
كان ابن عبد الوهاب في البصرة دعا للعودة إلى أصول التوحيد الحقيقي في الإسلام.
"وتجمع عليه أناسا في البصرة من رؤسائها وغيرهم فآذوه اشد الأذى وأخرجوه
منها"(5). وفي الطريق من البصرة إلى الزبير كاد يموت عطشا، إلا أن أحد سكان الزبير أنقذه(6).
وبعد
ذلك عاش ابن عبد الوهاب بعض الوقت في الأحساء عند العالم الديني عبد الله بن عبد
اللطيف. ثم توجه إلى واحة حريملا في نجد. وفي عام 1726/1727انتقل إلى هذه الواحة
أبوه عبد الوهاب بسبب خلافه مع حاكم العيينة الجديد الذي استولى على السلطة بعد
وفاة الأمير السابق حامي العلماء(7). وفي حريملا اخذ محمد بن عبد الوهاب يبشر
بأفكاره بنشاط جديد، حتى انه كان يتجادل مع أبيه. وأمضى في هذه الواحة عدة سنوات،
وفي هذه الفترة ألف "كتاب التوحيد". ويقول ابن غنام عنه: "اشتهر
حاله في جميع بلدان العارض في… العيينة والدرعية ومنفوحة… وكان الناس عند ذلك
حزبين وانقسموا فيه فريقين فريق احبه وما دعا إليه فعاهده على ذلك وبايعه وحذا
حذوه وتابعه وفريق انكر ذلك عليه"(8).
وفي
عام 1740/1741 توفي عبد الوهاب فصار محمد، على ما يبدو، قاضيا بدل أبيه. وكانت
حريملا آنذاك مقسمة بين فخذين ربما كانا مستقلين عن بعضهما بعضا. واثارت دعوة محمد
بن عبد الوهاب تذمر بعض سكان الواحة. ويقول ابن بشر: "وكان في البلد عبيد
لاحد القبيلتين يقال لهم الحميان كثير تعديهم وفسقهم، فاراد الشيخ أن يمنعهم عن
الفساد ونفذ فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهمَّ العبيد أن يفتكوا بالشيخ
ويقتلوه بالليل سرا"(9). ونجا ابن عبد الوهاب بالصدفة واضطر للفرار إلى
العيينة(10).
وكتب
المستشرقون الأوربيون عن رحلات ابن عبد الوهاب إلى بغداد وبعض المدن الإيرانية
ودمشق. وانعكست هذه المعلومات كذلك في "دائرة المعارف الإسلامية. وفي عام
1933 كتب المستشرق المعروف مارغوليوث عن هذه الرحلات في مقالة بعنوان "
الوهابية" اعتمد فيها على مصنف "لمع الشهاب".
ويفيد
"لمع الشهاب" أن ابن عبد الوهاب توجه في رحلته وهو في السابعة والثلاثين
من العمر، أمضى ست سنوات تقريبا في البصرة، وخمس سنوات في بغداد وحوالي السنة في
كردستان وسنتين في همدان (إيران). وفي بداية عهد نادر شاه انتقل إلى اصفهان حيث
أمضى سبع سنوات، وعاش في قم ومدن إيرانية أخرى، وقضى ستة اشهر في حلب وسنة في دمشق
وبعض الوقت في القدس وسنتين في القاهرة، ثم وصل إلى مكة وعاد إلى نجد، وأمضى سنة
ونصفا أو سنتين في اليمامة، وفي سنة 1150 هجرية (1737/1738 ميلادية) استقر في
العيينة. وتوفي في سنة 1212 (1797 / 1798) كما يقول صاحب "لمع الشهاب".
ويؤكد مؤلف هذا الكتاب أن محمد بن عبد الوهاب كان يغير اسمه طوال الوقت. ففي
البصرة اسمه عبد الله، وفي بغداد احمد وفي كردستان محمد وفي همدان يوسف(11). وتبين
عملية جمع بسيطة أن ابن عبد الوهاب، كما يقول صاحب "لمع الشهاب"، كان
يجب أن يقضي في اصفهان وقم وحلب ودمشق والقدس والقاهرة ما لا يقل عن 11 _ 12 عاما.
وهذا يجعل عودته إلى نجد تتم في أواخر الأربعينات، الأمر الذي يتعارض حتى مع
التاريخ الوارد في "لمع الشهاب" بعد سطرين من ذلك.
وينسب مؤرخو الوهابية ومنجين عودة ابن عبد
الوهاب إلى نجد إلى الثلاثينات. ويؤكد أخبارهم كذلك المؤرخ الحجازي في القرن
التاسع عشر ابن زيني دحلان. فقد كتب أن ابن عبد الوهاب بدا يبشر بمذهبه في نجد عام
1730/1731(12).
وغدت
مصنفات الوهابيين معروفة لدى أغلبية المستشرقين الأوربيين على اثر صدور
"دائرة المعارف الإسلامية. ونجد في طبعتها الجديدة مقالة أ. لياوست المكرسة
لمحمد بن عبد الوهاب والمعتمدة على ابن غنام وابن بشر(13).
أن
الزعم بان محمد بن عبد الوهاب صار حنبليا أثناء رحلاته، ولا سيما في قم التي هي
أحد مراكز الشيعة، لا يصمد للنقد، وذلك على الأقل لان اغلب علماء واحات نجد، ومنهم
أسلاف ابن عبد الوهاب كانوا حنبليين. زد على ذلك أن مؤلفاته ليس فيها ما يدل على
إطلاعه على أرسطو ولا على دراسة الصوفية.
كان
مؤلف مخطوطة "لمع الشهاب" من خصوم الوهابيين. ولذلك يمكن الافتراض بانه
لم يكن قد حضر مجالس محمد بن عبد الوهاب وان كان معاصرا له، وان معلوماته عن حياته
ليست من مصدرها الأول.
إلا
أن ما كتبه مؤرخو نجد عن مكوث محمد بن عبد
الوهاب في جنوب العراق وشرقي الجزيرة كان شحيحا جدا. ولا يستبعد أن العالم الديني
الشاب النشيط النابه استطاع أن يصل مع القوافل إلى بغداد وإلى المدن الإيرانية
القريبة وإلى الشام. وقد كتب عن هذه الإمكانية، المؤرخ الدقيق للدولة السعودية
الأولى منير العجلاني(14).
وقد
أثرت رحلات محمد بن عبد الوهاب الطويلة وإقباله ومثابرته على دراسة الفقه تأثيرا
حاسما على تكوين مذهبه. فقد تهيأت له إمكانية الإطلاع على المذاهب والمعتقدات
الدينية في الجزيرة والبلدان المجاورة وتحديد موقفه منها ودراسة العلوم الدينية
وتفسير القرآن والحديث وشروحه وجمع الحجج اللازمة لوضع مذهبه. واخذ هذا المذهب
يعبر عن خط معين في تطور الإسلام بالاستناد إلى الظروف الملموسة للحياة الاجتماعية
والسياسية والروحية في الشرقيين الأدنى والأوسط عموما وفي وسط الجزيرة العربية
خصوصا.
السنة والبدع في تاريخ الإسلام. كان
الدين في القرون الوسطى هو الشكل السائد للمعتقدات الأيديولوجية. وكانت التيارات
السياسية والاجتماعية تتخذ أشكالا دينية أو تتستر بزي ديني. وكان البحث عن أشكال
أيديولوجية جديدة ولبوس أيديولوجي جديد للتعبير عن المضمون الاجتماعي الجديد قضية
معقدة وطويلة الأمد وغير محمودة العاقبة. وكان ذلك يحدث عادة مع أكبر الانقلابات
التاريخية فقط. فالحركات الاجتماعية والسياسية الصغيرة كانت مضطرة إلى الاكتفاء
بالأزياء الأيديولوجية القديمة. وغالبا ما كانت تستخدم المذاهب الدينية السائدة.
وهذا أمر يلازم تاريخ الأقطار الإسلامية بقدر أكبر مما يلازم تاريخ البلدان
المسيحية.
ظهر الإسلام في المجتمع الحجازي في الثلث الأول من
القرن السابع الميلادي، وقد جسد، فيما جسد، التمايز الاجتماعي البدائي. ولذا لم
يستطع النظام الديني للعرب المتجلي في القرآن وحده في بادئ الأمر أن يلبي بالكامل
متطلبات المجتمع الأكثر تطورا في البلدان الأخرى التي فتحوها. ودعت الحاجة إلى
إضفاء طابع على الإسلام يستجيب بقدر أكبر لذلك المجتمع الإقطاعي ولمصالح طبقته
الحاكمة. وهذا هو منشا الكثير من الأحاديث عن سيرة النبي ونشاطه. وغدت تلك
الأحاديث بمثابة مجموعة قوانين السلوك والآراء المعتمدة على سلوك وآراء الرسول
لأحوال الحياة كافة. واطلق على هذه القوانين اسم "السنة".
وانتهى وضع الأحاديث على وجه التقريب في مطلع القرن
العاشر الميلادي، أي بعد حوالي ثلاثمائة عام من ظهور الإسلام.
كان عدد الأحاديث ضخما جدا. وهي حتى بالشكل الذي جمعت
فيه واقرت حسب الأصول الإسلامية تتضمن الكثير من الغموض والمتناقضات. وحتى
الأحاديث الواضحة كانت تفسر بأشكال مختلفة لصالح مختلف الفئات والجماعات، وبموجب
ظروف المكان والزمان. وفيما بعد اخذ كل تيار ديني يجد لنفسه أحاديث تبرر توجهاته.
واستخدم تفسير القرآن على هذا النحو أيضا. لذا يمكن بخصوص تطور الفقه تكرار ما
قاله الباحث المجري أ. غولدزيهير: "أن تاريخ الدين… هو في الوقت ذاته تاريخ
تفسير التنزيل"(15).
وتجسدت في السنة التقاليد الثابتة. إلا أن تغير ظروف
الحياة استوجب تغيير العادات وتغيير التقاليد على أثرها. ويجري تكيف الإسلام
للواقع المتغير عن طريق تبرير التقاليد الجديدة واثبات مطابقتها للسنة. ويتحقق ذلك
بواسطة إجماع الفقهاء أو
بواسطة القياس.
أما
المستجدات التي لم يرد ذكرها في الأحاديث الصحاح فتنعت بالبدع. وتبقى البدعة على
طرفي نقيض مع السنة ما لم يتم الإجماع عليها. وتعني البدعة رأيا أو شيئا أو عملا
لم يكن معروفا في السابق أو لم تجر العادة على ممارسته.
وهكذا
كان تبرير البدعة وتحويلها إلى حديث هو جواب الدين الإسلامي على تغير الحياة
الاجتماعية والاقتصادية والروحية وهو رد
فعل الإسلام على الواقع المحيط به وتكيفه لمتطلبات المكان والزمان.
وفيما
يخص مسالة فهم السنة، والموقف من البدع بالأساس، نشأت في الأصولية الإسلامية
(السنية) أربعة مذاهب، وأكثرها مرونة بهذا الخصوص المذهب الحنفي وأكثرها تشددا
الحنبلي الذي رفض البدع رفضا باتا. وتعتقد الحنبلية أن ما ينص عليه القرآن والسنة فقط، وبالشكل الذي
ينصان عليه فقط، هو الشرعي من وجهة نظر الممارسة الدينية. بديهي أن الحنبلية
تتناول طائفة واسعة من المسائل داخل الإسلام، وان اختلافها مع المذاهب الأخرى يشمل
ميادين متفرقة، إلا أن ما يميزها هو رفض البدع.
ولكن
من الصعب جدا البقاء على هذه المواقف المتشددة التي ترفض كليا إمكانية تكيف الإسلام لمتطلبات الحياة. ولذا
اضطرت الوهابية فيما بعد (وهي، كما سنرى، شكل متطرف للحنبلية) إلى استحسان الإذاعة
والتلفون والتلفزيون وقوانين العمل والضمان الاجتماعي. بيد أن رفض البدع حول
الحنبلية مع ذلك إلى المذاهب الأكثر تشددا من المذاهب الإسلامية، مما أدى إلى ضيق
انتشاره وظل الحنبليون المتشددون يشكلون طائفة صغيرة في مواجهة المذاهب الإسلامية
الأخرى لانهم انطلقوا من مواقف الأصولية المتناهية. في حين كانت تعاليم الطائفية
والشرك بمثابة النوافذ التي يتسرب منها التذمر. ولا يندر أن تنضوي حركات المظلومين
تحت راية معتقدات الطوائف.
وكان
من البدع التي دخلت الإسلام تقديس الأولياء. وإذا كان الرومان يدرجون في عداد
آلتهم آلهة المناطق التي يلحقونها بإمبراطوريتهم من اجل تقوية التأثير الأيديولوجي
على المؤمنين في تلك المناطق، فان المسيحية سلكت لهذا الغرض طريق عبادة الأولياء
المحليين. وحل محل عبادة الآلهة المحليين تقديس القديسين المسيحيين الذي تشبع
بالعبادات السابقة بعد تغييرها بالشكل المناسب. وسار الإسلام على طريق مماثل. أن
تقديس الأولياء في الإسلام ذو اصل محلي جاهلي بالأساس. ولكن الأولياء وانصار النبي
وابرز الفقهاء أزالوا أصنام الجاهلية والقديسين المسيحيين وحلوا محلهم. وبعد أن
تشّرب الإسلام بتلك العبادات غدا دينا شاملا عزيزا على جماعات واسعة في مختلف
المناطق والأصقاع.
وكان
انتشار تقديس الأولياء يرتبط ارتباطا وثيقا بنشاط متصوفي الإسلام. فقد نسبوا إلى
الأولياء القدرة على اجتراح المعجزات مجتذبين جماهير المؤمنين. وقال المتصوفة أن
بلوغ الحقيقة الإلهية غير ممكن إلا بالحدس والإشراق الذي يتحقق بمختلف الوسائل.
والإنسان يلتزم بالتقشف كي يندمج بالخالق. وابدى المتصوفة، وخصوصا في الفترة
المبكرة، ازدراء باعتبارات المجتمع القائم واستهانوا بالشعائر الإسلامية المقننة.
في
القرن الحادي عشر ادخل الغزالي، الذي هو بمثابة توماس الاكويني في المسيحية بعض
عناصر التصوف إلى الأصولية الإسلامية، ومنها الحب الغيبي للخالق. وفي الوقت نفسه
ادرج الغزالي في الإسلام بعض الأفكار العقلانية التي قال بها الأشعري فقيه القرن
العاشر الميلادي. وهكذا نشأ بالخطوط العريضة مذهب سني شامل يضم ليس فقط الجانب
الديني الشعائري، بل وكذلك الفلسفة والقانون والشريعة، والمبادئ السياسية والأصول
المعاشية وآداب السلوك.
وكان
من ممثلي الاتجاه المتطرف في الحنبلية الفقيه الشامي تقي الدين بن تيميه (القرن
الرابع عشر). وهو من أهم الشخصيات وأكثرها تناقضا في الفقه والفكر الفلسفي
الإسلامي.
ففي
الفقه كان في خطبه ومؤلفاته ينادي بتغيير أشكال الأصولية الإسلامية القائمة آنذاك
ويضع السنة والبدع على طرفي نقيض بشكل قاطع. وقد عارض كل البدع التي تبتعد عن أصول
الإسلام في النظرية والتطبيق. كما عارض ابن تيميه إدراج آراء العشرين الفلسفية في
الإسلام. وعارض المتصوفة كما رفض تقديس الأولياء والرسول. وشجب زيارة قبر الرسول
في المدينة المنورة قائلا بأنها لا تطابق الإسلام، مع أنها صارت تعتبر منذ سنوات
طويلة عملا متمما لحج بيت الله.
ورفض
ابن تيميه آراء العلماء الذين استخدموا الإجماع ليضفوا طابعا شرعيا على مثل هذا
التقديس. واستند إلى السنة وحدها. وصار عماد الدين الحنيف، الغزالي، هدفا
للحنبليين "الجدد" من أتباع ابن تيميه. وكان من شدة تطرف ابن تيميه انه
اختلف في بعض المسائل حتى مع الحنبليين.
ولم
يحظ هذا الفقيه الشامي بالاعتراف في حينه، فقد كانوا يجرجرونه من محكمة دينية إلى
أخرى حتى مات في السجن عام 1328 بعد أن ترك حوالي 500 مؤلف. وكانت جماعة صغيرة من
أتباعه، وأولهم وابرزهم ابن القيم، قد أحاطت اسمه بهالة من التقديس. ويقول
غولدزيهير "أن تأثيره فيما بعد استمر بصورة خفية طوال أربعة قرون. وكانت
مؤلفاته موضع بحث دقيق وقد لعبت في الأوساط الإسلامية دور القوة الصامتة التي تفجر
العداء للبدع من حين لاخر"(16).
الإسلام في الإمبراطورية العثمانية. أصبحت
الحنفية المذهب الرسمي للإسلام في الإمبراطورية العثمانية. وهي أكثر المذاهب
الأربعة مرونة، مع أن المذاهب الأخرى كانت تحظى بالاعتراف. وتعود الصياغة النهائية
للنظام الديني هنا إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر. واتخذ السلطان العثماني
لنفسه لقب خليفة المسلمين ليعزز مكانته بذلك.
كان علماء الدين من أكثر جماعات السكان نفوذا في
الإمبراطورية. وكان على رأس علماء الدين هناك مفتي الآستانة شيخ الإسلام الذي
يضاهي منصبه منصب الوزير الأول. ويأتي
بعده قاضيان ثم سائر علماء الدين الكبار. وحاول الباب العالي أن يشرف على العلماء
عن طريق المصادقة على تعيين القضاة المحليين الذين يمارسون الرقابة على الشؤون
الحقوقية والإدارية والمحتسبين الذين يتابعون التزام المؤمنين بمبادئ الأخلاق
ويراقبون المنظمات الحرفية للصناع والتجار.
وكان الانحلال العام في الإمبراطورية العثمانية قد
أصاب علماء الدين المسلمين أيضا. وان فساد العلماء وجشعهم وظلمهم قد ألب السكان
عليهم.
وكان شيوخ المتصوفة الذين تخلوا في القرن الثامن عشر
عن الكثير من مواقفهم المعارضة للسنة قد اقتسموا الجاه والمال مع علماء الدين في
الإمبراطورية العثمانية في القرن المذكور. وغطت الإمبراطورية شبكة من جماعات
الدراويش المتصوفة. وازداد عدد الدراويش كثيرا آنذاك، وارتبط بجماعاتهم كثير من
المنظمات الحرفية والمهنية وسكان بعض الأماكن.وقد اشتهرت على نطاق واسع، مثلا،
صلات جماعة الدراويش البكتاشيين مع الإنكشارية.
وكان المتصوفة ما يزالون كالسابق يعلقون أهمية
استثنائية على تقديس الأولياء، الذين
يضمون، عندهم، كل الأنبياء من آدم حتى محمد وكثيرا من الصوفيين المشهورين. وكان
هناك أولياء على قيد الحياة. وأيد علماء الدين السنة كذلك تقديس الأولياء، وكل من
عارض ذلك كان يجازف بالوقوع ضحية في أيدي
المتعصبين. وكان المتصوفة ينشدون الأغاني ويعزفون على الآلات الموسيقية. وكان
بعضهم يتعاطى المشروبات الكحولية ويدخن السجائر والمخدرات. كما كانوا يمارسون علم
التنجيم والسحر وقراءة الفال.
كانت للجزيرة العربية علاقات واسعة في ميدان الفكر
والثقافة، فضلا عن العلاقات الاقتصادية والسياسية، مع البلدان الأكثر تطورا في
الشرقيين الأدنى والأوسط. ومع ذلك فان بعض العزلة لهذه الجزيرة الشاسعة وخصائص
نظامها الاجتماعي قد ولدت الكثير من الأشكال الخاصة للحياة الروحية هناك.
المعتقدات والعبادات في الجزيرة العربية قبل ظهور
الوهابية. مما يثير الانتباه انتشار الحنبلية في واحات نجد،
وكان ذلك ظاهرة فريدة بالنسبة للعالم الإسلامي. وعندما يذكر مؤرخو الوهابية وفاة
الأشخاص المشهورين في عصرهم لا ينسون العلماء الحنبليين. فما هي أسباب بقاء
الحنبلية في هذه الأرجاء؟
أن وسط الجزيرة المعزول بحكم طائفة من الملابسات عن المناطق الأخرى الأكثر
تطورا في الشرق الأوسط لم يبتعد كثيرا عن مستوى النظام الاجتماعي الذي كان قد بلغه الحجاز في فجر الإسلام، أي
مستوى المجتمع البدائي لدرجة كبيرة.
وفي العقائد الإسلامية المبكرة التي وضعت في القرون
الأولى لنشوء الإسلام كثير من الأشكال الفكرية للعلاقات الاجتماعية للحجاز في فجر
الإسلام، ومن أعراف وعادات مكة والمدينة التي باركتها الأحاديث. ولما كانت
الحنبلية تعترف من حيث المبدأ بالإسلام المبكر فقط فقد كانت على العموم تستجيب
لحاجات مجتمع وسط الجزيرة في القرن الثامن عشر.
كان وسط وشرق الجزيرة مهملين دوما من الإمبراطوريات
الإسلامية في الشرق الأوسط. وقد حافظا على أصالتهما. لذا كانت هناك ظروف ملائمة
لمختلف تيارات "الزندقة" مثل الخوارج والإباضية. وخلال حقبة طويلة ظلت
قائمة في الأحساء دولة القرامطة القوية ذات التركيب الاجتماعي الفريد.
أما بخصوص المناطق الأخرى في الجزيرة فان قسما كبيرا
من سكان عمان كانوا ينتمون إلى الطائفة الإباضية، وفي اليمن كانوا ينتمون إلى
الطائفة الزيدية الشيعية المعتدلة. وفي المناطق الشرقية والشمالية الشرقية للجزيرة
والمرتبطة مع جنوب العراق ومع إيران كان الكثير من العرب من الشيعة. وفي بعض مناطق
اليمن ونجران كان يقطن اليهود(17). ويقول نيبور انه يصادف وجود صابئة في الأحساء(18).
أن الأغلبية في مدن وواحات الحجاز تتكون من المسلمين
من مختلف المذاهب الأصولية.
وكانت جميع المذاهب الإسلامية في الجزيرة تتعايش
بوئام مع عبادة الأولياء المنتشرة على نطاق واسع في الجزيرة كلها، بل حتى مع بقايا
عبادة الأوثان. وقد ترك لنا ابن غنام وصفا مفصلا لمعتقدات سكان الجزيرة
العربية(19). فقد كتب عن الفترة التي ظهر فيها محمد بن عبد الوهاب يقول: "كان
غالب الناس في زمانه متضمخين بالأرجاس متلطخين بالأنجاس… فعدلوا إلى عبادة
الأولياء والصالحين وخلعوا ربقة التوحيد والدين…"وكانوا يترددون على الأولياء
أو على أضرحتهم طالبين منهم عمل الصالحات أو تخليصهم من المصائب والخائبات، ويرجون
ذلك من الأحياء والأموات. وكثير منهم "يعتقد النفع والأضرار في الجمادات
كالأحجار والأشجار… ولعب بعقولهم الشيطان… وجعلوا لغيره ما يجوز صرفه إلى سواه
وزادوا على أهل الجاهلية".
"وكان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم والكل على
تلك الأحوال مقيم". وفي وادي حنيفة كان هناك ضريح زيد بن الخطاب. وكانوا
يترددون عليه راجين تخلصيهم من المصائب والنكبات. وفي الجبيلة والدرعية كانوا
يقدسون قبورا دفن فيها، كما يقال، بعض أنصار الرسول. وفي منطقة الفدا كانت تنمو
نخلة يأتي أليها الرجال والنساء يطلبون التبرك ويقومون "بأقبح الأفعال.
وتتقاطر على النخلة النساء العانسات وكل منهن تصيح "اريد زوجا…". وكان
الناس يلتفون حول النخلة ويعلقون علنها الزينة.
وعلى مقربة من الدرعية كان هناك غار مقدس يسمى غار
بنت الأمير يتركون فيه الخبز واللحم. ويقال أن بعض الأرجاس أرادوا ذات مرة أن
يوقعوا ببنت الأمير، فاستعانت بالله وانفتح الجبل أمامها عن الغار الذي صار محجة
للعباد. وفي الخرج على مقربة من الدرعية، كان يعيش ولي اسمه تاج. وكانوا يتوجهون
إليه طلبا للتبرك ويرجونه تحقيق المعجزات وإزالة الغمة. وكانوا يدفعون له لقاء
ذلك. اشتهر الولي بانه أعمى ولكنه يسير من غير قائد يقوده. وكان الحكام المحليون
يخافونه.
وفي مكة يوجد ضريح أبى طالب وقبر ميمونة بنت الحارث
أم المؤمنين وقبر خديجة وغيرهما. وكان الرجال والنساء يخاطبون هذه القبور بصيحات
عالية طالبين منها العون. وكان الشيء نفسه يجري عند قبر عبد الله بن عباس في
الطائف.
ويقال أن "قبر حوى" موجود في جدة. وانشئ
هناك معبد يأوي إليه المفلسون والمدينون واللصوص. وحتى الشريف لا يستطيع إخراجهم
منه. ففي عام 1795/1796 التجأ إلى هذا المعبد تاجر بلغت ديونه 70 ألف ريال، وبذلك
أرغم دائنيه على تأجيل الدفع.
وكانت القرابين تذبح عند قبور الأولياء. وفي اليمن
كانت تجري مواكب يطعن المشاركون فيها أنفسهم بالسكاكين.
وسمع ابن غنام عن عبادة الأولياء خارج الجزيرة أيضا.
ففي الشام ومصر الأمثلة على ذلك كثيرة حتى "أن المؤرخ لم يذكرها. واعرب عن
استيائه كذلك من عبادة ضريح الإمام علي في العراق. وكتب يقول أن الشيعة كأنما
يعتقدون بأن زيارة هذا الضريح افضل من سبعين حجة. ويذكر ابن غنام الأضرحة والمساجد
الكثيرة حول قبور الأولياء في البصرة والساحل الشرقي من الجزيرة العربية والبحرين.
وتوجد معطيات تفيد بوجود المتنبين في بعض الأماكن.
وقد شجبهم محمد بن عبد الوهاب بحزم(20).
وقال عبد الرحمن بن حسن حفيد محمد بن عبد الوهاب أن
الأعراب كانوا آنذاك ينحرون القرابين للجن ويطلبون منها أن تشفيهم من
الأمراض(21).وكتب بلغريف يقول: "قبل ظهور الوهابية كان سكان الجوف (في شمال
الجزيرة)، شأنهم شأن جميع سكان الجزيرة، قد انهمكوا في عبادة شبه وثنية وراحوا
يقدسون الجني المحلي". وحتى بعد مرور أكثر من مائة عام على ظهور الوهابية كان
سكان الجوف، كما لاحظ بلغريف، "شان أغلبية أشقائهم قد استبدلوا من زمان
المحمدية بالصنمية المحلية والعبادة شبه السبائية والابتهالات الموجهة إلى الشمس
ونحر القرابين للموتى"(22).
البدو والإسلام. يشير جميع دارسي
الجزيرة العربية إلى أن الإسلام يغرس بصعوبة بين البدو. وقد أشار فولني في حينه
إلى موقف البدو اللامبالي من الفرائض الإسلامية. "فالبدو القاطنون على الحدود
مع العثمانيين يتظاهرون بأنهم مسلمون لاعتبارات سياسية، ولكنهم ضعيفو الإيمان
وتدينهم ضعيف إلى درجة يعتبرون معها كفرة ليس لديهم نبي ولا قانون. وهم بأنفسهم
يعترفون بان دين محمد فوق مستواهم. فكيف نقوم بالوضوء إذا كنا لا نمتلك ماء؟ وكيف
نقدم الصدقة إذا كنا لسنا أغنياء؟ وما حاجتنا إلى الصيام في شهر رمضان إذا كنا
صائمين طوال العام؟ ولماذا نذهب إلى مكة إذا كان الله موجودا في كل
مكان؟"(23).
ويقول بوركهاردت أن البدو قبل الوهابية غالبا ما
كانوا لا يعرفون الإسلام عموما(24).
ويؤكد بلغريف " أن دين محمد لم يحدث طوال 12قرنا
إلا تأثيرا ضعيفا أو لم يحدث آي تأثير بين جماهير البدو الرحل… وفي الوقت نفسه فان
البدو المحاطين بمسلمين صادقين بل متعصبين والمعتمدين عليهم أحيانا كانوا يعتقدون
في بعض الأوقات أن من الحكمة القول بأنهم مسلمون"(25).
ويقول مونتان
أن البدو الذين يهتدون بالأجرام السماوية في تجوالهم قد ابتدعوا عبادة الشمس
والقمر والنجوم(26). واستنادا إلى مراقبة قبائل شمال الجزيرة استنتج بلغريف
"أن الإله بالنسبة للبدو هو زعيم يقيم أساسا، كما يخيل ألينا، على الشمس وهم
يجسدونه بالشمس بمعنى ما"(27).
وهذا ما التفت إليه أيضا الرحالة الفنلندي فالين الذي
طاف الجزيرة العربية في منتصف القرن التاسع العشر. فقد كتب يقول "إن قبيلة
"معزة"، شأن أغلبية القبائل التي لم ترغم على تبني تعاليم الطائفة
الوهابية الإصلاحية في فترة تصاعد سلطتها في الجزيرة، لا تعرف إطلاقا الدين الذي
تعتنقه. وبلكاد أتذكر أني صادفت أحدا من أفراد القبيلة الذين كانوا يؤدون الفرائض
الإسلامية أو لديهم ابسط فكرة عن أصول الإسلام وأركانه الأساسية. ويمكن في الوقت
نفسه قول العكس بدرجة معينة عن البدو الذين صاروا من الوهابيين أو كانوا منهم في
السابق"(28).
وبعد عدة عقود من رحلات فالين كتب دافليتشسن وهو أحد
ضباط الأركان العامة في جيش روسيا القيصرية: "أن أعراب البادية لا يتميزون
بالتدين إطلاقا، وهم يخلطون مع الدين كثيرا من العادات والأساطير الفريدة التي
تتعارض تماما مع التعاليم الإسلامية(29).
وظلت باقية عند البدو عبادة الأجداد. فقد كتب جوسان
أن البدو كانوا يقدمون القرابين للأجداد أو لله عن طريق الأجداد. ويجري ذلك بفخفخة
كبيرة بعد الانتصار في الغزو. ولا يفوت الرولة آي مناسبة لنحر ناقة على قبر جدهم
إحياء لذكراه(30).
ويرتبط بعبادة الأجداد وجود " المركب" عند
البدو، وهو عبارة عن هودج خاص على ظهر الجمل يعتقدون بانه ملجا لروح جدهم، ولذا
يقدمون له القرابين. ويجلس فيه الحادي وهو عبد أو غلام، واحيانا بنت الشيخ أو اجمل
فتاة في القبيلة تستحث المحاربين في القتال(31). ولا بد أن نتذكر بهذا الخصوص
كاهنات الجاهلية اللواتي كن يمتطين الإبل ويستحثثن البدو في القتال.
وهكذا كانت في الجزيرة العربية قبيل ظهور الوهابية
طائفة واسعة من المذاهب والاتجاهات الإسلامية ابتداء من الحنبليين وسائر مذاهب
السنة وانتهاء بالزيدية والشيعة والإباضية. كما انتشرت على نطاق واسع عبادة الأولياء
والصالحين، واختلطت بالإسلام أو حلت محله المعتقدات والعبادات الجاهلية كالسحر
والوثنية وعبادة الشمس والأرواح والجمادات وعبادة الأجداد. تلك هي التركة الروحية
التي نشأت على أساسها آراء محمد بن عبد الوهاب، وتلك هي البيئة التي عاش فيها.
التوحيد وشجب عبادة الأولياء هما أساس مذهب الوهابية.
أن الطريق الذي قطعه محمد بن عبد الوهاب في تكوين مذهبه يتلخص، على ما
نعتقد، في الدراسة المثابرة منذ الطفولة للفقه الإسلامي والطموح إلى معالجة الدين
وتغيير الحياة الاجتماعية طبقا للمثل العليا للإسلام بعد تفسيرها وفهمها بشكل متميز.
ويمكن أن نتصور كيف أوضح ابن عبد الوهاب لنفسه الخلل والاضطراب والتشويش في العالم
المحيط به: فقد نسي الناس الإسلام الحقيقي وذلك هو سبب الانحطاط الخلقي العام الذي
تنجم عنه المشاكل السياسية والفوضى الاقتصادية والركود والخراب. وبغبية إنقاذ
العالم الغارق في الآثام لا بد من تنقية الدين واستعادة الشكل الذي كان عليه في
القرون الثلاثة الأولى من نشوئه.
أن أهم فكرة كانت تدور في بال ابن عبد الوهاب أثناء
رحلاته ودراسته للفقه هي التوحيد الذي هو المحور الرئيسي للإسلام. وهو يعتقد أن
التوحيد يعني الاعتقاد بان الله وحده خالق العالم وسيده الذي يمنحه القوانين. ولا
أحد ولا شيء مما خلقه بقادر على الخلق مثله(32). والله ليس بحاجة إلى معونة من أحد
مهما كان عزيزا عليه. والله على كل شيء قدير. وما من أحد غيره يستحق التبجيل
والإجلال والتقدير(33).
إلا أن العالم الإسلامي في رأي الوهابيين ابتعد عن
مبادئ التوحيد. فالناس ينساقون وراء البدع التي هي أم الكبائر(34). ويمنحون ما
خلقه الله صفات الخالق وقدراته. فهم يؤمون أضرحة الأولياء والصالحين ويقدمون لهم
النذور والقرابين ويطلبون العون منهم معتقدين بأنهم قادرون على عمل المعروف والنهي
عن المنكر(35). ويطلقون نعوت الله حتى على النباتات والأحجار، الأمر الذي يتعارض
مع التوحيد الحقيقي(36).
وطالما لا يجوز "الإشراك بالله"(37) أو
إطلاق نعوته على ما خلق فينبغي تحديد وضبط الشعائر، إذ أن البدع لا تجوز فيها
أيضا.
ويقول الوهابيون: لا يجوز تقديم القرابين إلا لوجه
الله. ولا يجوز طلب المعونة إلا من عند الله. ولا يجوز الاستجارة إلى بالله(38).
فالملائكة والرسل والأولياء والصالحون لا يمكن أن يشفعوا للمسلمين أمام الله على
آثامهم(39). ولا يجوز تقديم النذور إلا لوجه الله(40). ولا يجوز الإفراط في تبجيل
الصالحين وانصار الرسول والأولياء. ولا يجوز بناء الحضرات حول قبورهم، ولا يجوز
الإفراط في العناية بقبورهم وتحويل أضرحتها إلى أصنام. يجب احترام الأولياء
وتقديرهم ولكن لا تجوز عبادتهم(41).
وكان للوهابيين موقف خاص من النبي محمد. فقد كانوا
يعتبرونه إنسانا من البشر اختاره الله لاداء رسالة النبوة. ولكن لا يجوز تأليهه
وعبادته ولا يجوز طلب شيء منه. كما لا يجوز تقديس قبره ولكن يمكن زيارته دون طلب
شيء منه أو الاستنجاد والاستغاثة به. إلا انه سيشفع للمسلمين أمام الله في يوم
القيامة. ولا يجوز عبادة الأماكن المرتبطة بحياته(42).
واعتبر الوهابيون جميع أنواع العبادات والمعتقدات
التي تتعارض مع هذه المبادئ "شركا"
ودعا محمد بن عبد الوهاب إلى مكافحة السحر
والشعوذة(43) وقراءة الفال مع انه لم يركز على ذلك. وشجب كذلك بقايا الوثنية مثل
التعويذ والرقي والطلاسم(44).
أن مصدر الإسلام في رأي الوهابيين هو الكتاب والسنة
فقط. وكانوا يعترفون بالأئمة الأربعة مؤسسي المذاهب السنية(45)، وكذلك بشيخ
الإسلام تقي الدين بن تيميه وابن القيّم.
(القرن الرابع عشر). ولكنهم رفضوا في الواقع نظريات وممارسات جميع الأجيال
اللاحقة. وقد اخطأ بعض الرحالة والباحثين عندما قالوا أن الوهابيين يرفضون السنة
كلها ولا يعترفون إلا بالقرآن وحده(46).
أن "الوهابية" تسمية أطلقها على هذه الحركة
خصومها أو الناس من غير أبناء الجزيرة. وقد ترسخت هذه التسمية في مطبوعات
المستشرقين. أما أتباع محمد بن عبد الوهاب فكانوا يسمون أنفسهم بالتوحيديين أو
المسلمين فقط، ولا يسمون بالوهابيين إطلاقا.
وقد اقتبس الوهابيون تشكيلة حججهم وتهجمهم الشديد على
عبادة الأولياء وعلى البدع من ابن تيميه وابن القيّم. صحيح أن الوهابيين لم
يتعمقوا في القضايا الدينية والفلسفية المعقدة كما فعل ابن تيميه. وأعلنوا انهم
يختلفون مع هذا الفقيه في بعض المسائل الشعائرية والمعيشية الطفيفة(47). إلا أن
مؤلفاته ومؤلفات ابن القيم كانت في الواقع ملازمه لهم. وقد استشهد محمد بن عبد
الوهاب مرارا بمقتطفات من ابن تيميه وابن القيم. وظلت محفوظة بعض مؤلفات ابن تيميه
منسوخة بخط محمد بن عبد الوهاب(48). واستشهد بفقيهي القرن الرابع عشر كذلك مؤرخ
الوهابيين ابن غنام(49). وكتب عبد لله بن محمد بن عبد الوهاب يقول: "وعندنا
أن الإمام ابن القيم وشيخه (يقصد ابن تيميه) أما ما حق من أهل السنة وكتبهما عندنا
من اعز الكتب"(50).
لقد بعثت الوهابية في الإسلام النهج المتشدد الذي
يرفض كل البدع ويدعو للعودة إلى الكتاب والسنة غير المشوهة.
ومن ناحية الأصول الإسلامية يبدو الوهابيون من أنصار
الاستقامة في الدين الحنيف. وهذا هو رأيهم ورأي أغلبية الباحثين الموضوعيين من عرب
وغيرهم، من معاصري حركتهم في بدايتها ومن أبناء الأجيال اللاحقة.
ويقول بوركهاردت أن فقهاء القاهرة المعارضين للوهابية
عموما قد أعلنوا انهم لم يعثروا على اثر للزندقة في تعاليمها، ولما كان هذا
التصريح قد أدلى به أصحابه على مضض فهو لا يثير الكثير من الشكوك. وبعد أن قرأ
العديد من فقهاء القاهرة كتابا ألفه محمد بن عبد الوهاب أعلنوا بالإجماع انه إذا
كان هذا هو رأي الوهابيين فانهم، أي الفقهاء، يؤيدون هذه العقيدة دون قيد أو
شرط(51).
واكد الفقيه الجزائري الناصري أن معتقدات الوهابيين
صائبة تماما(52). واشار المؤرخ البصري ابن سند إلى أن الوهابيين هم حنبليو الأزمان
السالفة(53). ويعتقد ل. كورانسيز أن الوهابية هي الإسلام في نقاوته الأولى(54).
وفي العصر الحديث كتب طه حسين يقول أن هذا المذهب…
"ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من شوائب الشرك
والوثنية" (55).
إلا أن الوهابيين الأوائل، كما نعتقد، طائفيون لأنهم
عارضوا المذهب السنّي بشكله الذي كان سائدا آنذاك وأن كانت معارضتهم منطلقة من
مواقع تنقية هذا المذهب. واعتمدوا على ابن تيميه في نضالهم ضد السنة القويمين
(وشيخهم الغزالي). وكان النضال ضد المعتقدات السائدة انطلاقا من النزعة القويمة
الأكثر تشددا يتسم بطابع طائفي مثل محاولات تحطيم أو تحديد أو تغيير بعض أسسها.
وفي القرن العشرين فقط، عندما ذابت أو أمحت المظاهر المتعصبة جدا في الوهابية فقدت
الحركة نفسها شكلها الطائفي المتشدد.
وقد انتشر على نطاق واسع في المطبوعات الأوروبية
والعربية نعت الوهابيين بالصفاء والنقاوة وبأنهم "بروتستانت الإسلام. وكان
كورانسيز أول من استخدم هذا النعت(56) وكرره بعده بوركهاردت(57). وتلك مقارنة
للوهابيين بالتيارات الأوروبية في الحركة الإصلاحية في القرون الوسطى حسب سمة
شكلية صرف، أي حسب الطموح الظاهري إلى "تنقية" الدين
"الحقيقي" من الشوائب التي علقت به فيما بعد. ومن هذه الناحية فقط يمكن
الكلام عن التشابه الخارجي بين ظاهرتين مختلفتين تمام الاختلاف من حيث مضمونهما
الاجتماعي والسياسي، بل حتى الفقهي واللاهوتي.
لقد ظهرت الوهابية في ظل انفصام نفساني خطير وفي ظروف
عدم الرضا عن حالة الحياة الروحية آنذاك،
وكانت بمثابة رد فعل على الأزمة الروحية في مجتمع الجزيرة العربية، وخصوصا مجتمع
نجد، الذي كانت تحوم فيه، ربما بصورة غير واعية، مطامح تبتغي مثلا عليا جديدة.
ولم يكن محمد بن عبد الوهاب الشخص الوحيد الذي شعر
بحاجة إلى تجديد الإسلام في الجزيرة العربية ذلك العصر. فليس من قبيل الصدفة أن
معلمه في المدينة المنورة عبد الله بن إبراهيم بن سيف كان يعد "سلاحا
فكريا" لتغيير الدين. وكان فقيه صنعاء محمد بن إسماعيل (توفي عام 1768/1769)
قد دافع في مؤلفاته عن الدين الخالص. وعندما سمع بدعوة محمد بن عبد الوهاب ألف
قصيدة في مدحه(58). وكان في اليمن فقيه اسمه محمد المرتضى (توفي عام 1790) وكان
يستنكر سلوك الدراويش(59). وفيما بعد نشط في اليمن فقيه آخر لقبه الشوكاني (توفي
عام 1834)، ألف كتبا ووضع شروحا لمؤلفات ابن تيميه. وفي تلك الكتب والشروح رفض
زيارة القبور وعبادة الأصنام معتبرا ذلك إشراكا بالله. وربما كانت له صلة بابن عبد
الوهاب في نجد(60).
ولا يستبعد أن هذه الأسماء ليست كل ما في قائمة
الأشخاص الذين صاروا وهابيين فيما بعد وصاغوا تعاليم الوهابية. وكما هو الحال
أثناء الانعطافات الاجتماعية والسياسية الكبيرة الشان بهذا القدر أو ذاك يظل
تعليلها الفكري "معلقا في الهواء" أن صح القول. ووقعت بذور الدعاية
الوهابية في تربة كانت معدة بهذا القدر أو ذاك لتقبل المذهب الجديد ونمت حيثما
توفرت الظروف الأكثر ملاءمة لتحقيق الأفكار الاجتماعية والسياسية التي طرحها
الوهابيون.
أن التعاليم الوهابية تتناول بقدر كبير ميدان علم
أصول الدين، ولكن لها من الناحية الاجتماعية والسياسية مضمونا أصيلا لا جدال فيه.
ولا يغير من جوهر الأمر أن مؤلفات محمد بن
عبد الوهاب تتكون بنسبة 90_95% من مقتطفات مأخوذة عن فقهاء القرون الأولى من نشوء
الإسلام ومن الأحاديث الصحاح.
المضمون الاجتماعي للوهابية: تتضمن
مؤلفات مؤسس الوهابية أحكاما لا لبس فيها وهي تجسد مصالح الوجهاء ضد الفقراء.
وتهدف إلى تأمين الاستقرار الاجتماعي.
فالعامة يجب
أن تخضع لاصحاب السلطة(61)، كما يؤكد طبقا لاصول الإسلام. وان عذاب الجحيم من نصيب
كل متمرد على الأمراء(62).
واعتبرت الوهابية دفع الزكاة واجبا وليس مطلبا طوعيا،
وبذلك جعلت عائدات السلطة من جميع الفئات للسكان، بمن فيهم البدو، مبدأ دينيا لا
مناص منه(63).
أن الأشخاص الذين يعتنقون الوهابية لا يعفون من
واجباتهم إزاء أسيادهم أو دائنيهم. وقال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أن خصوم
الوهابية يكذبون عندما يزعمون "بان من دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع
التبعات حتى الديون"(64).
ومع ذلك دعا الوهابيون إلى العناية بالعبيد والخدم
والأجراء(65). وكانوا يغازلون مشاعر الفقراء بمدح الفقر وذم الجشع زاعمين بان
الفقير يدخل الجنة بصورة اسهل(66). ولاحق الوهابيون في التطبيق نشاط المرابين(67).
وكانت التعاليم الوهابية تدعو إلى الوئام الاجتماعي:
"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في
أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده ومسؤولة عن رعيتها،
والولد راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته
فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"(68).
وكان ذلك ، وان بصورة جزئية، هو هدف تقوية التبشير
"بأخوة" المسلمين(69). وبعد حوالي مائة وخمسين عاما من ذلك استخدمت فكرة
"الاخوة" بشكل مكيف بعض الشيء في حركة الأخوان. واكد عبد الله بن محمد
بن عبد الوهاب قائلا: "والعرب أكفاء بعضهم لبعض، فما اعتيد في بعض البلاد من
المنع دليل التكبر وطلب التعظيم، وقد يحصل بسبب ذلك فساد كبير"(70).
بديهي أن المذهب الوهابي ينطوي على طائفة من الأصول
الأخلاقية الصالحة لمختلف فئات السكان. فقد أوصت الوهابية الناس بالطيبة
والحرص(71) وتنفيذ الوعود التي يقطعونها على أنفسهم(72) وبالصبر(73) والصدق
ومساعدة الضرير وعدم ممارسة الافتراء والنميمة والثرثرة. وأدانت الوهابية البخل
والحسد وشهادة الزور والجبن(74). وحددت الوهابية أدق تفاصيل السلوك البشري. وقدمت
النصائح فيما يخص كيفية الضحك والعطاس والتثاؤب والمعانقة والمصافحة والتنكيت
وهلمَّ جرا(75).
ومما لا جدال فيه أن الوهابية كانت بقدر ما تتميز
بالسمات الملازمة للحركات الشعبية التعادلية الموجهة ضد الظلم الطبقي المفرط. مع
أن الفلاحين الذين يتعرضون للاستغلال قبل غيرهم لم يواجهوا ذلك باللامبالاة.
فالفلاحون يلتزمون دوما جانب دعاة تخفيف أو "تنظيم" الاستغلال. ولذلك
حظي الوهابيون لدرجة كبيرة بتعاطف فلاحي نجد في أواسط القرن الثامن عشر.
ومع ذلك كان مركز ثقل المذهب الوهابي متواجدا في
الميدان السياسي أكثر مما في الميدان الاجتماعي.
التعصب والجهاد. كان الوهابيون
يعتبرون جميع المسلمين المعاصرين لهم والذين لا يؤمنون بتعاليمهم أكثر شركا من
الجاهليين في الجزيرة العربية(76).
وكان سليمان شقيق محمد بن عبد الوهاب قد تزعم لأمد
طويل الحركات المناوئة للوهابية في العديد من واحات يجد. وقد أشار إلى أن التعصب
من السمات الملازمة للوهابية. وكتب المؤرخ الحجازي ابن زيني دحلان "وقال له
أخوه سليمان يوما كم أركان الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب فقال خمسة فقال بل أنت
جعلتها ستة السادس من لم يتبعك فليس بمسلم هذا ركن سادس عندك للإسلام(77).
وكتب عن هذه الآراء المتطرفة أيضا ابن سند:
"واعلم أن أتباع ابن سعود عندما قتل طُعيس العبد الأسود ثوينيا (شيخ المنتفق
في الفرات الأوسط) مدحوه وحمدوه بقتل ثويني لكونهم يعتقدون كفر ثويني بل كفر جميع
من على وجه الأرض من المسلمين الذين لم يعتقدوا معتقدهم…"(78).
أن الوهابيين عندما عارضوا الشكل السائد للإسلام
آنذاك قد ساروا إلى ابعد من الطائفيين العاديين. ويعتقد بيلايف "أن أتباع
جميع الاتجاهات والتيارات والطوائف في الإسلام يعتبرون مسلمين بموجب التصورات
الراسخة لدى المسلمين أنفسهم(79). أما الوهابيون فلا يعتبرون خصومهم مسلمين بل
مشركين وكانوا يعتقدون أن جميع الذين سمعوا دعوتهم ولم يتبعوها كفرة. وفيما بعد،
كان موقف الوهابيين حتى من "أهل الكتاب" أخف من موقفهم من المسلمين غير
الوهابيين. فقد سمحوا لليهود والنصارى بالصلاة في المنازل وفرضوا جزية طفيفة على
كل واحد منهم(80).
وعندما كان الوهابيون يحتلون واحة أو مدينة يحطمون
الشواهد والأضرحة على قبور الأولياء والصالحين ويحرقون كتب الفقهاء الذين يختلفون
معهم(81).
وربما كانت الممارسات الدينية للوهابيين تختلف عن
مذهب ابن عبد الوهاب ووصاياه الرسمية. وقد اتهم فقهاء كثيرون الوهابيين بعدم احترام
الرسول. وينكر المؤلفون الوهابيون المحدثون جميعا هذا الاتهام بغضب شديد. ولعل
الرغبة في التقليل من مكانة النبي محمد بوصفه "خليل الله" قد أدت عمليا
إلى التقليل من دوره في الإسلام وتجلت في "عدم الاحترام" المذكور.
وانتشر على نطاق واسع الرأي القائل بان الوهابيين قد
منعوا تعاطي القهوة(82). إلا أن الوقائع تدحض هذه الأقوال، ولكنه لا يستبعد أن بعض
المتعصبين جدا قد رفضوا هذا الشراب.
واتخذ التعصب بين الوهابيين أشكالا متطرفة جامحة. فان
اعتقادهم بان خصومهم كفرة ومشركون صار مبررا للقسوة ضدهم. وفي الوقت نفسه صار
التعصب وسيلة لتلاحم وانضباط الوهابيين حيث يستحثهم على تحقيق المآثر الحربية
والقيام بالحملات والغزوات على المشركين. وهكذا تهيأت المقدمات الفكرية لإعلان
الجهاد ضد جميع المختلفين مع الوهابيين.
فهل من داع للكلام عن المزايا التي يوفرها المذهب
الوهابي للأمير الذي يتسلح بهذا المذهب؟ فهو يتحول من زعيم لغزوة عادية على جيرانه
إلى مناضل في سبيل الدين النقي، أما خصومه فيصبحون من خدم الشيطان وعبدة الأوثان
والمشركين. وعندما اعتبرت الوهابية الجهاد من أهم مسلماتها صارت منذ ظهورها
أيديولوجية للتوسع الحربي.
الاتجاهات التوحيدية. لم تكن الوهابية
مجردة راية لحروب الغزو والفتح، بل كانت تبريرا فكريا للاتجاهات التوحيدية في
الجزيرة العربية. أن معارضة عبادة الأولياء وتحطيم أضرحة الصالحين وقطع الأشجار
المقدسة _ كل ذلك كان يعني في ظروف الجزيرة العربية تحطيم السند الفكري والروحي
للتجزئة الاجتماعية. وان وجهاء واحة ما عندما ظلوا بدون ولي خاص بهم قد فقدوا حقهم
بالتفوق والأصالة كما فقدوا عائدات زيارة ضريح هذا الولي.
واكد الوهابيون أن على الناس البسطاء أن يطيعوا
حاكمهم، إلى إذا أمر بمعصية(83). وكان المناضلون في سبيل التوحيد، وعلى رأسهم ابن
عبد الوهاب، هم أعلى جهة يرجع أليها الناس في تحديد المعصية. وان أي عمل يقوم به
الحكام ضد أمير الدرعية يعفي الرعية من واجب الانصياع لهم ويحطم سند سلطة الحكام
المحليين.
وكانت الوهابية تنطوي بالدرجة الأولى على أفكار توحيد
نجد ووجهائها في الصراع ضد خصومهم التقليديين أشراف الحجاز. لقد منعت الوهابية
زيارة العتبات المقدسة في مكة والمدينة (ما عدا الكعبة) ومنها قبر الرسول، الأمر
الذي كان سيحرم الحجازيين من قسم كبير من عائداتها. وفي تلك الظروف التاريخية كان
الحجازيون يتعاطفون مع الصيغة الرسمية للإسلام في الإمبراطورية العثمانية التي هي
المصدر الرئيسي للحجاج. وكان فقهاء الحجاز يخشون من تضييع منزلتهم ومعها
امتيازاتهم وعائداتهم في حالة انتصار الوهابيين. ولذا فمن الطبيعي أن علماء
الحرمين لم يوافقوا على أن يقوم أحد النجديين بتعليمهم الإسلام الحقيقي".
ويتضح من أحكام وممارسات الوهابية اتجاهاها المحدد
تماما والمناهض للصوفية، وعلى وجه الدقة شجبها للصوفية بالشكل الذي انتشرت به في
الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر، صحيح أن تعاليم الوهابيين لم تتضمن
تهجمات سافرة على هذا التيار في الإسلام. حتى أن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
قال ذات مرة انه ليس ضد الصوفية(84). إلا أن هذا القول، على ما يبدو، مجرد استدراك
تكتيكي. فمن وجهة نظر الوهابية الحقيقية المعتمدة على الكتاب والسنة وتعاليم فقهاء
القرون الثلاثة الأولى للإسلام أنها تعتبر الصوفية بدعة وواحدة من أمهات الكبائر.
وان شجب عبادة الأولياء ورفض السحر والشعوذة موجهان في الواقع ضد الدراويش
المتصوفة. ولا يغيبنَّ عن البال أن منع التبغ والأفيون(85) والمسبحة والموسيقى
والإنشاد الصاخب وحلقات الذكر والرقص واحد من أهم محرمات الوهابية الثابتة(86).
وكان هذا المنع يشمل على الأكثر الممارسات الفعلية، ففي مؤلفات الوهابيين نجد
الاهتمام به اقل مما في كتابات الرحالة الأوروبيين.
وعندما عارض الوهابيون البدع من حيث المبدأ وساروا
بأحكام الحنبلية إلى حدها الأقصى رفضوا في الواقع المذهب السني الرسمي
للإمبراطورية العثمانية، أي الحنفية. ولذلك يمكن القول أن الوهابيين عارضوا
الإسلام بالشكل الذي كان قائما به في الإمبراطورية العثمانية.
أن حظر التبغ والألبسة الحريرية والاحتفالات الصاخبة
لم يكن يمثل مجرد موقف من البدع يطبق عمليا. فقد كان رد فعل لسكان نجد على المظاهر
الخارجية لنمط حياة الوجهاء العثمانيين. وكتب بوركهاردت "أن الوهابيين
يحتقرون الفخفخة في أردية الحجاج الأتراك"(87). وقال أن أعراب الجزيرة
متذمرون من المحاكم الفاسدة والتعسف في الإمبراطورية العثمانية ومن لجاجة الأتراك
ومن الشذوذ الجنسي الذي يمارسونه على المكشوف(88). واشار ج. رايمون، وهو مدفعي
فرنسي كان يعمل في خدمة والي بغداد، إلى أن الميول المعادية للأتراك كن منتشرة على
نطاق واسع في الجزيرة العربية. وقال له أحد الأعراب: سيأتي اليوم الذي نرى فيه
العربي جالسا على عرش الخلافة. فقد مر علينا زمان طويل ونحن تحت نير مغتصبي
السلطة(89).
أن تمرد الوهابيين على الإسلام العثماني، كما بينت
الأحداث، قد تجاوز كثيرا الإطار الديني واتسم بطابع سياسي وعسكري. لقد كان ذلك
صداما بين نظام الدولة العربي في الجزيرة وبين الإمبراطورية العثمانية. وصارت راية
للحركة الوطنية العربية ضد النفوذ العثماني في الجزيرة.
وكان اتجاه الوهابيين المستشرس ضد ا لشيعة ينطوي كذلك
على جنين أفكار النضال ضد الفرس بوصفهم من غلاة الشيعة، إلا أن ذلك لم يظهر خلال
الأحداث اللاحقة على نطاق واسع من الناحتين العسكرية والسياسية.
***
كان مذهب الوهابية نتيجة لازمه روحية خطيرة في
الجزيرة العربية أساسها العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسة.
وقد شكل هذا المذهب جناحا متطرفا للحنبلية، إذ رفض كل
البدع في الفرائض والعبادات وطالب بالعودة إلى الكتاب والسنة فقط.
ومن الناحية الاجتماعية كانت الوهابية تخدم مصالح
الوجهاء، لكنها طالبت بمعاملة العامة بالعدل والإحسان. وكانت في الوقت نفسه تنطوي
على عناصر ملازمة لحركات المساواة التعادلية.
وعندما وضع مذهب محمد بن عبد الوهاب الوهابيين على
طرفي نفيض مع سائر المسلمين حولهم إلى طائفة متراصة وأجج التعصب لديهم. وكانت
ضرورة الجهاد ضد المشركين التي أعلنها مذهب الوهابية قد جعلت منه راية لحروب الفتح
والغزوات.
وصارت الوهابية سلاحا فكريا لحركة التوحيد المركزية
في شبه الجزيرة العربية.
وقد باركت الوهابية نضال وجهاء نجد السياسي والعسكري
من اجل السيطرة في الجزيرة العربية ضد الحجازيين بالدرجة الأولى.
وعندما عارضت الوهابية شكل الإسلام السائد في
الإمبراطورية العثمانية تحولت إلى صيغة فكرية للحركة الوطنية لعرب الجزيرة ضد
الأتراك.
ووجد الوهابيون تربة صالحة في الواحات. فمع أن الكثير
من توجهات الوهابية، وبالدرجة الأولى تسديد الزكاة، قد نفَّر البدو، وخصوصا أبناء
القبائل الكريمة المحتد، ناهيك عن عدم مطابقة الكثير من التصورات الإسلامية
لمعتقدات وعبادات البدو الرحل. إلا أن أفكار الجهاد التي أعلنتها الوهابية، أي
الغزو تحت راية الإسلام، تنطوي على سمة جذابة بالنسبة للبدو. وعلى هذا الأساس كان
بالإمكان انضمام البدو إلى الوهابيين والتحالف بين وجهاء الحضر ووجهاء البدو في
ظروف معينة ولفترة زمنية محددة.
محمد بن عبد الوهاب وخطواته الأولى في السياسة. عندما
انتقل محمد بن عبد الوهاب إلى العيينة سارع إلى كسب رضا الأمير عثمان بن حمد بن
معمر. وقال له حسبما رواه المؤرخون "إني أرجو أن أنت قمت بنصر لا اله إلا
الله أن ينصرك الله تعالى وتملك نجدا وإعرابها". وكان هذا الاقتراح يناسب
الأمير. وسرعان ما ربطت أواصر القربى بين عائلتي محمد بن عبد الوهاب وحاكم
العيينة(90).
وبغية تحقيق أحكام الوهابية شرعا بتدمير الأضرحة
المحلية. وقطع محمد بن عبد الوهاب شخصيا الشجرة التي كان سكان تلك المنطقة
يقدسونها(91).
ثم جاء دور ضريح أحد الصحابة وهو زيد بن الخطاب
المدفون في الجبيلة. وكان ذلك ضريحا محليا يتوارد عليه الزوار. أراد سكان الواحة
أن يقاوموا تدمير ضريح وليهم، ولكن عثمان ومعه ستمائة محارب كان يحمي محمد بن عبد
الوهاب الذي حطم شاهد القبر بنفسه(92).
وبعد ذلك جرى في الواحة رجم أمراة اقترفت إثما. وطبق
ابن عبد الوهاب أحكام الشريعة حرفيا فأمر برجمها بالأحجار(93). ويقول ابن غنام:
"فخرج الوالي عثمان مع جماعة من المسلمين فرجموها حتى ماتت، وكان أول من
رجمها عثمان المذكور، فلما ماتت أمر أن يغسلوها وان تكفن ويصلى عليها(94). وشاع نبأ
هذا الحادث في الأرجاء مثيرا الرعب في قلوب الذين انحرفوا عن الإسلام الحقيقي، كما
يقول ابن غنام(95). وأعلنت الوهابي عن نيتها في تطبيق مبادئها دون رحمة.
وبلغ نبأ هذه الجريمة أسماع حاكم الأحساء والقطيف
وبدو أطرافهما سليمان بن محمد غرير الحميدي، الذي كانت العيينة تعتمد عليه بقدر
ما. ولما كان جزء من تجارتها يمر عبر مرافئ الأحساء، زد على ذلك أن أمير العيينة
كانت له في الأحساء بساتين نخيل وأملاك أخرى يستلم منها عائدات، أمر سليمان
الحميدي عثمان بقتل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهدده، أن لم يفعل، يقطع مؤن
الأغذية والألبسة عنه وحرمانه من العائدات(96).
ولعل أسباب تصرف سليمان الحميدي هذا تعود إلى الضغط
الذي مارسه عليه العلماء المحليون المستاءون من انتشار المذهب الجديد الذي ينسف
مواقعهم. زد على ذلك أن زعيم بني خالد كان، على ما يبدو، يخشى من تزايد قوة
الوهابيين الذين اعتبرهم خطرا على سلطته.
إلا أن أمير العيينة لم يتجرا أو ربما لم يرغب في قتل
الشيخ المتنفذ فنفاه(97).ولا يستبعد أن
عثمان بن معمر كان يريد الانتظار بعض الوقت ليعيد الفقيه الذي لا يقر له قرار.
واستقر محمد بن عبد الوهاب في الدرعية عام 1744 _1745
(98). وكانت عنده في هذه الواحة جماعة من الأتباع ومنهم اثنان من إخوان أميرها
محمد بن سعود وكذلك زوجة الأمير. ونزل محمد بن عبد الوهاب عند أحد تلاميذه وشرع حالا بالاتصال بحاكم الدرعية وساعد شقيقا
الأمير وزوجته على التقارب بينهما وكان محمد بن سعود الذي يعد خططا حربية طموحة مطلعا
على مذهب الفقيه المشهور، لذا قدر آفاق الوهابية حق قدرها.
وتوافقت رغبة محمد بن عبد الوهاب الذي ينشد الدعم
العسكري ورغبة الأمير الطموح الذي ينشد الدعم الديني في توحيد جهودهما وتم التحالف
المنشود. وطلب ابن سعود من محمد بن عبد الوهاب أن لا يغادر الدرعية وسعى إلى جعله
يوافق على الضرائب السابقة المفروضة على سكان الواحة. وقال له الأمير "إن لي
على الرعية قانونا أخذه منهم في وقت الثمار واخاف أن تقول لا تأخذ منهم
شيئا". إلا أن محمد بن عبد الوهاب وافق على الشرط الأول ورفض الثاني ووعد ابن
سعود بان غنائمه من الغزوات والجهاد ستكون أكبر من هذه الضريبة(100).
ويبين ذلك أن أمير الدرعية حاول أن يحتفظ بحق رعيته،
وهو أمر مرفوض على ما يبدو، من وجهة نظر الشريعة الإسلامية. إلا أن محمد بن عبد
الوهاب الأبعد نظرا اقترح على ابن سعود أن يتخلى عن تلك الضريبة وذلك بغية تحقيق
هدفين، هما الحفاظ على نقاوة المذهب وكسب تأييد السكان المحليين الذين خفت أعباؤهم
في الحال. وكان محمد بن عبد الوهاب يرى أن ذلك كله يمكن التعويض عنه، وقد تم
التعويض عنه فعلا بالغنائم الحربية الهائلة.
بهذا تنتهي المرحلة الأولى من تاريخ الوهابية،
وهي، أن صح القول، مرحلة التطور الجنيني والتجريب والاخفاقات والصياغة السياسية.
ومنذ الانتقال إلى الدرعية ارتبطت حياة محمد بن عبد بن عبد الوهاب ارتباطا لا ينفصم بمصير أماره الدرعية والدولة السعودية.
الفصل الثالث
قيام الدولة السعودية
الأولى (1745_1811 )
على أثر انتقال محمد بن عبد الوهاب
إلى الدرعية لحق به الكثير من أتباعه من
العيينة وسائر واحات نجد.
كانت عاصمة الدولة السعودية الشاسعة
آنذاك تعيش حياة البؤس. ولم يتمكن أبن سعود حتى من تأمين الأغذية لِأعز تلاميذ
محمد بن عبد الوهاب الذي كان يمارس تأثيره بقوة الإقناع فقط(1).
واطلع محمد بن عبد الوهاب أتباعه
وأنصاره على مبادئ مذهبه وأوحى لهم فكرة ضرورة الجهاد ضد الكفرة(2).
وبعد أولى غزوات الدرعيين على جيرانهم وزعت الغنائم بالعدل طبقاً لِأحكام
الوهابية: الخمس لِأبن سعود والباقي للجند: ثلث للمشاة وثلثان للخيالة. وكان
التمسك بالوهابية يكافأ مادياً. وإذا كان الغزو السابق مجرد حملة شجاعة، فقد تحول
الآن إلى انتزاع أموال المشركين وأحالتها إلى المسلمين الحقيقيين.
ولم تكن عمليات الوهابية الحربية
تختلف عن النزاعات العادية بين الدويلات_الواحات. غارة سريعة وكمين تنصبه بضع
عشرات من المحاربين وبضع عشرات من الإبل أو الأغنام التي يتم الاستيلاء عليها
في حالة الانتصار وأشجار نخيل مقطوعة وحقل
منهوب أو عدة منازل منهوبة _ تلك هي "منجزات" الدرعيين في السنوات
الأولى بعد مجيء محمد بن عبد الوهاب إليهم.
إلا أن راية تجديد الدين منحت أمير
الدرعية وزناً ومنزلة. وأخذ مؤرخو نجد يلقبونه بالإمام. وصار يعتبر أميراً
للمؤمنين، أي لجميع المنضمين إلى الوهابية. وأثناء الصلاة كان في مقدمة جمهور
المصلين.
فرض
زعامة الدرعية في وسط نجد. كان المحاربون من العيينة
بزعامة عثمان بن معمر أنصاراً ثابتين للدرعيين، حتى أن أميراً من العيينة قاد
القوات التي توحدت في السنوات الأولى(3). وارتبط عثمان بن معمر بالسعوديين بصلة قربى حيث زوّج ابنته من عبد العزيز بن
محمد. وفي عام 1748 ولد أبنهما سعود الذي بلغ الوهابيون أوج قوتهم في عهده(4). إلا أن العداء حتى الموت بين
الأقارب كان ظاهرة عادية تماماً في الجزيرة العربية، فلا داعي للدهشة من تطور
الأحداث لاحقاً. وكان لموقف محمد بن عبد الوهاب، الذي لم ينس أن أمير العيينة نفاه
منها، أهمية حاسمة في التنافس بين حكام الدرعية والعيينة.
واتهموا أمير العيينة كذلك بأنه أجرى
مرسلات سرية مع حاكم الأحساء محمد بن عفالق وأعد العدة للخيانة. وفي حزيران
(يونيو) 1750 قتله الوهابيون من أبناء واحته بعد صلاة الجمعة. وصار حاكماً للواحة
قريبه مشاري بن إبراهيم بن معمر المعتمد على الدرعية(5). وبعد عشر سنوات فقدت
العيينة استقلالها نهائياً. فقد نحى محمد بن عبد الوهاب مشاري وأسكنه الدرعية مع
عائلته وعين بدلاً منه شخصاً خاضعاً للسعوديين كلياً. ووصل محمد بن عبد الوهاب
شخصياً إلى العيينة وأمر بتدمير قصر آل معمر(6).
وبعد خمس سنوات من التحالف بين محمد
بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود كانت سلطة أمير الدرعية ما تزال موضعاً للشك
والمجادلة حتى في أقرب الواحات. وفي 1750 _ 1753 حاولت إمارات منفوحة وحريملا
وضرمى، التي كانت بين أوائل الذين تحالفوا مع الوهابيين، أن تنفصم عرى التبعية
للدرعية(7). وشجع الانتفاضة في حريملا سليمان شقيق محمد بن عبد الوهاب. وبعث إلى
أرجاء نجد كافة رسائل شجب فيها تعاليم أخيه. وبتأثير الدعاية المناهضة للوهابية
بدأت القلاقل حتى في العيينة(8). إلا أن عبد العزيز استطاع مع 800 من المشاة و 20
من الخيالة الاستيلاء على حريملا في عام 1755، وفر سليمان إلى سدير(9).
وظل أمير الرياض دهام بن دواس
المنافس الرئيسي للسعوديين. وكانت الغزوات من الدرعية والرياض على بعضهم بعضاً
تجري كل عام تقريباً. وقاتل مع دهام على التوالي سكان مناطق وواحات الوشم وسدير
وثادق وحريملا، إلى أن الوهابيين كانوا، في الغالب، هم الجانب المهاجم.
وعلى مسرح الأحداث في يجد ظهر
الأحسائيون من جديد في أواخر الخمسينات، وقد قادهم خلال بضع سنوات حتى ذلك الحين
زعيم نشيط هو عريعر أبن دجين. فقد قاموا بحملة على وسط الجزيرة، ولكنهم لم يوفقوا
فيها. وانتقلت المبادرة مرة أخرى إلى الدرعية.
وفي أواخر عام 1764 قام زعيم القبائل
البدوية في منطقة نجران الحسن بن هبة الله بحملة على الدرعية. ودحر قوات عبد
العزيز عن آخرها، حيث كبدها حوالي 500 قتيل و200 أسير. وأبدى محمد بن عبد الوهاب
دهاء دبلوماسياً كبيراً فسارع لعقد الصلح على أساس دفع تعويضات الحرب وتبادل
الأسرى. وانسحب النجرانيون دون أن ينتظروا وصول عريعر من الأحساء(10)
ووصلت قوات عريعر المسلحة بالمدافع
إلى ضواحي الدرعية في بداية عام 1765. وانضم إليها الكثير من النجديين، بمن فيهم
دهام أمير الرياض وزيد بن زامل أمير الخرج. إلا أن حصار الدرعية أخفق(11).
وفي ذلك العام توفي محمد بن سعود.
وخلفه عبد العزيز. ويشير أبن غنام وأبن
بشر إلى أن عبد العزيز لم يكن ولي العرش فقط، بل كان إماما للوهابيين.
وبعد الهزة التي نجمت عن الهزيمة
أمام النجرانيين وغزو الأحسائيين تماثلا إمارة السعوديين للشفاء بسرعة. واستمر
توسعها بوتائر متسارعة، وفي أواخر الستينات اخضع الوهابيون كلياً الوشم وسدير
وهاجموا واحة الزلفى الواقعة شمال شرقي مقاطعة القصيم النجدية الغنية وشنوا حملات
ناجحة على البدو جنوبي وشرقي نجد. وخضعت مفارز من قبائل سبيع والظفير للوهابية.
وفي عام 1669 _ 1770 أقسم القسم الأكبر من القصيم يمين الولاء للوهابية
والسعوديين(12).
وفي هذه الظروف غدا وضع الرياض
المطوقة من جميع الجهات بإتباع حلفاء
الوهابيين ميئوساً منه. وفي إحدى المناوشات قتل الدرعيون أثنين من أبناء دهام.
وتدهورت معنويات أمير الرياض العجوز. وعندما وصل الوهابيون في صيف 1773 إلى الرياض
رأوا أن المدينة خالية من سكانها. وفر أمير الرياض مع عائلته. وحذت حذوه أغلبية
السكان الذين كانوا يخشون، وليس بدون حق، من ثأر خصومهم القدامى. وهلك كثير من
سكان الرياض في الطريق بسبب الحر والعطش، كما سقط الكثيرون بسيوف الوهابيين(13).
وانتهى الصراع من أجل السيطرة في وسط نجد بعد أن استغرق حوالي ربع قرن. ولكنه لم
يخرج عن نطاق النزاع القبلي. وتفيد حسابات المؤرخين، التي هي ربما أقل مما في
الواقع، أن عدد القتلى بلغ 4_ 5 آلاف شخص يشكل أتباع دهام أكثر من نصفهم. ويمكن أن
نوافق على رأي فيلبي الذي كتب يقول: "حتى ذلك الحين كان عبد العزيز يتربع منذ
ثماني سنوات على عرش الدرعية التي كانت أكبر شأناً بقليل من سائر ) primus inter pares (
الدويلات العديدة في الجزيرة العربية(14). إلا أن الوهابيين حصلوا على قاعدة متينة
لمواصلة توسيع دولتهم.
كانت سلطة السعوديين قائمة ليس فقط
على قوة السلاح. فكل واحة تضم إلى الدولة يصلها من الدرعية علماء وهابيون يدعون
إلى التوحيد الحقيقي. وأخذ قسم من سكان نجد يعتبر الدرعية لا مجرد عاصمة لِإمارة
قوية بل مركزاً روحياً، ويعتبر حكام الدرعية ليسوا مجرد أمراء أقوياء بل مناضلين
في سبيل نقاوة الدين. ولا يغيبن على البال أن العلماء وأنصار الوهابيين في
الإمارات المعادية للدرعية كانوا يفُتتون المقاومة من الداخل.
على العموم لقد تمكن السعوديون
بصعوبة كبيرة، رغم الجهود الهائلة، من قهر مقاومة الأمراء المستقلين. وكان واضحاً
أثر قوى التجزئة واللامركزية والفوضى القبلية. لذا تعين مرور عشرة أو اثني عشر
عاماً على سقوط الرياض لتقع نجد بكاملها تحت سيطرة الدرعية.
توحيد
وسط الجزيرة العربية. بعد ضم الرياض صار الخصم
الرئيسي للسعوديين في نجد، زيد بن زامل، الأمير الداهية الشجاع وحاكم الدلم ومنطقة
الخرج كلها. وقد حاول من جديد اجتذاب قبائل نجران للمشاركة في مكافحة الوهابيين.
ولهذا الغرض توجه بطلب إلى أمير نجران للمشاركة في مكافحة الوهابيين. ولهذا الغرض
توجه بطلب إلى أمير نجران ليرسل محاربين لنجدته ووعده بمكافأة معينة. ووصل أبناء
نجران ولكنهم بدلاً من تقديم النجدة أخذوا يبتزون النقود وينهبون سكان الخرج.
فأخفق التحالف المنشود.
وفي منتصف السبعينات دخل محاربو بني
خالد وعلى رأسهم عريعر نجد قادمين من الأحساء واحتلوا بريدة في القصيم ونهبوها
بوحشية. وكان العديد من حكام واحات نجد المتذمرين من سلطة السعوديين مستعدين لدعم
الأحسائيين، ولكن عريعر توفي بغتة. وبدأ عند بني خالد صراع من أجل الرئاسة. وفاز
في هذا الصراع مؤقتاً أحد أبناء عريعر وهو سعدون، إلى أن أمراء الدرعية أخذوا
يحرضون إخوانه ضده(15).
وخلال السنوات القليلة التالية كان
الأحسائيون يظهرون في نجد كل عام تقريباً. وشاركت مع بني خالد في الغزوات قبائل
سبيع والظفير. وكان عدد من واحات نجد تارة ينضم إلى الوهابيين وتارة ينفصل عنهم
ويعمل بصورة مستقلة وتارة يتحالف مع أعداء
الدرعية.
ويبين مشهد هام ذكره منجين سير
العمليات الحربية آنذاك. فقد أنشأ الوهابيون قرب الدلم قلعة للتضييق على عمليات
مفارز زيد بن زامل. وكانت مشارف القلعة صعبة المنال وقد وقفت في حمايتها عساكر
وهابية مختارة. وبغية إخراج العدو من القلعة أنشأ أهل الدمل، بإشراف أحد الفرس
القاطنين في الواحة، برجاً متنقلاً على أربع عجلات ولبسوه بالرصاص لحمايته من
النار. ودخله محاربون ودحرجه آخرون نحو القلعة. إلا أنه تلكأ عند مشارفها، ولم
ينقذ المحاربين القابعين في البرج المتنقل إلى عملية مستميتة لمفرزة من شجعان
الدلم(16).
ورغم المقاومة وسعت الدولة السعودية
نفوذها وأراضيها بالتدريج. وبعد احتلال الوهابيين لواحة المجمعة توقف عمل أنشط
الدعاة المعاديين للوهابية، ونعني سليمان بن عبد الوهاب. فقد نقل مع عائلته إلى
الدرعية حيث ظل حتى وفاته(17).
وفي مطلع الثمانينات تقرر مصير
القصيم نهائياً، فطوال عدة سنوات استمرت القلاقل والنزاعات التي تخللتها عمليات ضد
الدرعية. ولم يخفت أوار العداء القديم، وظل باقيا مفعول علاقات التحالف والترابط
والنفور والتضاد السابقة. وفي عام 1782 دخل القصيم سعدون بن عريعر على رأس قوات
بدوية من بني خالد وشمر والظفير. وكان مصمماً على طرد الوهابيين.وانضم أليه زيد بن
زامل وقواته. وطوال عدة أسابيع حاصروا بريده التي ظلت موالية للوهابيين، ولكن دون
جدوى هذه المرة. وانحل الائتلاف المعادي للوهابيين وغادر الأحسائيون نجد(18).
وفي عام 1783 قُتل زيد. وتزعم الدلم
أبنه براك. إلا أن مكانة الأمير الجديد كانت مضعضعة بسبب التنافس داخل الأسرة
الحاكمة(19).
وفي الفترة 1783_1786 أصاب نجد جفاف
مرعب وتفشت المجاعة. وغدت حالة الخرج التي حاصرها الوهابيون ميئوسا. وفي عام 1785
تم احتلال الدلم بهجوم سريع، وقتل الأمير وبعض أنصاره. وأقسمت منطقة الخرج كلها
يمين الولاء للسعوديين. وعين القائد العسكري الوهابي سليمان بن عفيصان حاكماً
للدلم(20).
في تلك السنوات على وجه التقريب خضعت
للدرعية الأفلاج والدواسر، مع أن الانتفاضات ضد الوهابيين استمرت أمداً طويلاً في
الدواسر(21).
وشعرت أقوى القبائل البدوية في
الجزيرة العربية بثقل قبضة حكام الدرعية. وعندما دحر الوهابيون بدو الظفير في عام
1781 انتزعوا منهم كل ما يملكون: أدوات المخيمات و 17 ألف نعجة وماعز و 5 آلاف جمل
و 15 حصاناً(22) وقام الوهابيون كذلك بغزوات على آل مرة وقحطان وسبيع وبني خالد.
وتوغلوا في الشمال واخضعوا جبل شمر في النصف الثاني من الثمانينات(23).
واكتمل التفاف أراضي وسط الجزيرة حول
الدرعية. ومع أن بعض العمليات كانت ما تزال جارية في بعض المناطق ضد السعوديين فلم
يعد جائزاً اعتبار الأمراء المحليين من منافسيهم. وفي أفضل الأحول كانوا شبه
تابعين لهم، وفي الغالب كانوا صنائع مباشرين للدرعية يؤدون دور الولاة(24).
وأدى تعزز سلطة آل سعود ونفوذهم
عموماً إلى جعل عبد العزيز ومحمد بن عبد الوهاب يقدمان في عام 1788 على خطوة هامة.
فقد أمنا لسعود حق ولي العرش بالوراثة والأمام عبد العزيز ما يزال على قيد الحياة.
وأخذ محمد بن عبد الوهاب على عاتقه مهمة جعل مدن ومناطق الدولة تقسم يمين الولاء.
وكان سعود قد حضي أصلاً بشعبية واسعة بفضل بسالته وانتصاراته الحربية ومشاركته في
تصريف شؤون الدولة(25). وكان الإعلان عن ولي العهد قد عزز أسرة آل سعود لأنه أمن
انتقال السلطة بصورة أسهل نسبياً من الأمير إلى أبنه.
إن وراثة الابن لأبية شيء معتاد في
الجزيرة العربية ولكنه غير إلزامي. فالسلطة كانت تنتقل حسب الأقدمية في العمر داخل
الفخذ وحسب السجايا الشخصية لأقرب الأقرباء. وتعود الكلمة الحاسمة في اختيار
الأمير الجديد إلى كبار الوجهاء. وان إصرار المؤرخ الوهابي أين غنام على تبرير
شرعية يمين الولاء لسعود يشير إلى أن فكرة لزوم انتقال السلطة من الأب إلى أبنه
صادفت، على الأرجح، بعض المقاومة والاعتراض.
وبالاعتماد على موارد وسط الجزيرة
بدأ الوهابيون تقدما ناجحاً في جميع الاتجاهات: نحو الشرق والشمال الشرقي _ إلى
الأحساء وجنوب العراق، ونحو الغرب _ إلى الحجاز، ونحو الجنوب الغربي _ إلى اليمن،
ونحو الجنوب الشرقي _ إلى عمان، ونحو الشمال إلى حدود الشام.
الوهابيون
في شرقي الجزيرة. مما سهل هجوم الوهابيين على الأحساء
النزاعات الداخلية في هذه المنطقة الغنية. وفي عام 1785 _ 1786 دبر أقرب أقرباء
سعدون بن عريعر مؤامرة ضده. وطلبوا من شيخ المنتفق ثويني بن عبد الله أن يؤيدهم.
فبدأت العمليات الحربية.
مُني سعدون بالهزيمة في الاشتباك
الحاسم وولى هارباً. وطلب من الدرعية أن تمنحه اللجوء فاستقبلته بحفاوة. وتفيد بعض
المعلومات أنه سرعان ما توفي بعد ذلك. وصار دويحس، لبعض الوقت، حاكماً
للأحساء(26).
وخف ضغط الوهابيين على الأحساء فترة
قصيرة بسبب الغارة غير المتوقعة التي قام بها شيخ المنتفق ثويني على القصيم في
1786 _ 1787. فقد جمع قوات كبيرة مزودة بالمدفعية. وشاركت معه في هذه الغزوة بعض
قبائل شمر وكذلك سكان الزبير. وحطمت قوات ثويني عدة قرى في القصيم ولكنها ردت على
أعقابها(27).
وبعد أن عاد ثويني إلى منطقة قبائل
المنتفق أراد أن يستولي على البصرة ويعلن نفسه حاكماً لها. إلا أن والي بغداد
سليمان باشا، المستقل في الواقع عن الباب العالي، هاجم ثويني في خريف 1787 وهزمه
قرب مدينة سوق الشيوخ، ثم أمر فيما بعد برصف ثلاثة أبراج من جماجم قتلاه. وفر
ثويني وصار حمود بن ثامر شيخاً للمنتفق(28).
وكثيراً ما نصادف في كتابات مؤرخي
الجزيرة، التي تتناول بداية نشاط الدولة الوهابية، معلومات عن الاشتباكات بين قوات
السعوديين والبدو. ولكنه في أواخر الثمانينات نلاحظ مشاركة متزايدة من بدو بعض
القبائل في الحملات التي يشنها الوهابيون أنفسهم. وقد كرر أبن بشر الإشارة إلى ذلك
مراراً.
وكان الوهابيون يقومون سنوياً بحملات
على أعماق الأحساء حتى بلغوا سواحل الخليج. ولم يكتف الوهابيون بغزو واحات شرق
الجزيرة وقبائل بني خالد، بل هاجموا كذلك قبيلة المنتفق شمالي الأحساء(29).
وقمع الوهابيون المقاومة بمنتهى
القسوة. فقد كتب أبن غنام أن الوهابيين عندما عادوا ذات مرة من الواحات وجدوا
"أكثر الرجال… في بيت من البيوت، وكانوا ثلاثمائة نفس فقتلوا جميعاً(30 ).
وفي خريف 1788 صار بعض أفخاذ قبيلة
بني خالد يقاتل في صف الوهابيين. ونصبت الدرعية زيد بن عرير شيخاً لمشايخ بني
خالد. إلا أن الأحساء كانت ما تزال غير راضخة بعد(31 ). فإن المقاومة اللاحقة التي
أبداها سكانها وانتفاضاتهم المتكررة تدل على أن الميول المعادية للوهابية كانت
قوية هنا. وربما يعزى ذلك إلى وجود عناصر شيعية قوية في الأحساء، وإلى كون وجهائها
الذين تعودوا على اعتبار النجديين جهة لهجماتهم لم يستطيعوا الرضوخ لدور الخضوع.
وفي 1791 _1792 اجتاح سعود بالحديد
والنار واحات شرقي الجزيرة فاحتل القطيف. وفي تلك الأثناء قام سليمان بن عفيصان
بغزوة على قطر(32). إلا أن الأحساء كلها سرعان ما هبت في انتفاضة عارمة. ودحر بنو
خالد صنيعة الوهابيين، وصار شيخاً للأحساء، برّاك بن عبد لمحسن، الذي بدأ غزواته
فوراً على البدو والواحات الخاضعة للسعوديين إلى أن بني خالد اندحروا في إحدى
المعارك ففقدوا أكثر من ألف شخص. وأعربت واحات الأحساء عن خضوعها لسعود. وظل
الوهابيون شهراً في هذه المنطقة فدوروا قباب الأضرحة وجميع العتبات المقدسة
للشيعة. وتوجه العلماء الوهابيون إلى المدن والواحات هناك(33).
وفي معمعان إخضاع الأحساء، في عام
1792، توفي مؤسس الحركة الوهابية محمد عبد الوهاب(34). وكان شخصية بارزة بالنسبة
لعصره ومجتمعه وطبقته. وكان يتحلى ببسالة وحماسة متناهيتين. فإن تحدي النظام
الديني في الجزيرة العربية آنذاك ومواجهة حماة القديم الهائجين يتطلبان بسالة
منقطعة النظير. وتعرضت حياته للخطر مراراً، وقد أجلى ثلاث مرات، ولكن ذلك لم يثن
عزيمته. وساعد محمد بن عبد الوهاب لدرجة كبيرة، بخطبه الحماسية وبلاغته، على نجاح
الحركة الدينية التي بدأها وعلى توسيع الدولة السعودية. وكتب أبن بشر عنه أنه نشر
"راية الجهاد بعد أن كانت فتناً وقتالاً(35). ويقول منجين: "كان يتحلى
بأكبر قدر من فن الإقناع ويخلب الألباب بخطبه…"(36).
ويشير مؤلف "لمع الشهاب"
إلى نقطة هامة أخرى وهي أن محمد بن عبد الوهاب بالذات علّم سكان الدرعية، كما
يزعمون، على صنع واستخدام السلاح الناري(37). وإذا كان قد اضطلع بهذا الدور الذي
لا يميز الفقهاء فيمكن الافتراض بأن مكانته في تأسيس أمارة الدرعية وانتصاراتها
الحربية كانت أكبر مما يشير إليه مؤرخو نجد.
كان محمد بن عبد الوهاب يتحلى بهمة
حياتية فائقة. ويقول منجين أنه "كان يهوى النساء وله عشرون زوجة أنجب منهن 18
طفلاً" ولعل في ذلك شيء من المبالغة. وقد غدا خمسة من أبنائه وكثير من أحفاده
فقهاء معروفين.
وترك محمد بن عبد الوهاب لورثته
أرضاً فيها نخيل وأشجار فاكهة وحقول تبلغ عائداتها 50 ألف درهم ذهبي سنوياً،
بالإضافة مكتبة تضم بضع مئات من الكتب. وبعد وفاة محمد بن عبد الوهاب صار أبنه
حسين، وهو ضرير تقريباً، مفتياً للدرعية، وبعده شغل أخوه هذا المنصب.
إن أسرة الفقهاء التي صارت تسمى آل
الشيخ قد احتفظت بوزنها ونفوذها ومكانتها في الدولة السعودية حتى اليوم، ولكن
أحداً من أحفاد محمد بن عبد الوهاب لم يرتفع إلى منزلة مؤسس الوهابية في إمارة
الدرعية.
وفي تلك الأثناء بدأت في الأحساء من
جديد انتفاضة ضد سلطة النجديين. فقد قتل سكان الهفوف ثلاثين من ممثلي الدرعية _
الحاكم والموظفين والعلماء الوهابيين وسحلوا جثثهم في شوارع المدينة ومثلوا بها
على رؤوس الأشهاد. وأيدت الهفوف عدة واحات أخرى. وكان صنيعة الوهابيين زيد بن
عريعر، زعيم بني خالد، قاد خان أسياده وشاركه في الانتفاضة.
وفي خريف 1793 توجه سعود مع قوات
كبيرة إلى الأحساء، ونهبت قواته البدوية كل ما صادفته في طريقها وقتلت دون رحمة كل
ما أبدى مقاومة ودمرت بساتين النخيل واستأثرت بمحاصيل التمور ورعت الماشية في
الحقول. وكان منافس زيد بن عريعر وخصم الوهابيين سابقاً، برّاك بن عبد المحسن، قد
انتقل إلى جانبهم. وأعربت الأحساء كلها عن خضوعها لهم. وعين برّاك بن عبد المحسن
أميراً للأحساء(39)، ولكنه حاول في ربيع 1796 أن يتخلص من سلطة الوهابيين الذين
انشغلوا بعمليات حربية غربي وجنوب غربي نجد(40). وبعد عدة أشهر وصل سعود مع جيش
قوي إلى الأحساء وقمع الحركة فيه من جديد(41).
وكتب أبن بشر في وصف إخضاع الأحساء
يقول: "فلما أصبح الصباح رحل سعود بعد صلاة الصبح فلما استووا (يقصد
الوهابيين) على ركائبهم وساروا، ثوروا بنادقهم دفعة واحدة. فأظلمت السماء وأرجفت
الأرض وتأرجح الدخان في الجو وأُجهضت الكثيرات من النساء الحوامل في الأحساء. ثم
نزل سعود… وظهر عليه جميع أهل الأحساء على إحسانه وإساءته. وأمرهم بالخروج أليه
فخرجوا فأقام في ذلك المنزل مدة أشهر يقتل من أراد قتله، ويجلي من أراد جلاءه
ويحبس من أراد حبسه، ويأخذ من الأموال، ويهدم من المحال، ويبني ثغوراً ويهدم
دوراً، وضرب عليهم الوفا من الدراهم وقبضها منهم. وذلك لما تكرر منهم من نقض العهد
ومنابذة المسلمين، وجرهم الأعداء عليهم، وأكثر فيهم سعود القتل، فكان مع ناجم بن
دهينيم عدة من الرجال يتخطفون في الأسواق لأهل الفسوق ونقاض العهد… فهذا مقتول في
البلد، وهذا يخرجونه إلى الخيام ويضرب عنقه عند خيمة سعود، حتى أفناهم إلا قليلاً.
وحاز سعود من الأموال في تلك الغزوة ما لا يعد ولا يحصى. فلما أراد سعود الرحيل من
الأحساء أمسك عدة رجال من رؤساء أهلها… وظهر بهم إلى الدرعية وأسكنهم فيها واستعمل
في الأحساء أميراً ناجم المذكور، وهو رجل من عامتهم"(42).
هكذا تم إخضاع شرق الجزيرة العربية
للوهابيين وصارت تابعة للسعوديين الممتلكات العائدة في الجزء القاري لأسرة آل
خليفة الحاكمة في البحرين(43).
وفي بداية التسعينات كانت على أشدها
أيضاً العمليات الحربية غربي نجد. إمارة
السعوديين والحجاز قبل عام 1802. بعد بدء الحركة
الوهابية وتوسع إمارة السعوديين لم تنشب أي صدمات حربية بين حكام الدرعية ووجهاء
الحجاز.
ولم تكن سلطة شريف مكة مساعد الذي
حكمها من 1752 حتى 1770 متينة. ففي نهاية حكمه خيم على مكة خطر فقدان الاستقلال
الواسع الذي كانت تتمتع به في الإمبراطورية العثمانية. وفي عام 1769 أعلن حاكم
القاهرة علي بك استقلال مصر عن الباب العالي. وضم الحجاز إلى ممتلكاته بيد أن
محاولة علي بك لتأسيس دولة عربية مستقلة لم تكلل بالنجاح. فتخلص الحجاز من حكم
المصريين(44).
ويقول مؤرخو الجزيرة أن السعوديين
ومحمد بن عبد الوهاب أقاموا مع حكام مكة علاقات ودية. وعلى أثر انتقال محمد بن عبد
الوهاب إلى الدرعية وصل إلى مكة ثلاثون فقيهاً وهابياً للحصول على موافقة بالحج
وإجراء حوار مع فقهاء مكة واعتبر فقهاء مكة كما يفيد دحلان تعاليم الوهابيين زندقة
فظيعة وكفراً. وأمر شريف مكة بأن تنشر في كل مكان رسائل فيها أدلة تثبت كفر
الوهابيين وبأن يقيد هؤلاء الكفرة بالسلاسل ويزج بهم في السجن. وتمكن قسم منهم من
الفرار فحملوا إلى الدرعية أخبار ما حدث(45).
وفي مطلع السبعينات أجرى محمد بن عبد
الوهاب وعبد العزيز مراسلات مع شريف مكة ويتبادلوا الهدايا. وفي تلك السنوات كان
الأشراف يسمحون أحياناً بالحج للوهابيين. وعندما صار سرور حاكماً لمكة عام 1773
بعث إليه عبد العزيز هدايا ثمينة ليعرب له عن مودته(46).
ويبدو أن حكام مكة والدرعية كانوا
يقيمون علاقات ودية معتدلة فيما بينهم طالما أن مصالح النجديين والحجازيين لم
تتصادم مباشرة وطالما أن الحجازيين يخشون تدخل المصريين أو الأتراك في شؤونهم. أما
تعاليم الوهابيين فأن علماء الحجاز ووجهاءه كانوا، على الأرجح، قد استقبلوها في
العداء منذ البداية
وتمكن حاكم مكة، سرور، من التخفيف من
غلواء عوائل الأشراف وتعزيز مواقعه في الحجاز(47). ولكنه على أثر وفاه سرور صار
غالب بن مساعد شريفاً لمكة في عام 1788، وهو فتى لا يمتلك سلطة فعلية فظل لبعض
الوقت أداة في أيدي عبيد ومملوكي الأمير السابق اللذين أخذوا يضيقون على السكان
المحليين فصاروا يضمرون لهم حقداً. وهذا ما ساعد غالب في القريب العاجل على التخلص
من العاصيين وتعزيز منزلته. وكان غالب محارباً شجاعاً وسياسياً نافذ البصيرة.
فاستطاع أن يقيم علاقات طبية مع القبائل البدوية المجاورة لمكة، وقام بالغزوات
معتمداً على هذه القبائل وعلى حرس العبيد المكون من بضع مئات من الأشخاص بعد
تجديده(48).
وفي عام 1790 _ 1791 أعد شريف مكة
حملة على نجد من قوات بعشرة آلاف محارب و 20 مدافعاً. إلا أن محاولاته في السيطرة
على واحات نجد المحصنة قد أخفقت، فتركه حلفاؤه من بعض قبائل البدو. وعاد إلى مكة
مع النواة الأساسية لقواته. وفي صيف 1791 ألحق سعود هزيمة ماحقة بحلفاء الشريف في
منطقة جبل شمر بعد أن شاركوا في حملاته، ونعني بدو شمر ومطير. وفر البدو تاركين
للوهابيين غنائم وفيرة جداً _ حوالي مائة ألف من الغنم والماعز وبضعة آلاف من
الإبل(49).
وبدأت فصائل الوهابيين غزوات على
المناطق الواقعة بين نجد والحجاز وعلى الواحات والقبائل الخاضعة لشريف مكة. وفي
أيار (مايو) 1795 حاصر سعود تربة التي كانت مركز استراتيجي هام على مشارف
الحجاز(50).
وفي صيف العام نفسه ورداً على هجوم
الوهابيين قام الحجازيون بغزوة على نجد. وتشجع غالب بنجاح هذه الغزوة فجّهز في
شتاء 1795 _1796 قوات كبيرة جديدة مزودة بالمدافع للقيام بحملة في أعماق الجزيرة
العربية. وقد أُبيدت هذه الحملة عن آخرها على يد القوات الموحدة وبعض من قبائل
عتيبة على ما يبدو. ويؤكد أبن غنام أن غنائم الوهابيين بلغت 30 ألف من الإبل و 200
ألف من الغنم الماعز(51).
وأرغمت الهزيمة الماحقة غالب على
توقيع الصلح(52). وكان واضحا أن النجديين متفوقون في القوات. فقد واصلوا تقدمهم
نحو الجنوب حتى وصلوا نجران والحدود الشمالية لليمن(53). ويبدو أن اتصالاتهم مع
سكان عسير تعود إلى تلك الفترة.
كانت قبيلة عتيبة الجبارة الخاضعة في
السابق لأشراف مكة قد انضمت إلى إمارة الدرعية في 1797 _ 1798. ووافق البدو على
تنفيذ كل أحكام الوهابية وتسديد الزكاة ودفع تعويضات الحرب لقاء العمليات العدائية
السابقة. ويقول منجين أن البدو دفعوا من كل عائلة أربعة ريالات، ومن كل فخذ كمية
معينة من السلاح والخيل والإبل(54).
وفي عام 1798 حاول غالب الذي ضمت
قواته مرتزقة من الأتراك والمصريين والمغاربة أن يتقدم مراراً نحو الحرمة وبيشة،
ولكنه دحر. وسيطر أمير الدرعية على بيشة. وأقدم شريف مكة من جديد على الصلح وسمح
للوهابيين بالحج(55). وبعد عامين، كما يقول أبن بشر، أدى سعود وعائلته وبعض قواته
فريضة الحج لِأول مرة، وفي السنة التالية قام بالحج للمرة الثانية. وقدم هناك
الهدايا بسخاء وحصل على أنصار(56).وفي هذا الوقت بالذات أقام عثمان المضافي، وهو
من أقرباء شريف مكة، ارتباطاً معه وعرض علينه خدماته(57).
وغداً واضحاً أن الوهابيين يكادون
يخضعون الحجاز بالكامل.
فشل
حملتي والي بغداد على الأحساء. في الفترة نفسها لغزو
الأحساء، وخصوصاً بعد إخضاعها، قامت فصائل الوهابيين بحملات على المناطق الواقعة
شمالها. فقد تعرضت لهجماتهم قبائل وقرى جنوب العراق. واستعد والي بغداد الذي دفعه
الباب العالي لمحاربة الوهابيين.
كان والي بغداد آنذاك يتمتع بحظوة
خاصة عند الإمبراطورية العثمانية. فبعد الحروب التركية الفارسية المدمرة وبعد
الفتن والنزاعات الداخلية استولى المماليك على السلطة في بغداد. واعتباراً من عام
1780 حكم بغداد بصورة مستقلة في الواقع سليمان باشا، وهو مملوك جورجي لوالي بغداد
السابق. واضطرت الأستانة إلى الموافقة على تسنمه لهذا المنصب.
كان توسع أمارة الدرعية في هذه
المنطقة يستهدف الشمال الشرقي. وفي هذا الاتجاه كانت القبائل العربية تنزح عموماً
طوال القرون. فمن المعروف، مثلاً، أن قبائل شمر في القرن الثامن عشر تغلغلت في
أعماق العراق بعيداً حتى أنها انتقلت إلى ما وراء دجلة(58). وأثناء القحط الفضيع
في وسط الجزيرة في الستينات انتقل بقض سكان
نجد إلى الزبير وشمالها(59).
وكانت قبائل البدو المترحلة في جنوب
العراق قد أقامت علاقات وثقى مع مدن العراق وقراه. وكانت لحكام بغداد مصلحة في
مساعدة البدو لِأجل حماية الطرق التجارية والقرى والمدن، كما كان هؤلاء الحكام
يشترون من البدو ماشية الحمل والركوب. وواصل ولاة بغداد تقاليد حكام ما بين النهرين منذ آلاف السنين فراحوا
يمنحون الهدايا لشيوخ البدو، ويسلحونهم لكي يصدوا الحملات البدوية المنطلقة من
مناطق وسط الجزيرة العربية. وكان استخدام قبائل المنتفق وغيرهم في محاولة لتقويض
سلطة الوهابيين في الأحساء يستجيب كلياً لهذه السياسة.
وتزعم ثويني الحملة على الوهابيين.
كان زعيم المنتفق السابق هذا قد طاف أمداً طويلاً عندما أجلي بعد إخفاق محاولته
لترسيخ إقدامه في البصرة حتى أنه حل بعض الوقت
بمثابة ضيف كريم على الدرعية. ثم استولى على السلطة في قبيلته من جديد، كما
تفيد بعض الروايات. وتوجه بطلب إلى سليمان باشا ليسلحه ضد الوهابيين(60). وتقول
رواية أخرى أن ثويني اقنع والي بغداد بأن يسلمه السلطة في المنتفق ووعده بالقيام
بحملة على نجد ودحر الوهابيين، وعند ذاك نحي سليمان باشا حمود بن ثامر عن رئاسة
القبيلة عين ثويني بدلاً منه(61).
وفي مطلع عام 1797 بدأ ثويني حملته
على الوهابيين. ككان تحت قيادته جنود القوات النظامية بالإضافة إلى فصائل من
البصرة والزبير. وانضمت إلى حملته بعض أفخاذ بني خالد برئاسة براك بن عبد المحسن
الذي هرب من الأحساء.
وجمع عبد العزيز كل قواته مدركاً
خطورة الموقف. وأمر البدو المخلصين له بأن يحتلوا أراضي قبيلة بني خالد التي يمكن
أن تنضم إلى ثويني، كما أمرهم بحماية الآبار الرئيسية، وعلى أثر ذلك أرسلت إلى
الأحساء أكثر قوات الوهابيين صموداً، وهي مكونة من حضر العارض.
وبدأت في الأحساء معارك طاحنة بين
قوات ثويني والوهابيين، إلا أن الحظ ابتسم لحاكم الدرعية فجأة. ففي معمعان الحملة
قتل ثويني على يد عبده الأسود طعيس، وهو وهابي متعصب. وقد قطعوا عنق طعيس في
الحال إلا أن مقتل ثويني قد قرر مآل
النزاع، فانفصل بنو خالد بزعامة براك عن المنتفق، الأمر الذي جعل الاضطراب يستولي
على قوات ثويني. وذعرت فصائل البدو والترك وأخذت تنسحب على عجل إلى الشمال تاركة
الأسلحة والذخيرة، مما أوقع معسكر ثويني كله ومدفعيته في أيدي الوهابيين في حزيران
(يونيو) 1797. وطاردت الفصائل الوهابية العدو حتى وصلت مشارف الفرات الأوسط(62).
وفي العام التالي تغلغل الوهابيون في
بادية الشام، كما وصلوا إلى مديني سوق الشيوخ والسماوة في العراق(63).
في أواخر التسعينات كان الباب العالي
يبعث إلى بغداد بأوامر متواصلة للقضاء على الوهابيين، وعين على باشا قائداً للجيش.
وقد اختلف المؤرخون في تحديد وقت الحملة العراقية على الأحساء. وبغية إيضاح
التواريخ الفعلية يجدر بنا أن ننطلق من إفادة شاهد العيان بريجيز الذي وصل إلى
بغداد بصفة مندوب سياسي بريطاني في لحظة قيام جيش علي بالحملة. تحركت قوات الجيش
من بغداد نحو الفرات الأوسط بأحمال ثقيلة وأخذت تستوعب في الطريق المتطوعين من
البدو. لذا لم يكن بوسعها أن تظهر في الأحساء قبل أواخر عام 1789 وأوائل عام 1799،
وهذا يتفق مع ما أورده أبن بشر وأبن سند ومنجين.
كان الجيش الذي بعثه والي بغداد يضم
المشاة والخيالة وكذلك فصائل البدو غير النظامية من قبائل شمر والمنتفق والظفير.
وتجاوز عدد أفراد تلك القوات عشرة آلاف شخص. وسلم سكان الهفوف والواحات الأخرى
وصاروا تحت رحمة علي. وقاتل الوهابيون المتمركزون في الحصون فصدوا ببسالة كل
الهجمات. ولم تفد المهاجمين في بعض المواقع لا المدافع ولا آلات الحصار ولا الحفر
تحت الأسوار. وانهارت معنونات القوات الهاجمة وبدأت تنسحب والوهابيون يلاحقونها.
وجرت مكاتبات بين علي وسعود وتم بينهما الاتفاق على الصلح(64). وكان السبب في
إخفاق علي ضعف المعنويات عموماً وصعوبات اجتياز الأماكن الخالية من مياه الشرب
والتي يسيطر عليها الوهابيون. ثم أن حماس الهجوم عند الوهابيين لم يستنفذ بعد، وقد
حول التعصب الديني والانضباط النجديين إلى مقاتلين صامدين.
وفي عام 1799 وصل إلى بغداد ممثل
أمير الدرعية لأجل مصادقة الوالي على الاتفاق بين سعود وعلي. وترك لنا ح. بريجيز
الذي حضر لقاء رسول الدرعية مع والي بغداد وصفاً طريفا لهذا اللقاء. فقد جرى في
قصر الوالي الأعداد اللازم لترك انطباع لدى سكان البادية. فاستقبلت رسول الدرعية
بطانة سليمان باشا مرتدين أفخر الألبسة وقد ارتسمت إمارات الغضب على وجوههم. وكان
الرسول الوهابي في لباس متواضع، وقد أبعد مستقبليه وتوجه رأساً نحو سليمان باشا
الذي كان يرتدي لباساً من حرير وفرو مزيناً بأحجار كريمة. وجلس الرسول جنب الباشا
وقال له ما فحواه: يا سليمان السلام على من أتبع الهدى. بعثني عبد العزيز لأسلمك
هذه الرسالة واستلم منك تصديقاً على الاتفاقية الموقعة بين أبنه سعود وخادمك علي،
فليتم ذلك بسرعة وبالشكل الصحيح. ولعنة الله على من يخون. ثم أضاف بلهجة شديدة:
إذا كنت تنشد النصح فاستنصح عبد العزيز. قال ذلك ملمحاً إلى أن الوهابيين يعتبرون
سليمان من المشركين. ومد يده إلى الوالي
بالاتفاقية المكتوبة على قصاصة من ورق(65).
كان واضحاً أن حكام الدرعية لا
يقيمون ثمناً للاتفاقية مع والي بغداد. وتوجه مبعوث خاص من سليمان باشا إلى
الدرعية لأجل التفاوض مع سعود. وحاول أن يحصل على التزامات من الوهابيين بعدم
مهاجمة العتبات الإسلامية في الفرات الأوسط، ولكن سعود قهقه وقال لرسول الوالي:
"جميع غربي الفرات لنا وشرقيه له…"(66).
ومما شجع الوهابيين الأنباء التي
وردت عن دخول جيش نابليون إلى مصر في عام
1798 وعجز الباب العالي أمام الغازي الفرنسي.
في عام 1801 حل الإنجليز محل
الفرنسيين في مصر. وغدت الجزيرة العربية طرفاً بعيداً عن مسرح العمليات الحربية
الرئيسي. وهذا ما أطلق أيدي الوهابيين في مواصلة توسعهم.
تدمير
كربلاء. اختمرت
لدى أمراء الدرعية خطة الاستيلاء على كربلاء وفيها العتبات المقدسة الشيعية التي
يكرهونها، وخصوصاً ضريح الإمام الحسين حفيد النبي محمد. وحقق الوهابيون نواياهم في
آذار _ نيسان (مارس _ إبريل) 1802(67).
اعتاد
المستشرقون الأوروبيون والسوفييت على اعتبار نيسان 1801 تاريخا لتدمير كربلاء.
وإذا تناولنا مصادر هذه المعلومات نجد أن هذا التاريخ قد ذكره ج. روسو(68)ول.
كورانسيز(69) وبوركهاردت(70) وف. منجين(71).
أما
المراجع التاريخية العربية، ومعها من الأوروبيين فيلبي(72)، فتنقل هذا الحادث إلى
العام التالي: آذار _ نيسان 1802. والأساس المعتمد في ذلك هو مصنف أبن بشر. ويؤيد
هذا التاريخ أبن سند(73) وج. رايمون(74) و "مجلة المنوعات الأدبية"(75).
وجميع هذه المصادر قريبة زمنياً من الأحداث.
والقول
الفصل بهذا الخصوص، وهو لصالح عام 1802، وأراد في تقرير وصل من العراق إلى سفارة
روسيا في الأستانة وكتب قبل صيف عام 1803. فالشخص الذي عاش آنذاك في العراق وتحدث
شخصياً مع شهود عنان عن تدمير كربلاء من المستبعد أن يخطئ لعام كامل بخصوص تاريخ
هذا الحادث الهام(76). وبالمناسبة فأن مقارنة ذلك بنص التقرير الوارد من العراق عن
تدمير كربلاء على يد الوهابيين والذي تصمنه كتاب ج. ورسو بعد ست سنوات تدل على
تماثلهما الحرفي تقريباً. ومن الصعب القول كيف وصل تقرير القنصل الفرنسي في العراق
إلى سفارة روسيا في الأستانة. أما تغير تاريخ احتلال الوهابيين لكربلاء في كتاب
روسو فلعله ناتج عن تهاون المؤلف أو سهو المطبعة.
ويبدو
أن روسو وكورانسيز هم المصدر الأول للمعلومات غير الصحيحة بهذا الخصوص. فهما على
العموم يتناولان التواريخ بشيء من التصرف. أما بوركهاردت ومنجين المطلعان على
مؤلفاتهما فقد أوردا هذا التاريخ دون تمحيص. وقد كتب المستشرق الفرنسي أ. دريو في
مقدمته لتقرير رايمون المطبوع أن كورانسيز في مقالاته المبكرة اعتبر عام 1802
أيضاً هو تاريخ تدمير كربلاء(77).
ويقول
كاتب التقرير: "رأينا مؤخراً في المصير الرهيب الذي كان من نصيب ضريح الإمام
الحسين مثالاً مرعباً على قساوة تعصب الوهابيين. فمن المعروف أن هذه المدينة قد
تجمعت فيها ثروات لا تعد ولا تحصى وربما لا يوجد لها مثيل في كنوز الشاه الفارسي.
لأنه كانت تتوارد على ضريح الحسين طوال عدة قرون هدايا من الفضة والذهب والأحجار
الكريمة وعدد كبير من التحف النادرة… وحتى تيمور لنك صفح عن هذه الحضرة، وكان
الجميع يعرفون أن نادر شاه قد نقل إلى ضريح الإمام الحسين وضريح الإمام علي قسماً
كبيراً من الغنائم الوافرة التي جلبها من حملته على الهند وقدم معه ثرواته الشخصية
وها هي الثروات الهائلة التي تجمعت في الضريح الأول تثير شهية الوهابيين وجشعهم
منذ أمد طويل. فقد كانوا دوماً يحلمون بنهب هذه المدينة وكانوا واثقين من نجاحهم
لدرجة أن دائنيهم حددوا موعد تسديد الديون في ذلك اليوم السعيد الذي تتحقق فيه
أحلامهم.
وأخيراً،
ها قد حل اليوم، وهو 20 نيسان (إبريل) 1802. فقد هجم 12 ألف وهابي فجأة على ضريح
الإمام الحسين. وبعد أن استولوا على الغنائم الهائلة التي لم تحمل لهم مثلها أكبر
الانتصارات، تركوا كل ما تبقى للنار والسيف… وهلك العجزة والأطفال والنساء جميعاً
بسيوف هؤلاء البرابرة. وكانت قساوتهم لا تشبع ولا ترتوي فلم يتوقفوا عن القتل حتى
سالت الدماء أنهاراً… وبنتيجة هده الكارثة الدموية هلك أكثر من أربعة آلاف شخص…
ونقل الوهابيون ما نهبوه على أكثر من
أربعة آلاف جمل(78).
وبعد
النهب والقتل دمروا ضريح الإمام وحولوه إلى كومة من الأقذار والدماء وحطموا
المنائر والقباب خصوصاً لأنهم يعتقدون بأن الطابق الذي بنيت منه مصبوب من
الذهب"(79).
وبهذه
الصبغة نفسها تقريباً، يصف منجين تدمير كربلاء ولكنه يقول أن الوهابيين أقدموا على
مجزرة في المدينة، غير أنهم رأفوا بالنساء والأطفال والشيوخ والعجزة. ودمروا قبة
ضريح الحسين. وحصل الوهابيون على أغنى الغنائم، ومنها مرصعة بالأحجار الكريمة،
ولؤلؤة هائلة بحجم بيضة الحمام وقد استأثر سعود شخصياً بالسيوف واللؤلؤة. واستولوا
كذلك على مزهريات وفوانيس من المعادن النفسية وحلى ذهبية ملبسة على الجدران
وسجاجيد فارسية ونحاس ملبّس بالذهب من السطوح. ووقعت في أيدي الوهابيين كذلك
احتياطيات فوطات كشمير والأقمشة الهندية وألفان من السيوف العادية وألفان وخمسمائة
بندقية وعبيد سود ومبالغ طائلة من النقود المعدنية. واستمر النهب ثماني ساعات.
وعند الظهر غادر الوهابيون كربلاء(80).
وكتب
المؤرخ الوهابي أبن بشر عن هذا الحادث يقول: "سار سعود بالجيوش المنصورة
والخيل العتاق المشهورة من جميع حاضر نجد وباديها والجنوب والحجاز وتهامة وغير ذلك
وقصد أرض كربلاء… فحشد عليها المسلمون وتسوروا جدرانها ودخلوا عنوة وقتلوا غالب
أهلها في الأسواق والبيوت. وهدموا القبة الموضوعة (بزعم من أعتقد فيها) على قبر
الحسين. وأخذوا ما في القبة وما حولها كما أخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر
وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت والجواهر، وأخذوا أيضاً جميع ما وجدوا في البلد من
أنواع الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك
مما يعجز عنه الحصر ولم يلبثوا فيها إلا ضحوة وخرجوا منها قرب الظهر بجميع تلك
الأموال وقتل من أهلها قريب ألفي رجل"(81).
ولم
يواجه الوهابيون أي مقاومة تقريباً. ويعزى ذلك إلى أن قسماً من السكان توجهوا
للزيارة إلى النجف. ومن المحتمل أيضاً أن حاكم كربلاء، وهو سني متعصب، لم يتخذ
الإجراءات اللازمة للدفاع عن هذه المدينة(82).
كان
تدمير كربلاء أفدح هزيمة لسليمان باشا العجوز. وكان السلطان يتحين الفرصة من زمان
لتنحية هذا الوالي المستقل الذي كان له داخل العراق أيضاً، خصوم يتحلون بقدر كاف
من الفتوة والنشاط. ومما زاد في تدهور وضع الوالي أن الشاه الفارسي فتح علي كان
يلومه دوماً متهماً إياه بالعجز عن تأمين حراسة العتبات الشيعية، ويهدده بإرسال قوات
فارسية إلى كربلاء(83). وبالفعل، فبعد بضع سنوات من تدمير كربلاء بدأت فارس تحارب
ولاية بغداد. إلا أن المسؤولين في بغداد كانوا يعتقدون بعدم إمكان إلحاق الهزيمة
بالوهابيين في أعماق الجزيرة العربية. لذا وجهوا جل اهتمامهم لتعزيز المدن وترميم
كربلاء وضريح الحسين.
استيلاء
الوهابيين على مكة مؤقتاً ورد فعل الباب العالي. بعد تدمير كربلاء غدا الحجاز مسرحاً رئيسياً
للعمليات الحربية. وحتى ذلك الحين أدى سعود فريضة الحج مع قواته وعائلته مرتين
ليستعرض قوته العسكرية ويتأكد من الموقف في الحجاز محلياً. وانضمت قبائل عسير إلى
الوهابيين(84).
كانت
أحوال غالب في تلك الأثناء معقدة. وأثار ابتزازه وإدارته المتعسفة استياء في مكة
والمدن الأخرى. وكانت الرسوم المتزايدة دوماً في جدة قد حرمته من تعاطف التجار.
ورجحت كفة النجديين، وصار الأشراف يطلبون السلاح من الأستانة. إلا أن الباب العالي
كانت لديه آنذاك هموم أكثر خطورة من تهديد الوهابيين لمكة. وفي أواخر عام 1798 وصل
إلى مكة فرمان من السلطان تضمَّن طلباً بتعزيز تحصينات المدن في الحجاز خوفاً من
احتمال هجوم القوات الفرنسية. وجرى ترميم أسوار جدة وأخذ السكان يمارسون
الاستعدادات الحربية(85).
في
عام 1798، قصفت العمارة البريطانية بقيادة الأميرال بلانكيت مدينة السويس المحتلة
من قبل الفرنسيين. وفي طريق العودة ألقت العمارة مراسيها في جدة. وطالب الإنجليز
بوقف تجارة الحجاز مع مصر، فوافق الشريف على هذا الطلب شفوياً، ولكن التجارة
استمرت، بل أن غالب أقام اتصالات مع الفرنسيين، ولكن لم يحل دون إرسال فصيلة من
متطوعي الجزيرة الذين حاربوا ضد الفرنسيين في صعيد مصر(86). وعلى الرغم من الجهود
التي بذلها غالب لزيادة حرسه وفصائل المرتزقة فإن قواته العسكرية تقلصت بسبب
انفصال بعض قبائل بدو الحجاز(87). إلا أن أكبر خسارة مؤلمة بالنسبة له كانت انتقال
قريبه ومساعده المقرب عثمان الضايفي إلى صف الوهابيين، وقد بدأ هذا الأخير بجمع
البدو الذين كانوا في السابق من أنصار غالب(88).
بدأ
المضايفي بهجوم نشيط على الحجاز. وفي عام 1802، استولى بدون قتال تقريباً على
مدينة وواحة الطائف ونهبهما بلا رحمة. وقتل الوهابيون حوالي 200 من السكان ودمروا
عدداً من المنازل. وكان البدو يداهمون المدينة يومياً وينهبون كل ثمين، كما أتلفوا
آلاف الكتب(89).
وكان
تدمير كربلاء ما يزال عالقاً بالذاكرة في الأستانة، فصار المسؤولون هناك يخشون
كثيراً على مصير مكة وحاولوا اتخاذ بعض الإجراءات لمقاومة الوهابيين. وفي أواخر
آذار (مارس) 1803 كتب أ.ايتالينسكي، سفير روسيا في الأستانة، إلى بطرس بورغ يقول:
"في ظروف الوضع الراهن يعتقد الباب العالي أن الخطر عليه نابع فقط من نوايا
فرنسا ومن حركات التمرد لعدة قبائل عربية تسمى الوهابية وعدد العسكريين لديها زهاء 60 ألف شخص. وهم يتوقون إلى الاستيلاء على
ثروات الحرمين في مكة والمدينة وينوون معارضة المحمدية بمذهب التوحيد، وبغية جعلهم
يحترمون القرآن أرسل إليهم من هنا عالم فقيه متبحر في هذا الكتاب، بينما تتخذ
إجراءات أخرى، فقد عينت قوات يراد لها أن تهاجمهم من جهة الخط البادئ من البصرة
إلى العريش في حين سيهاجمهم الشريف من جهة الحجاز"(90).
إلى
أن محاولات الحيلولة دون سقوط مكة قد أخفقت.
ففي
أواخر آذار (مارس) 1803، توجه سعود مع قوات الوهابيين الرئيسية إلى الحجاز. وفي
تلك الأثناء كان في مكة حجاج مسلحون من الشام ومصر والمغرب ومسقط وبلدان أخرى.
ولكنهم رفضوا المشاركة في العمليات الحربية ضد الوهابيين. أما الشريف الذي ظل مع
قلة قليلة من المحاربين المخلصين له فقد فر إلى جدة وأخذ يعزز تحصيناتها على عجل.
وتعث سعود إلى أهالي مكة رسالة عرض فيها آراء الوهابيين ووعد بالرأفة بمن ينصاع
لهم.
وفي
نيسان (إبريل) 1803، دخل الوهابيون بانتظام إلى مكة(91). وبعد أداء مراسيم الحج
أخذوا يدورون كل الأضرحة والمزارات ذات القباب والتي أنشئت تكريماً لِأبطال فجر
الإسلام. ومسحو عن وجه الأرض كل المباني التي لا تناسب معتقداتهم. وألزموا أهالي
مكة بأداء الصلاة من دون ألبسة حريرية، كما ألزموهم بعدم التدخين بحضور الآخرين.
وأحرقت أكوام الغلايين في الساحات، وحرم بيع التبغ. وألغيت الصلاة في المساجد
تكريماً للسلطان العثماني. وعين الوهابيون عبد المعين، شقيق غالب، حاكماً لمكة.
وبدلاً من القاضي التركي عين فقيه من الدرعية قاضياً لمكة. وخلافاً لسابقه التركي
ترك هذا القاضي انطباعاً وكأنه يحكم بالعدل(92).
أثار
نبأ احتلال مكة الذعر والهلع والاكتئاب في الأستانة. وسدد فقدان مكة أقسى ضربة إلى
سمعة الخليفة العثماني ومكانته بوصفه حامي الحرمين والمدن المقدسة. فقد كان
السلطان _ الخليفة يسمي نفسه رسمياً على النحو التالي: "نحن خادم وحامي
الحرمين في مكة والمدينة أنبل المدن وأقدس العتبات واللذين تتيمم جميع الأمم
شطرهما أثناء الصلاة، وكذلك مدينة القدس الطاهرة. أنا الخليفة الأعلى والملك
السعيد لممالك وأقاليم ومدن لا تعد ولا تحصى تثير حسد ملوك العالم وتقع في آسيا
وأوروبا وعلى البحرين الأبيض والأسود وفي الحجاز والعراق…"(93) وغيرها وهكذا دواليك.
وجاء
في "مذكرة أنباء الأستانة وأخبارها" التي أعدتها سفارة روسيا ما يلي:
"أن الخلافات التي تنهش أحشاء الإمبراطورية التركية ونهب الوهابيين لمكة
والإتاوات المتزايدة بلا انقطاع كل ذلك أثار عند رعاع هذه العاصمة استياءً شاملاًً
من الحكومة"(94).
كان
ينبغي القيام بشيء إلى أن الأستانة عجزت عن إرسال قواتها لمحاربة الوهابيين، فطلبت
المساعدة من عكا وبغداد.
ويقول
ايتالينسكي: "القرار الذي اتخذه الديوان الوزاري الحاكم لاستخدام (والي عكا
أحمد) باشا الجزار ضد الوهابيين حظي بدعم هام… لسبب غير متوقع. فقد استلم الباب العالي رسائل مستعجلة من الجزار
تتضمن أنباء غزوات عبد الوهاب وتقول بعدم وجود عوائق تحول دون تقدمه اللاحق وتشير
إلى نيته في احتلال الشام… وأخيراً يعرب الجزار عن استعداده للنهوض في وجه هذا العدو الخطر
على الدين والعرش ويعد بالقضاء عليه وتشتيت قواته في غضون ستة أشهر وإعادة
الممتلكات التي نهبها إلى الباب العالي"(995).
وكتب
والي بغداد إلى الباب العالي يقول إيه متوجه في حملة للبحث عنهم في عقر دارهم وأنه
ينوي أبادتهم ولديه من أجل ذلك خيالة بخمسة آلاف فارس ومشاة بـ 10 آلاف رجل و 60
ألف جمل، ويأمل بأن تتم هذه الحملة في غضون ستة أشهر. وطلب من الباب العالي مدفعية
وباروداً وخياماً.
وعندما
استلم الباب العالي هذه المعلومات من حاكمي الشام والعراق "أخذ يعلل نفسه
بالآمال بالتخلص من الخوف نهائياً في القريب العاجل". إلا أن سفير روسيا يشك
في قدرة بغداد على تسديد الضربة ويلاحظ بحق "إن الجزار يفكر بالاستيلاء على
دمشق الشام أكثر مما يفكر بالحملة على الوهابيين"(96).
ومع
ذلك تمكن الباب العالي من إرسال فصيلة تركية غير كبيرة بقيادة شريف باشا إلى
الحجاز. ولم يتمكن أمير الدرعية هذه المرة من تثبيت أقدامه في الحجاز لأن عدد
قواته تقلص كثيراً بسبب الأمراض097). وكتب روستي يقول: "إن الأمراض التي تفشت
في جيش عبد الوهاب أرغمته على رفع الحصار عن جدة. والتقت قوات شريف باشا بقوات
شريف (مكة) فتمكنت من دخولها"(98).
وظلت،
لبعض الوقت، قلعة المدينة، التي رابط فيها فصيل من الوهابيين، تبدي مقاومة إلى أن
سقطت في تموز (يوليو) 1803.
وكتب
ايتالينسكي في 25 آب _ 3 أيلول (أغسطس _ سبتمبر) "إن الباب العالي استلم من
المدينة المنورة تقارير من شريف باشا والي جدة وصلت بعد 50 يوماً. وهي تؤكد
الأنباء التي وصلت سابقاً عن الانتصار الذي تم على الوهابيين قرب جدة والمدينة وعن
انسحابهم إلى عاصمتهم الدرعية"(99).
وكان مقتل أمير الدرعية عبد العزيز ضربة جديدة
للوهابيين. ففي خريف عام 1803، قتل في مسجد الطريف بالعاصمة على يد درويش غير
معروف يدعى عثمان، وهو كردي من إحدى قرى الموصل. كان هذا الدرويش قد حل ضيفاً على
البلاط. وعندما سجد عبد العزيز أثناء الصلاة في الصف الأمامي من المسلمين هجم هذا
الدرويش الذي كان في الصف الثالث على الأمير وقتله بطعنة خنجر، ثم جرح أخاه عبد
الله. وعم المسجد هرج ومرج وتمكن الجريح عبد الله من ضرب الدرويش بالسيف، وأجهز
عليه الآخرون في الحال(100).
وتفيد
بعض المعلومات أن قاتل عبد العزيز شيعي كان قد هلك كل أفراد عائلته أثناء غزو كربلاء(101). وكتب
منجين أن عمامته احتوت على مكتوب بالفارسية: "ربك ودينك يوجبان عليك قتل عبد
العزيز. إذا تمكنت من الفرار ستحظى بمكافأة سخية وإذا مت فأبواب الجنة مفتوحة
أمامك"(102). إن هذا يشبه لدرجة كبيرة تكتيك الإسماعيلية في القرون الوسطى
والروايات المرتبطة بنشاطهم. وكان أبن بشر يشك في أن مقتل الإمام عبد العزيز كان
ثأراً لكربلاء، وذلك لأن القاتل كردي والأكراد سنة كما هو معروف(103). يؤكد مؤلف
"لمع الشهاب" إن والي بغداد بعث عميلاً إلى الدرعية ودفع بسخاء لعائلته
فيما بعد(104). ومع ذلك يضل جواب السؤال عن هوية قاتل عبد العزيز ودوافع سلوكه في
طي الافتراضات. فقد كان لدى الوهابيين عدد كبير من الأعداء الحاقدين عليهم.
أسرع
سعود إلى الدرعية بعد مقتل أبيه، فبايعه سكانها في الحال، واعترفت كل المناطق
بالأمير الجديد. وبعث سعود إلى حكام المناطق رسائل عاهدهم فيها على أن يلتزم
بالعدل، ولكنه سينتقم بلا رحمة من العصاة والمتآمرين.
السيطرة
على الحجاز. في العام التالي، أخذ الوهابيين من جديد يضيقون على خصومهم في الحجاز
واستمرت طوال العام المعارك التي شارك فيها الأتراك إلى جانب قوات الشريف.
وفي عام 1805، هاجمت قوات غالب، وعددها 10 آلاف شخص، اتحاد القبائل
الموالية للوهابيين وعلى رأسها الأمير عبد الوهاب أبو نقطة وهو من شيوخ عسير،
ومُني الشريف غالب بهزيمة فقد فيها بضع مئات من القتلى، وأغلبهم من الأتراك(105).
ويبدو أن حلفاء غالب البدو قد تركوه، بينما دحرت نهائياً الفصيلة التركية في
قواته. وعلى أثر ذلك، طوق الوهابيون مكة وأعاقوا الحج(106) وتأجج العداء من جديد بين الأتراك والشريف غالب آنذاك، فرفض
الأتراك مساعدته.
وفي شتاء 1805_ 1806، عزم سعود على تسديد ضربة قاضية إلى غالب. وحاصر
مكة بدو بزعامة عبد الوهاب أبي نقطة وعثمان المضايفي وسالم بن شكبان (أمير بيشة).
وفي تلك الفترة (من 1804 حتى 1809) كانت الجزيرة العربية تعاني من قحط شديد. وبفضل
طرق القوافل الآمنة كانت الأغذية تصل إلى نجد بانتظام، الأمر الذي خفف من أعباء
أهاليه. إلا أن الوضع لم يعد يطاق في مكة المحاصرة. وصار الناس يأكلون الكلاب
والجلود. ولم تنجح محاولة الانتقام من أنصار الصلح فطلب غالب ذلك الصلح. ودخلت
القوات الوهابية مكة(107).
وسرعان ما اقتنع غالب بعدم جدوى مقاومته للوهابيين، فأعلن الخضوع لهم
في عام 1806. وفي العام نفسه وصلت إلى مكة
جماعة من العلماء الوهابيين وعلى رأسهم الفقيه حميد بن ناصر للتبشير بأفكار تجديد
الإسلام(108). وكان نجاح الوهابيين في بسط سلطتهم شمالي مكة من الأسباب التي دفعت
غالب للكف عن المقاومة.
فمنذ عام 1803 تبنى عدد من مشايخ القبائل حرب المذهب الجديد ووصل دعاة
الوهابية إليهم. ولم تتكلل بالنجاح محاولة احتلال المدينة المنورة رأساً في عام
1803. إلا إنها استسلمت عام 1805(109).
وفي الوقت نفسه، احتل الوهابيون ينبع الواقعة تحت سيطرة شريف مكة.
وجرى ضم الحجاز إلى دولة السعوديين. صحيح أن تبعيته للوهابيين كانت أقل
من تبعية بعض مناطق نجد أو الأحساء، مثلاً. واحتفظ شريف مكة باستقلال كبير، فلم
يدفع الضرائب لا هو ولا رعيته. إلا أن عائداته من الرسوم الجمركية في جدة تقلصت
كثيراً، لِأنه لم يعد باستطاعته أن يجبي تلك الرسوم من التجار الوهابيين. وتقلصت
عائداته الأخرى أيضاً.
يقول بوركهاردت: "ظلت بيد الشريف سلطة كبيرة مع أن الحجاز قد
احتل. فأن أسمه ومنصبه الرفيع وتأثيره الشخصي على الكثير من القبائل البدوية التي
كانت ما تزال تقاوم سعود، وكذلك الهدايا الثمينة التي يقدمها لسعود عندما يزور هذا
الأخير مكة، كل ذلك جعل زعيم الوهابيين يتساهل بخصوص بعض تصرفات غالب" (110).
كانت سلطة سعود في مكة متوازية مع نفوذ غالب، أما جدة فقد ظلت بالأساس تحت سيطرة
غالب. ولتحقيق المزيد من التوازن عين المضايفي حاكماً للطائف وخضعت له بعض قبائل
الأطراف.
توقف
الحج من الإمبراطورية العثمانية. اعتباراً من عام 1807 أخذ سعود يؤدي فريضة الحج سنوياً على رأس
قواته. وكان عادة يعين موضعاً قرب المدينة المنورة لتجمع الوهابيين ثم يتحرك نحو
الجنوب. وفي الطريق تنضم إليه فصائل من عسير والطائف وبدو من مناطق الحدود بين
الحجاز ونجد وعسير ومحاربون من مختلف نجد وجبل شمر بزعامة أمرائهم. وكان سعود كل
مرة يوزع الصدقات في مكة ويتبادل الهدايا مع غالب ويحمل كسوة ثمينة للكعبة(111).
وقد شهد أبن بشر حج سعود ذات مرة وترك وصفا تفصيليا له(112).
لقد أجلى سعود من الحجاز القضاة والموظفين العثمانيين الذين كانوا في
مكة والمدينة. وكان يعزز دوماً تحصينات المدينة المنورة ويحتفظ بحامية قوية فيها
يستبدلها كل عام.
واعتباراً من عام 1803، أخذ الوهابيون يعيقون بمختلف الوسائل قوافل
الحجاج من أرجاء الإمبراطورية العثمانية، ومنها الشام ومصر. كانت قوافل الحجاج
التي تتوارد على الحجاز سنوياً تحضر معها المحمل وهو عبارة عن هودج مزين بفخامة
على ظهر جمل يحظى بالتقدير. وفي المحمل كسوة الكعبة أو نسخ من القرآن أو نفائس
الأحجار الكريمة. ويسير مع الحجاج موسيقيون يعزفون على الطنبور والطبول وغيرها.
وكان بعض الحجاج يحضرون معهم مشروبات وترافقهم
محظيات. ولا بد أن يثير ذلك تذمر الوهابيين لأنه يتعارض مع أصول الدين
ومبادئهم الأخلاقية.
وطالب الوهابيون بأن تصل قوافل الحجاج إلى الحجاز بدون محمل وبدون آلات
موسيقية. وأخذوا في الوقت نفسه يزيدون ضريبة الحج. وفي عام 1803 دفع كل حاج شامي
إلى دفع 10 بيزات عن الشخص الواحد و10 بيزات عن كل من دواب الركوب و7 بيزات عن كل
قنطار من الأحمال و100 كيسة عن مرور القافلة كلها(113). وفي عام 1805، أخذوا من
القافلة الشامية 200 كيسة ولكنهم سمحوا بالدخول لحجاج منفردين(114). ويقول
كورانسيز أن الأتراك حاولوا في عام 1806 شراء حق أداء فريضة الحج بمبلغ هائل هو
ألفا كيسة (مليون بيزة) ولكن قافلة الشام لم تتمكن من دخول مكة مع ذلك(115).
وبغية تأمين السماح بالحج تظاهر والي دمشق يوسف باشا بأنه يلتزم بكل
فرائض الوهابية. فقد منع الخمر وأمر بغلق جميع الأسواق في دمشق أثناء الصلاة وفرض
تقيِّدات مشينة على أهل الكتاب (زياً خاصاً وهلم جرا)، ومنع حلق اللحية أيضا، وكتب
بازيلي "أن الوهابيين طالبوا، وليس دون سبب، بعدم احتواء القافلة على غلمان
أو حليقي اللحى عموماً"(116). وفي عام 1807 _ 1808، حاولت قافلة الشام أن
تدخل مكة بدون محمل ولا سلاح ولا موسيقى ولكن دون جدوى(117). وتوقف في الواقع
توارد وجبات كبيرة من الحجاج من الباب العالي.
بريطانيا
والصراع من أجل عمان. لم يقتصر تقدم الوهابيين على العمليات الحربية في الحجاز وشمال
شرقي الجزيرة العربية في بداية العقد الأول من القرن التاسع عشر. فقد تمكنوا من
فرض سيطرتهم تدريجياً على كل الساحل العربي للخليج بما فيه البحرين وتغلغوا في
أعماق عمان أكثر فأكثر.
كان سكان عمان مكونين من مجموعتين من القبائل: الإباضية الهناوية وسنة
الغفري. وكان الصراع بين هاتين المجموعتين قد حدد تاريخ عمان طوال القرون. وهو
الذي سهل تغلغل الوهابيين إلى هذه البقاع. ونشير، دون أن ندخل في التفاصيل، إلى أن
سلطان، أحد أبناء أحمد بن سعيد، زعيم وإمام الإباضية الذي طرد الفرس من عمان في
عام 1744، صار حاكماً لمسقط في عام 1792. ولكن سلطان لم يعتبر زعيماُ روحياُ
(إماماً)، ما أدى ذلك إلى أضعاف سلطته.وعلى
الساحل العماني من الخليج، وهو ساحل تخترقه الروافد والخلجان والمرافئ
الملائمة، كانت تعيش قبائل أخرى تمارس التجارة البحرية والقرصنة وصيد اللؤلؤ
والأسماك. كانوا من أهل السنة وكانوا منعزلين عن الهناوية وعن الغفري(118). وفي
عام 1801 شن سلطان بن أحمد حملة على البحرين. وطلب سكان البحرين النجدة من
الدرعية. وطرد الوهابيون المسقطيين وألحقوا بهم خسائر فادحة، ولكنهم جعلوا البحرين
تابعة لدولة السعوديين(119).
وقبل ذلك بقليل بعث عبد العزيز إلى عمان نسخة من مؤلف لمحمد بن عبد
الوهاب، وطالب بتبني المذهب الوهابي والخضوع لسلطة الدرعية. وفهم العمانيون،
وأغلبهم من الإباضية، مضمون الكتاب بشكل فريد. فقد كتب المؤرخ العماني أبن رزيق ما
معناه أن هذا الكتاب يحلل قتل جميع المسلمين غير المتفقين مع محمد بن عبد الوهاب
والاستيلاء على أملاكهم واستعباد أبنائهم واستحلال نسائهم دون موافقة
أزواجهن(120). ورفض الإباضية مطالب الوهابيين(121)، إلا أن الغفري تحالفوا مع إمام
الدرعية.
وورد في "لمع الشهاب" إن الوهابيين في العقد الأخير من القرن
الثامن عشر بدأوا بالحملات على عمان بقيادة مطلق المطيري وإبراهيم بي عفيصان
وحولوا مجموعة واحات البريمي إلى قاعدة لهم(122). وقد كانت البريمي ملتقى لطرق
القوافل المؤدية إلى شواطئ الخليج العربي وخليج عمان والجبل الأخضر.
وفي عام 188 _ 1801 قام جيش الوهابيين بحملة موفقة على عمان قادها سلام
الحرق أحد مملوكي عبد العزيز. وأقسم صقر حاكم مدينة رأس الخيمة، التي هي مرفأ هام
من الناحية الإستراتيجية ومركز لقبيلة القواسم، يمين الولاء للوهابيين(123). ووقعت
تحت سيطرتهم المشيخات والإمارات الصغيرة الأخرى على شاطئ الخليج العربي.
وغدا حاكم مسقط سلطان في تبعية للدرعية. حاول أن ينظم المقاومة ضد
الوهابيين فصمم على تقوية الاتصالات مع والي بغداد الذي كان مبعوثوه يحرضونه من
زمتن على محاربة العدو المشترك. وفي أواخر عام 1804 توجه شخصياً مع أسطول إلى
البصرة. وفي طريق العودة إلى مسقط نشبت معركة مع أسطول رأس الخيمة قتل فيها
سلطان(124).
وعاد إلى مسقط قريبه بدر الذي كان منفياً إلى الدرعية مؤملاً بأن يركز
أقدامه بمساعدة حماته الوهابيين. وبقي على دست الحكم عدة سنوات وحاول غرس المذهب
الوهابي ولكن دون نجاح كبير(125). لكن أبناء سلطان بن أحمد ثاروا في عام 1807
وأزاحوا بدر، وفي البداية التزم حاكم مسقط الجديد سالم ومن بعده أخوه سعيد بالخضوع
للسعوديين، ولكنهما رفضا فيما بعد دفع الإتاوات وآخذو يستعدان للعمليات
الحربية(126). وطلب سعيد النجدة من الشاه الفارسي فأرسل أليه هذا بضعة آلاف من
الجنود(127). وفي 1808_ 1809 بدأ المسقطيون مع حلفائهم صحار العمليات الحربية ضد
رأس الخيمة ولكنهم أعلنوا عن خضوعهم للسعوديين بعد أن فقدوا عدة آلاف من
الأشخاص(128).
وغدا سكان الساحل العماني للخليج العربي، وخصوصاً قبيلة القواسم الذين
توحدوا تحت سلطة السعوديين وكفوا عن الحزازت الداخلية، قوة كبيرة راح أسطولها
المكون من بضع مئات من السفن الكبيرة والصغيرة يجوب الخليج سيداً فيه. وفرضوا
الرسوم والضرائب ونهبوا السفن التجارية العائدة لشركة الهند الشرقية والتي تمخر
البحر بين بومباي والبصرة(129).
ونعيد إلى الأذهان أن المؤرخين الغربيين يركزون على "الطابع
القرصني" المزعوم لسكان ساحل الخليج العربي. إلا أن الحقيقة هي أنهم كانوا
يعيشون بالدرجة الأولى على الملاحة البحرية التجارية (دون أن يستنكفوا عن القرصنة
إذا سنحت الفرصة) وكانوا يعتبرون السفن البريطانية منافسة فتاكة لهم. وينبغي على
الأغلب اعتبار "قرصنتهم" ضد السفن البريطانية حرباً ضد القادمين غير
المرغوب فيهم.
وقد اصطدم توسع أمارة الدرعية في عمان وساحل الخليج العربي مع المصالح
البريطانية الاستعمارية.
في أواخر القرن الثامن عشر، ترسخت سيطرة بريطانيا نهائياً على الهند،
حيث تمكنت بعد صراع دام قرنين تقريباً من التفوق على سائر منافسيها الأوروبيين.
وكان الإنجليز قد سعوا إلى الإبقاء على الخليج العربي مفتوحاً أمام تجارتهم
وخالياً من نفوذ أي دولة يمكن أن تهدد الهند. وظلت فرنسا أخطر دولة عليهم في النصف
الثاني من القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، لذا اعتبر الإنجليز
المتمركزون في الهند حملة نابليون على مصر عام 1798 مظهر للخطر القديم. ولم يغير
انهزام الفرنسيين في مصر فيما بعد خططهم (المشكوك في إمكان تحقيقها) الرامية إلى
التقدم نحو الهند عن طريق الشام والعراق والخليج العربي مثلاً.
وعلى تخوم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر صار الوكلاء التجاريون
البريطانيون في البلدان المرتبطة بالخليج العربي يتحولون الواحد تلو الآخر إلى
ممثلين سياسيين. وفي عام 1798، وقعت بريطانيا معاهدة مع حاكم مسقط موجهة ضد
الفرنسيين، ولكنها أرسلت بداية تبعية مسقط لبريطانيا. وبعد عامين وصل ممثل
بريطانيا إلى المدينة.
وحاولت بريطانيا أن تقيم علاقات ودية مع حكومة السعوديين التي كانت
تتقوى آنذاك. فكانت وكالة شركة الهند الشرقية، التي كانت موجودة بالبصرة في أواخر
القرن الثامن عشر، تبعث الهدايا دوماً إلى سعود(130). وكانت للإنجليز مصلحة في دعم
تجارتهم المنتعشة بين بومباي والبصرة، وكذلك في سلامة الطريق البريدي من الهند إلى
الشام عبر البصرة. وحاولوا إقناع الوهابيين بعدم المساس بسعاة البريد من البصرة
إلى حلب(131).
بيد أن الإنجليز لم يكونوا يتورعون كذلك عن استخدام القوات العسكرية.
فأن الفصيل الوهابي الذي اقترب في عام 1798 _ 1799 من الوكالة البريطانية
المتواجدة آنذاك في أراضي الكويت الحالية قد تراجع أمام مدافع سفينة حربية
بريطانية(132). وبغية تسوية النزاع على نحو ما، وصل إلى الدرعية رينو، ممثل شركة
الهند الشرقية(133). وكان يريد الحصول من الوهابيين على ضمانات للمصالح البريطانية
في الخليج العربي، ولكنه لم يبلغ مقصده. وحاول الإنجليز في عام 1805 أن يفرضوا
الحماية على الكويت إلا أن أميرها عبد الله الصباح فضل أن يبقى مستقلاً(134).
وفي العقد الأول من القرن التاسع عشر، شنت السفن الحربية البريطانية
عمليات حربية مباشرة ضد أسطول عرب عمان، وفي عام 1805، شنت أول حملة على
القواسم(135). وغدا المسقطيون حلفاء طبيعيين للإنجليز.
وفي عام 1809، زحف سعيد بن سلطان بقواته وأسطوله الذي قاده ضابط
إنجليزي على رأس الخيمة وتوجهت أليها عمارة حربية بريطانية. وقام الإنجليز بإنزال
قواتهم بعد أن دحروا أسطول العمانيين الضعيف التسليح. وأزالوا المدينة عن سطح
الأرض ودمروا كل المستودعات وأحواض بناء السفن وقتلوا السكان المحليين(136). وكانت
هزيمة حلفاء السعوديين وأتباعهم ضربة شديدة للدرعية.
وأخذ حاكما البحرين والزبارة من آل خليفة يبديان تذمرهما من سلطة
الوهابيين فاقتيدا إلى الدرعية رهينتين. وهرب أبناؤهما إلى مسقط وطلبوا النجدة من
الإنجليز. ودمرت السفن الحربية البريطانية حامية الوهابيين في الزبارة ثم في
المنامة. واخفقت محاولات الدرعية لاستعادة سلطتها في البحرين مع أن البحرانيين
ظلوا يدفعون جزية ما إلى السعوديين(137).
وبعد جلاء الإنجليز من رأس الخيمة عمرها سكانها من جديد. وعلى الرغم من
تدمير رأس الخيمة مجدداً في عام 1816،فقد تمكن القواسم في العام التالي من جمع
قوات بحرية كبيرة نسبياً وظهروا على بعد 70 ميلاً عن بومباي(138). ولكن تلك
الأحداث جرت فيما بعد.
في مطلع القرن التاسع عشر، سعى الإنجليز إلى فرض سيطرتهم على البحر في
هذه المنطقة. ولم تكن سياستهم آنذاك تنص على تدخل نشيط في الأحداث بالجزيرة
العربية. فلم تكن قوى الإنجليز كافية لهذا الغرض، ثم أن المكافأة البي يتوقعونها
في صحارى الجزيرة ضئيلة للغاية. وكان خصومهم الفرنسيون قد أبعدوا عموماً عن مسرح
الجزيرة مع أن نابليون، كما يعتقد المؤرخ التركي المعروف أ.جودت، كان بوسعه أن
يقيم اتصالاً مع السعوديين(139). إلا أن فرنسا كانت مشغولة في مسارح العمليات
الحربية الأوروبية، ثم أن الفرنسيين فقدوا في عام 1810 جزيرة موريشيس القاعدة
الرئيسية لأسطولهم في المحيط الهندي.
وقد بلغ نفوذ الوهابيين في عمان أوجه في عهد القائد العسكري السعودي
مطلق المطيري في بداية العقد الثاني من القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من الدم
البريطاني، فقد اضطر حاكم مسقط سعيد بن سلطان إلى دفع أربعين ألف ريال لأمير
الدرعية(140). ويبدو أن الوهابيين توغلوا في تلك الفترة نفسها إلى الجنوب الغربي،
إلى ما وراء مسقط، واقتحموا حضرموت، حيث كان أوائل المبشرين الدرعيين قد وصلوا في
عام 1803 _ 1804. ولم تكن جهودهم الدعائية موفقة آنذاك، إلا أن حضرموت دفعت هذه
المرة الجزية أرى الدرعية(141). غير أن مطلق المطيري قتل في عام 1813 خلال مناوشة
بسيطة. وفي تلك الأثناء، بدأ الغزو المصري للجزيرة، فأخذ الوهابيون يسحبون قواتهم
من عمان. وكان بعد هذا البلد وعداء الإباضية للوهابية ومقتل القائد العسكري
الموهوب مطلق وغزو المصريين للحجاز والأجراءات المضادة التي اتخذتها بريطانيا _ كل
تلك العوامل أعاقت توسع أمارة الدرعية في جنوب شرقي الجزيرة.
الزحف
على عسير واليمن. على تخوم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، انضمت عسير إلى الوهابيين.
وعلى أثرها رضخت أمارة أبو عريش للدرعة(142). ويصعب القول أن سيطرة الوهابيين على
المناطق الواقعة جنوبي مكة كانت سيطرة كاملة. فهناك على الأصح حلفاء للسعوديين
بحقوق منقوصة، وليس رعية بالمعنى الكامل.
وفي الوقت تنالذي زحف فيه الوهابيون على اليمن، كان الوضع هناك،
ملائماً لتوسعهم. فالبلاد منقسمة على نفسها بسبب الخلافات الداخلية والفوضى
العشائرية والإقطاعية. وفقد أئمة الزيدية سلطتهم على المنطقة الساحلية إلى أن
التوسع في اليمن لم يحقق نصراً كاملاً. إن حملة قوات أمير الدرعية عام 1805 _ 1806
على نجران لم تتكلل بانتصار حاسم مع أن حاميات وهابية ظلت في قلاع تلك المنطقة.
ووقعت الحديدة في أيدي الوهابيين مرارا. وفي الواقع، ظلت المنطقة الجبلية في اليمن
مستقلة مع أن قوات السعوديين حاصرت صنعاء في عام 1808(143).
لقد مارس الوهابيون دعاية نشيطة في اليمن وكانوا يرسلون أليها كل عام
تقريباً جماعة من العلماء ولكن دون جدوى. وكان الشافعيون من سكان الساحل _ تهامة
اليمن _ يتعاطفون مع المذهب الوهابي بسبب عدائهم لِأمة صنعاء الزيديين. إلا أن
الشافعيين ما كانوا راغبين بالتفريط في استقلالهم الفعلي والخضوع للسعوديين.
وكان حمود أبو مسمار صاحب أبي عريش الذي شملت سلطته جزءً من تهامة
اليمن قد أنضم إلى الوهابيين، حتى أنه شارك، على ما يبدو، في العمليات الحربية ضد
إمام صنعاء(144). ولكن ما كان يقلقه هو ارتفاع نجم جاره ومنافسه حاكم عسير عبد
الوهاب "أبو نقطه تحت رعاية الوهابيين. ويقول أبن بشر أن سعود استدعى كلا
الرجلين المتنافسين إلى الدرعية وحاول إصلاح ما بينهما ولكن دون جدوى. وأحس سعود بأن
روح التمرد تتصاعد عند أبي مسمار فأمر بشن حملة على صنعاء إلا أن صاحب أبي عريش
رفض.
وبعد أن توافرت لدى سعود أدلة على عدم ولاء تابعه المشاكس هذا أخذ يجمع
المحاربين من أرجاء الجزيرة كافة للقضاء عليه. وبلع عدد القوات الوهابية حوالي 50
ألف شخص، مع أن هذا الرقم قد تكون فيه مبالغة. وكان يقاتل إلى جانب أبي مسمار بدو
من نجران واليمن. وفي أواخر عام 1809، نشبت معركة ضارية قتل فيها أبو نقطة. ولكن
قوات أبي مسمار منيت بالهزيمة، ففر من المعركة وراح يعزز مواقعه في عاصمته أبو
عريش التي لم يتمكن الوهابيون من احتلالها. وبأمر من سعود شغل منصب أبي نقطه قريبه
طامي بن شعيب(145).
غزو
العراق والشام. إذا تناولنا من جديد الوضع في الحدود الشمالية الشرقية للدولة
السعودية نرى للوهلة الأولى أن الأحداث تطورت بصورة ملائمة للوهابيين.
فما كان سليمان باشا يقضي نحبه في آب (أغسطس) 1802، حتى بدأ صراع مستميت
من أجل السلطة شارك فيه الإنجليز والفرنسيون بشكل محموم. وتمكن كيخياه على قريب
سليمان من القضاء على منافسيه فصار والياً
على بغداد. واحتفظ بالسلطة خمس سنوات تقريباً. كانت الولاية مضعضعة بسبب القلاقل
الداخلية والانتفاضات الشعبية وبسبب نضالات الأكراد المتواصلة. وفي آب 1807، ذبح
علي في أحد المساجد. وبعد قليل استولى على منصبه كوجوك سليمان الذي ظل والياً لمدة
ثلاث سنوات وانشغل بالحرب ضد الأكراد والوهابيين حتى قتل في تشرين الأول (أكتوبر)
1810. واستمرت الصدامات الحربية مع الفرس في النصف الثاني من العقد الأول من القرن
التاسع عشر.
وطوال السنوات التي أعقبت تدمير كربلاء، قام الوهابيون بغزوات عنيدة
على العراق. ولكن حملاتهم التي استمرت حتى عام 1810 كانت محصورة في نهب القرى غير
المحمية وفي نهب البدو. ورغم المشاكل الداخلية في العراق لم يتمكن الوهابيون من
تحقيق نجاحات تضاهي غزو كربلاء.
ولم تسفر عن انتصارات حاسمة كذلك غزوات الوهابيين على الشام مع أن
القبائل البدوية فيها أخذت تدفع الجزية لِأمير الدرعية في مطلع القرن التاسع
عشر(146). وفي عام 1808، بعث سعود رسالة إلى مشايخ دمشق وحلب ومدن الشام الأخرى
طالباً تبني المذهب الوهابي والخضوع لسلطة سعود ودفع الجزية. وساد الذعر والاضطراب
ودمرت فصائل الوهابيين القرى في أطراف حلب، وتغلغلت في فلسطين في الوقت نفسه. وقد
اتخذت إجراءات عاجلة لحماية المدن إلا أن الوهابيين لم يتجرأوا على اقتحامها(147).
وفي عام 1810، قام سعود مع بضعة آلاف من المقاتلين بغزوة جسورة على
الشام ونهب بضع عشرات من القرى ووصل إلى دمشق تقريباً(148). وكانت تلك آخر حملة له
في الاتجاه الشمالي.
لقد بلغت حملة الدرعية أقصى حدود توسعها. وانتشرت سلطة السعوديين في
شبه الجزيرة العربية كلها تقريباً، ودفع لهم الجزية حتى سلطان مسقط وإمام اليمن
وحكام حضرموت. وخضعت لأمير الدرعية القبائل القاطنة في البوادي والفيافي الممتدة
حتى أراضي الهلال الخصيب. ويقدر مؤلف "لمع الشهاب" عدد السكان الخاضعين
للسعوديين في نجد بـ 300 ألف وفي الحجاز وتهامة 400 ألف وفي اليمن 400 ألف أو أكثر
وفي شرقي اليمن 200 _ 300 ألف وفي شرقي الجزيرة 400 ألف وفي القبائل المترحلة، مثل
عنزة، في البوادي بين المدينة المنورة والشام حوالي 400 ألف، وفي عمان وسواحلها من
بدو وحضر 200 ألف(149). وهكذا ضمت أمارة الدرعية عموماً حوالي 2.4 مليون نسمة.
وهذا الرقم يبدو واقعياً، مع أن ما يخص اليمن قليل أو ربما لم يدرج المؤلف عمداً
هذا البلد كله ضمن دولة السعوديين.
الفصل
الرابع
النظام الاجتماعي والسياسي
في أمارة الدرعية
لم تغير الوهابية النظام الاجتماعي
في الجزيرة العربية مع أن فئة الوجهاء والأعيان في أمارة الدرعية الشاسعة قد برزت من بين سواد السكان وكان نشاطها الإداري
المبكر منظماً بعض الشيء. إن عائدات الوجهاء الحاكمين من النهب والجزية ومصادرة
الأموال وفرض الضرائب واستلام بدلات الإيجار قد اتسعت، ولكنها لم تكن تختلف من حيث
الجوهر عن الممارسات السابقة.
النهب
في الغزوات والغرامات الحربية. كانت حملات الوهابيين تحت راية تجديد الدين تستهدف تحقيق مهمات
دنيوية بحتة تتلخص في زيادة ثروات حكام الدرعية ووجهاء الجزيرة المرتبطين بها
(وجهاء نجد بالدرجة الأولى) وكذلك الجند المساهمين في الغزوات. ويدل ما كتبه مؤرخو
الجزيرة والرحالة الأوروبيون على أن الغزو ظل الطريق الرئيسي لحصول الوجهاء على
الثروة. وكتب المؤرخ الوهابي أبن بشر يقول، بعد أن عدد الضرائب التي وردت إلى
الدرعية: "وما ينقل أليها من الأخماس والغنائم أضعاف ذلك"(1). ويعتقد
بوركهاردت كذلك أن الأخماس تحتل المرتبة الأولى بين عائدات حاكم الدرعية(2).
كانت غزوات الوهابيين الأولى تنتهي بالاستيلاء على بضع عشرات من الإبل
والأغنام ونهب الحقول أو بساتين النخيل، أما في سنوات أوج قوتهم، فقد كانت غنائمهم
تبلغ عشرات الآلاف من رؤوس الماشية المنهوبة. وفي عام 1796 بعد دحر قوات شريف مكة،
وقع في أيدي الوهابيين 30 ألفا من الإبل و 200 ألف من الأغنام والماعز(3)، إذا لم
تكن في ذلك مبالغة.
ويقول أبن بشر أنه عندما جرى في عام 1790 _ 1791 دحر قبائل مطير وشمر
حصل الوهابيون على "غنائم كثيرة من الإبل والغنم والأثاث والأمتعة".
وسرعان ما تعرض سائر البدو لمثل هذا المصير. فقد كان الوهابيون يطاردونهم يومين أو
ثلاثة "ويأخذون منهم الأموال ويقتلون الرجال"(4). إن المصنفات التاريخية
العربية غاصة بوقائع من هذا النوع.
وكما هو حال الغزوات البدوية كان النهب الوهابي يسفر عن تجريد القبائل
المستضعفة ليس فقط من المنتوج الزائد، بل كذلك من قسم كبير من المنتوج الضروري،
وغالباً ما يحكم على السواد الأعظم من السكان المنهوبين بالموت جوعاً. ولم يقتصر
النهب على ألبسطاء من أبناء القبائل أو سكان المدن، فقد تعرض لنهب الوجهاء
والأعيان أيضاً. إلا أن هؤلاء كانوا يعوضوا عن خسائرهم على حساب بسطاء البدو أو
الفلاحين. وكان الوهابيون المنتصرون يرأفون عادة بحال الوجهاء، ويفضلون إقامة
علاقات طيبة معهم. وكان الوجهاء المغلوبون يفقدون استقلاليتهم السابقة، ولكنهم
يصبحون جزءاً من الطبقة الحاكمة في الدولة السعودية.
ويدل كبر حصة غنائم الحرب في مداخيل الدول الوهابية على طابعها الحربي
التوسعي. فقد تعرضت للنهب القبائل والمدن والواحات والمناطق غير المنضمة أليها أو
التي حاولت التخلص من سلطة أمراء الدرعية. وكانت الحروب والغزوات والنهب والتوسع
المتواصل من أهم شروط وجود الدولة السعودية.
وكان مستوى تطور القوى المنتجة في الجزيرة العربية ما يزال عاجزاً عن
تمكين الوجهاء والأعيان الوهابيين من الاستئثار بمنتوج عمل السكان بواسطة الأنواع
الأكثر تنظيماً من الاستغلال بالمقادير نفسها التي يؤمنها النهب السافر. وبغية
الحفاظ على مداخيل الطبقة الحاكمة تعين على أمارة الدرعية أن تتوسع بلا انقطاع.
وفي حالة توقف التوسع لن يتمكن الوجهاء الحضر، وخصوصاً وجهاء البدو، من استلام
المداخيل التي تعودوا على استلامها من السكان الخاضعين لهم. وفي تلك الحالة تنتفي
دوافع توحيد الوجهاء والأعيان في إطار دولة موحدة. وفي ذلك يكمن التناقض الداخلي
الرئيسي للدولة الوهابية الأولى التي كانت تحمل في أحشائها منذ لحظة ظهورها جنين
هلاكها وسقوطها.
وكان المصدر الآخر للإثراء هو الغرامات، وهي عبارة عن جزية نقدية أو
عينية تفرض على القبائل أو الواحات الخاضعة للوهابيين أو المنضمة إليهم. وكانت
الغرامات تفرض مرة واحدة، ولكن تسديدها قد يستمر عدة سنوات فيكتسب شكل الجزية أو
الضريبة المتواصلة.
ففي عام 1787 _ 1788، فرضت على أهالي واحات وادي الدواسر الذين أخضعهم
الوهابيون غرامات بمبلغ ألفي ريال كان يجب تسديد ألف منها فوراً(5).
وبعد أن مني أمير الأحساء عريعر بالهزيمة في هجومه على الوهابيين تهيأ
أمير الدرعية للتنكيل بحلفائه الذين انتقلوا إلى صف الأحسائيين. وطلبت منه واحات
المحمل وثادق أن يعفو عنها، فعفا عنها، ولكنه فرض عليها، كعقوبة، غرامات "من
ثمر الزرع والتمر"(6).
وفي عام 1767 _ 1768، أنضم إلى الوهابيين سكان الوشم وسدير و
"بايعوا على دين الله ورسوله والسمع والطاعة". والتزموا بأن يدفعوا
للدرعية غرامات نقدية وعينية(7).
وعندما أخضع أمير الدرعية سكان الحوطة والحريق واليمامة والسلمية وقسم
من الخرج فرض عليهم جزية" بما شاء من النقود(8).
وفرض الوهابيون غرامات بشكل نقود وأسلحة وأفضل الخيول مع عدتها على
قبائل البدو المجاورة لمكة(9).
الاستيلاء
على الملكية العقارية. لم يورد المؤرخون الوهابيون عن انتزاع الأراضي من الفلاحين
وتحويلهم إلى مستأجرين إلا أنباء متفرقة وشحيحة.
عندما احتل عبد العزيز الرياض "ملك بيوتها ونخيلها إلا
قليلها"(10). ويبدو أن مساكن أهل الرياض ملكا لأمير الدرعية. ولكن ماذا
يستفيد من هذه الملكية إذا كان الكثير من سكان الرياض قد هربوا؟ وهل يستطيع الأمير
أن يؤجر تلك الدور؟ لعل أمير الدرعية قد باع في أغلب الظن الأدوات المنزلية
المنهوبة وليس واضحاً كذلك كيف جرى التصرف بالنخيل. فمن الذي صار يسهر عليها؟ وما
الذي يعنيه المؤرخ بقوله "إلا قليلها؟"ربما كانت هذه النخيل ملكاً
لِأنصار الوهابيين من أهالي الرياض أو أن عبد العزيز وزعها على المقربين أليه.
ونجد معلومات أكثر تحيداً عن بساتين النخيل في الخرمة. فقد احتل
الوهابيون الواحة ووافق سكانها على إحالة النخيل إلى بيت المال(11). أما باقي
المزروعات المغروسة بين النخيل أو في الحقول الخالية من النخيل فلا نعرف عنها
شيئاً. (وبالمناسبة فإن شروط هذا الاتفاق لم تنفذ. فقد اعتبرها عبد العزيز سهلة
جداً، ولذا أمر بتدمير أسوار الواحة وتهديم قسم من الدور وطرد جماعة من السكان).
وفي معرض الحديث عن مداخيل الدولة السعودية أشار بوركهاردت إلى أن بيت
المال (الخزينة) يقسم إلى قسمين أحدهما للإمام والآخر للدولة. "ويتسلم زعيم
الوهابيين القسم الأكبر من مداخيله من عائدات أملاكه الخاصة. وقد جرت العادة على
أن ينهب إحدى مناطقه أو مدنه إذا كانت قد تمردت لأول مرة. وإذا تكرر التمرد لا
يكتفي بالنهب، بل يصادر كل أراضي السكان ويحيلها إلى بيت المال. ثم يهدي قسماً
منها إلى الغير، ولكنه يترك القسم الأكبر لِأصحابها السابقين الذين يتحولون إلى
مستأجرين ويجب عليهم أن يدفعوا له تبعاً للظروف ثلث المحصول أو نصفه. إن ملكية الأشخاص
الذين شاركوا أنشط مشاركة في التمرد تحال إلى غيرهم. أما هم أنفسهم فيطردون أو
يقتلون… وفي الوقت الحاضر يعود القسم الأكبر من الملكية العقارية في نجد إلى بيت
المال أي خزينة الدولة.وإن ملكية كل الأراضي في القصيم التي كان سكانها يتمردون
دوماً قد تركت لهم على سبيل الإيجار. والكثير من القرى في الحجاز وفي الجبال
الواقعة على جانب اليمن يعود إلى بيت المال أيضاً(12).
إن نظام جباية المال من السكان الخاضعين الذين يتحدث عنهم المقتطف
أعلاه يبدو على العموم ناجزا وكاملاً، مع أن الكثير من جوانبه يبقى غامضاً، ومن
ذلك، مثلاً، مسألة ما إذا كان بدل الإيجار يرد إلى بيت المال أو يوضع تحت تصرف
أمير الدرعية شخصياً. ومن يقصد بوركهاردت بكلمة "الغير"، هل يقصد
الفلاحين الذين استقروا في المناطق التي استولى عليها الوهابيون أم يقصد ملاكاً
جدد يستأجر الملاك السابقون الأراضي منهم؟ سؤال تصعب الإجابة عنه.
إن معطيات هذا الرحالة الأوربي والمصنفات العربية تكمل بعضها بعضاً،
ولكنها متعارضة بعض الشيء. وهناك مبررات تجعلنا نصدق بقدر أكبر ما يقوله مؤرخو
الجزيرة. فأن أبن بشر، مثلاً، كانت له علاقات مع موظفي المالية في البلاط وقد
استقى معلوماته منهم شخصياً. أما بوركهاردت، فكان يتناول الكثير من ظواهر الحياة
في الجزيرة من مواقع الأوروبي المتحيزة دون قصد.
إن مؤرخي الجزيرة لا يتحدثون إلا نادراً جداً عن ملكية الأراضي المحالة
إلى بيت المال. وهم يشيرون في عدة حالات فقط إلى وجود الخراج (ضريبة الأرض) في
الدولة الوهابية، ولكنهم لا يحددون طابعه. وإذا كان الخراج هو إيجار الأرض الذي
يقدم لقاء أراضي الدولة، فأن معطيات بوركهاردت تحصل على برهنة كافية إلى حد ما.
وفي هذه الحالة يمكن الكلام عن إعادة توزيع مكثفة لملكية الأراضي في الدولة
السعودية وعن التوافق بين ريع الأرض والخراج الذي يجيبه بيت المال.
وعندما أبدى حليف الوهابيين أمير حريملاً مبارك بن عدوان تذمراً اقترح
عليه محمد بن عبد الوهاب وأمير الدرعية قائلين "خذ من نخيل حريملاً ما تريد
واجلس عندنا ولك الحشمة والوقار وخراجك علينا". وصار مبارك بن عدوان أسيراً
فخرياً عند الوهابيين(13). ولكنه، على ما يبدو، احتفظ بريع بساتين النخيل.
الزكاة. من أهم المستحدثات في
إمارة الدرعية فرض ضريبة مركزية منتظمة على جميع سكان الدولة بشكل الزكاة المنصوص
عليها في القرآن لمساعدة الفقراء والمساكين والتي هي واحد من أركان الإسلام. إن
الأهداف الدينية المتجسدة في بعث الزكاة تستجيب بأفضل شكل لمتطلبات ومهمات الدولة
السعودية الإقطاعية. وأشار أبن بشر وهو يتحدث عن استيفاء الزكاة إلى أن
"الإسلام الحقيقي" انتشر في نجد وقال "بعثت العمال لقبض الزكاة
وخراج الثمار بعد أن كانوا قبل ذلك يسمون عند الناس مكّاساً وعشّاراً"(14).
ويقول هذا المؤرخ النجدي أنه كانت تخرج من الدرعية سنوياً جماعات لقبض
الزكاة من البدو. وكل جماعة تتكون من سبعة أشخاص تضم أميراً وكاتباً وحامل الدفتر
وجابياً لجمع النقود من بيع الإبل والغنم والماعز المخصصة لتسديد الزكاة، بالإضافة
إلى ثلاثة حراس مسلحين يقومون بجمع القطعان واقتيادها وحراستها. وكان حكام الدرعية
يرسلون إلى البدو أكثر من 70 جماعة لقبض الزكاة. وكان هناك مخولون خاصون باستيفاء
الزكاة من محاصيل المزارعين ومن القرى الصغيرة والكبيرة وموظفون لاستيفاء الزكاة
من البضائع (15).
وكتب بوركهاردت يقول "كان جباة الزكاة يرسلون سنوياً من الدرعية
إلى مختلف المناطق والقبائل. وهم يستلون مبلغاً نقدياً معيناً مقابل عملهم وكذلك
نفقات السفر"(16).
وتبين معلومات أبن بشر أن جماعات قبض الزكاة كانت تعيش على حساب
الأشخاص الذين تستوفي عنهم الزكاة (17). وهذا يهيئ الفرصة للفساد.
وتبلغ الزكاة عشر محصول الأراضي الديمية وخمس محصول الأراضي الاروائية
وربع العشر من رأسمال التجار (18). ويقول بوركهاردت أنهم كانوا يأخذون ريالاً من
قبيلة عنزة لقاء كل خمسة جمال وثمن نعجة واحدة لقاء كل 40 رأساً من الغنم، وما
يعادل 7 شلنات على كل حصان(18). ولكنه يمكن الافتراض بأن مبلغ الزكاة يختلف
باختلاف المناطق.
ويصعب تحديد المبالغ الإجمالية للزكاة التي كانت ترد إلى الدرعية، مع
أن أبن بشر قد أورد بعض الأرقام وكتب يقول: "وأخبرني أحمد بن محمد المدلجي
قال كنت كاتباً لعمال علوي من مطير مرة في زمن عبد العزيز. فكان ما حصل منهم من
الزكاة في سنة واحدة أحد عشر ألف ريال. قال وكان عمال بريه من مطير رئيسهم عبد
الرحمن بن مشاري بن سعود. فكان ما جبى منهم اثني عشر ألف ريال. ومن هتيم سبعة آلاف
ريال. وكانت زكاة مطير في تلك السنة ثلاثين ألف ريال. وكان عنزة أهل الشام وبوادي
خيبر وبوادي الحويطات المعروفات ومن في نجد من عنزة يبعث إليهم عوامل كثيرة ويأتون
منهم بأموال عظيمة. وأخبرني من أثق به قال أناخ في يوم واحد تحت الطلحة المعروفة
عند باب بلد شقرا أربع عوامل من عمال
بوادي الشام، كل عاملة معها عشرة آلاف ريال. قلت ويأتي غير ذلك من زكاة بوادي شمر
وبوادي الظفير قريب ما يأتي من عنزة، ومن قحطان وبوادي حرب وعتبية وجهينة وبوادي
اليمن وعمان وآل مرة والعجمان وسبيع والسهول وغيرهم ما يعجز الحصر. وتؤخذ منهم
الزكاة على الأمر الشرعي ولا يؤخذ فيها كرائم الأموال ولا دونها إلا من غيّب من
إبله أو غنمه شيئاً عن الزكاة فيؤخذ منه الزكاة والنكال"(20).
ويبدو أن حجم واردات الزكاة في الدرعية قد ازداد بقدر أكبر في عهد سعود
بن عبد العزيز.
فقد قال عنه أبن بشر ما يلي: "وأما عماله الذين يبعثهم لقبض زكاة
الإبل والغنم في بوادي جزيرة العرب مما وراء الحرمين الشريفين وعمان واليمن
والعراق والشام وما بين ذلك من بوادي نجد فذكر لي بعض خواص سعود ممن قد صار كاتباً
عنده، قال: كان يبعث إلى تلك البوادي بضعاً وسبعين عاملة في كل منها سبعة رجال…
وأخبرني ذلك الرجل أن سعوداً بعث عماله لبوادي الغز المعروفين في ناحية مصر، وبعث
عماله أيضاً لبوادي يام نجران وقبضوا من الجميع الزكاة وقال: آتوا عمال آل فدعان
المعروفين من بوادي عنزة بزكاتهم بلغت أربعين ألف ريال من غير خرج العمال وثماني
أفراس من الخيل الجياد. قال: وهذا أكثر ما تأتي به العاملة من تلك العمال كل سنة،
وأقل ما تأتي به العاملة من أولئك العمال المذكورين ثلاثة آلاف ريال وألفين ونصف،
قال: والذي يأخذه سعود على بندر اللحية المعروفة في اليمن مائة وخمسون ألف ريال
وهو لا يأخذ إلا ربع العشر، ومن بندر الحديدة نحو ذلك….
قلت: وأما غير ذلك مما يجيء إلى الدرعية من الأموال من القطيف والبحرين
وعمان واليمن وتهامة والحجاز وغير ذلك وزكاة ثمار نجد وعروضها وأثمانها لا يستطيع
أحد عده ولا حصره…"(21).
ولم يذكر أبن بشر المبلغ الإجمالي لمداخيل أمراء الدرعية. وربما لا
يعرف ذلك المبلغ الأمراء أنفسهم. وقد قدر بوركهاردت العائدات السنوية لبيت
مال الوهابيين بمليون ريال، علماً بأن
أفضل الأعوام عاد عليهم بمليوني ريال(22). إلا أن الرحالة لم يؤكد على ما إذا كان
هذا الرقم يضم غنائم الحرب ومختلف أنواع الغرمات أم أنه يضم الضرائب فقط.
ويقول مؤلف "لمع الشهاب" بأن العائدات الضرائبية السنوية
لسعود في عز جبروته بلغت كما يلي: 400 ألف
ريال من سكان نجد البدو والحضر و 500 ألف من بدو الشام واليمن وتهامة وعمان وحوالي
400 ألف من الأحساء و 200 ألف من القطيف و 40 ألفاً من البحرين، و 300 ألف من
اليمن (من السكان الحضر على ما يبدو) و 200 ألف من بدو الحجاز وبعض المناطق الأخرى
و 120 ألفاً من رأس الخيمة بما فيها حصة النهب) و 120 ألفاً من حضر وبدو عمان،
فضلاً عن نفقات القوات الوهابية هناك. أما غنائم الغزوات فلا تعد ولا تحصى. وكان
سعود شخصياً يستلم مداخيل كبيرة بشكل هدايا من الحجاج الأثرياء، وكانت الأراضي
التي يملكها في نجد والأحساء تعود عليه بـ 300 ألف ريال(22) وهكذا يصل المبلغ
الإجمالي لمداخيل أمير الدرعية بشكل ضرائب حسب معلومات "لمع الشهاب" إلى
مليوني ريال تقريباً. وهذا يتفق مع ما قاله بوركهاردت.
كانت عائدات الأمراء السعوديين هائلة بالنسبة للجزيرة العربية آنذاك.
ولكنه ينبغي أن نأخذ في الاعتبار التذبذب الكبير في الأسعار من موسم لآخر أو من
منطقة لِأخرى. ويكفي القول أن حمل الحطب في الدرعيه، كما يقول أبن بشر، يكلف 5_6
ريالات وأن ثمن النخلة الواحدة يصل إلى 50 ريالاً(24).
إن طابع الدولة السعودية التي كانت تخدم بالأساس مصالح وجهاء الجزيرة
العربية قد تجلى كذلك في ميدان التوزيع المركزي للثروات. ولكنه لا يمكن تحديد
المبالغ المطلقة والنسبية لنفقات الدولة إلا بصورة تقريبية.
البلاط
السعودي. إن الأموال التي تنفق على بلاط أمراء الدرعية وأسرة محمد بن عبد الوهاب
تشكل واحداً من أبواب الصرف الرئيسية. لقد تجمعت كملكية شخصية للسعوديين ثروات
بشكل أراض في الواحات وماشية وأحجار كريمة ومجوهرات وأموال أخرى. وكتب أبن بشر
يقول أن ثلث الضرائب المستحصلة في منطقة الأحساء ينفق على بلاط السعوديين وأسرة
أبن عبد الوهاب والحاشية(25).
إن عوائل الوجهاء العرب عموماً كبيرة للغاية. فالأموال الكثيرة تمكن
أبناء الوجهاء من التزوج من أربع نساء على الأقل كما ينص القرآن، بالإضافة إلى
الجواري. وإن التغذية الجيدة والظروف الصحية الأفضل بعض الشيء مما لدى باقي السكان
تقلل من وفيات الأطفال في العوائل الموسرة. وكانت عائلة السعوديين كبيرة جداً
(الأمير وإخوانه وأولاده وأعمامه وأبناء عمومته وأبناؤهم). ويقول بور كهاردت أنه
كان لدى سعود عدة زوجات ووصايف حبشيات(126).
إن أمراء الدرعية بعد أن أنضووا تحت لواء الوهابية التي باركت سلطتهم
والتي تدعو إلى البساطة والاعتدال صاروا يعيشون بقدر كبير من البذخ والفخفخة
بالنسبة للجزيرة العربية. وأشار كورانسيز إلى "إن سعود ذاق طعم الترف وكان لا
بد أن يتأثر به". ويضيف المؤرخ الفرنسي قائلاً: ذلك هو طريق جميع الطوائف
التي "تبدأ بالبساطة والتقشف لتجتذب الجماهير وتنتهي بالترف
للزعماء"(27).
ونقرأ في "لمع الشهاب" عن سعود مايلي: "وكان تحته أربع
نسوة بالعقد وست جوار من القرج أرسل بعض الناس خفية إلى أطراف بلاد الروم فاشتروهن
له بقيمة كبيرة قيل كل واحدة اشتراها بثلاثة آلاف ريال أو أكثر لأنهن متناهيت في
حسن الصورة وأيضاً له عشر وصايف حبشيات بعضهن أهداه له الشريف حمود أبو مسمار صاحب
أبي عريش وتهامة اليمن وبعضهن أتوه به القواسم أهل رأس الخيمة من ما اكتسب من
الغنائم وقد غير بنيان البيت الذي كان لِأبية عبد العزيز فوسع عرصته وبنى غرفاً
وخلوات وعين لكل امرأة موضعاً خاص هي وخدمها… وأما لباس نسائه فكان أطيب لباس
وغالبه من الحرير الهندي المصنوع بالذهب، أحمر أو أصفر أو أخضر وغير ذلك من
الألوان وكذلك من بز الشام الحرير العال المطرز بالذهب…
وقد جملهن من الحلي شيئاً عظيماً من الذهب المرصع بالجواهر النفيسة من
الياقوت الأحمر وغيره كثيراً… وكان يرسل بعض الناس إلى ملك فارس فيشترون له ذلك…
وكان سعود يترف في المأكول كما يترف في الملبوس وغالب قوته وقوت عياله الأرز وصار
أكل الحنطة لديهم قليلاً واتخذ له أُناساً من أهل الأحساء أو القطيف يصنعون له
الأطعمة الحسنة من اللحوم المقلية والطيور المحشية والحلويات…"(28).
وكتب رايمون "إن سعود يحب إبداء كل مظاهر الفخفخة. وكل شيء في
قصره يدل على العظمة والبذخ ولا يرفض أي شيء من تزيين القصر. ولا يبخلون بالذهب
وللؤلؤ وأغلى الأقمشة الهندية من أجل جعله أكثر روعة. ويقال أن عباءة سعود بديعة
الصنع للغاية وقد كلفته ما لا يقل عن 60 ألف بيزة"(29).
في أقوال رايمون مبالغة. ولكن من الواضح أن أمراء الدرعية في تلك
الأزمان الغابرة لم يبخلوا على أنفسهم بالترف الذي يقدرون عليه. وإلى جانب الماشية
والأراضي والأحجار الكريمة والسلاح المزين بالنفائس والقصور والقلاع كانوا يمتلكون
كذلك الخيول الأصيلة التي يعتز بها وجهاء الجزيرة كل الاعتزاز. ومن المعروف أن
سعود بن عبد العزيز أنفق أموالاً طائلة على رعاية تلك الخيول. وبلغ عدد الخيول
الأصيلة في قطعانه 2.5 ألف رأس(30). وخصص منها 600 حصان لأشجع البدو
والمماليك(31). وكان لدى كل من أبناء سعود 100 _ 150 حصانا، وكان عند ولي لعهد عبد
الله 300(32). كان أمراء الدرعية يستولون على الخيول في الغزوات ويستلمونها بشكل
هدايا وزكاة وغرامات، ولا يتورعون حتى عن ابتزازها. كتب بوركهاردت يقول
"الأعراب يتشكون من أنه عندما يمتلك أحد ما حصانا جيداً فأن سعود يجد ضده
تهمة ما بخرق القانون أو بسوء السلوك لكي يبرر مصادرة ذلك الحصان"(33).
وكانت أموال كبيرة تنفق على الضيافة التقليدية. ففي كل يوم يحل على
سعود بضع مئات من الضيوف(34). وكان سعود يخصص للضيوف سنوياً 500 صاع من الأرز
والقمح(35). (يراوح الصاع في الجزيرة ما بين لتر واحد ولترين ونصف) وخلال يومين من
ولائم زفاف أحد أبناء سعود التهم الضيوف 140 ناقة و 1300 خروف(36).
إن ضيوف سعود الكثيرين لم يكونوا من الفقراء عادة. وكان سخاء الأمير
يعم الموسرين في الغالب. ثم أن الغذاء المقدم للضيوف يختلف. فالوجهاء يقدم لهم
اللحم والأرز، والأقل منهم جاهاً يقدم لهم التمر والبرغل(37).
وكان سعود يمتلك عدداً من العبيد. كتب أبن بشر يقول: "ومماليكه
الذكور أكثر من خمسمائة مملوك وقال غيره: ستمائة الذكور وقال آخر أن مماليكه ألف
الذكور أكثر من خمسمائة ومائتان الإناث والذين يظهر من القصر آخر رمضان ألف
وثلثمائة فطرة عن خدمه وعبيده وما في قصره من الأيتام"(38). وكان عبيد الأمير
يتمتعون بالامتيازات بالمقارنة مع مجموع سكان الجزيرة الفقراء شبه الجياع. وكانوا
يشكلون حرس البلاط. وحاشية شخصية للأمير. وقد ارتقى بعضهم إلى مناصب علياً في
الدولة. فأن المملوك الخرق صار قائداً للقوات الوهابية في المعارك(39). وقد تم
إنعتاق الكثيرين من العبيد.
واحتفظ بلاط السعوديين، وخصوصاً في المراحل الأولى، ببساطة العادات و
"بديمقراطيتها" إذا استخدمنا المصطلحات الحديثة. ولم يظهر بشكل واضح
جداً الانفصال الظاهري بين أصحاب السلطة والأمير الإقطاعي وبين جمهور السكان. ومن
الناحية الظاهرية احتفظ أمير الدرعية ببعض التشابه مع شيوخ القبائل البدوية.
فأن أبسط البدو كانوا يخاطبونه بدون رسميات: يا سعود، يا أبا عبد الله،
يا أبا شوارب(40). وكتب كورانيسز عن "بساطه وخشونة العادات"(41) في بلاط
أمير الدرعية. كان مجلس سعود مفتوحاً للجميع. ويستطيع كل قادم أن يؤمل في كرمه
وحسن ضيافته. وكان الأمير شخصياً ينظر في شكاوى رعيته. وكان حكمه القضائي يتميز
بالسمات العشائرية. وقد كتب بوركهاردت أن سعود بنفسه كان أحياناً يجلد الكاذب،
ولكنه يأسف لذلك طويلاً فيما بعد، ويطلب من المحيطين به أن يخففوا من غضبه(42).
وكان سكان الدرعية غالباً ما يحضرون دروس الفقه التي يأتي أليها جميع
الوجهاء وأبناء محمد بن عبد الوهاب وأبناء سعود وأقاربه. وكان الأمير نفسه يحضرها.
"فإذا اجتمع الناس خرج سعود من القصر ومعه دولة وجلبة عظيمة تسمع جلبتهم
كأنها جلبة النار في الحطب اليابس من قرع
السيوف بعضها بعضاً من شدة الازدحام، لا ترى فيهم الأبيض من الرجال إلا نادراً، بل
كل مماليكه عبيد سود ومعهم السيوف الثمينة المحلاة بالذهب والفضة، وهو بينهم
كالقمر تبين في فتق سحاب. فإذا أقبل على ذلك قام له الذين في طريقه لئلا يطأهم
العبيد حتى يخلص إلى مكانه. فيسلم على الكافة ثم يجلس بجانب عبد الله أبن الشيخ
وهو الذي عليه القراءة في ذلك الدرس.. فإذا تكامل سعود جالساً التفت للعلماء
والرؤساء من المسلمين… ودخل القصر وجلس في منزل من منازله القريبة للناس ورفعوا أليه
حوائجهم حتى يتعالى النهار ويصير وقت القيلولة فيدخل إلى حرمه… وكان من أحسن الناس
كلاماً وأعذبهم لساناً وأجودهم بياناً فإذا سكت قام أليه أهل الحوائج من أهل
الشكاوى من البوادي وغيرهم وكان كاتبه على يساره فهذا قاض له حاجة وهذا كاتب له
شكوى وهذا دافعه وخصمه إلى الشرع فيجلس في مكانه ذلك نحو ساعتين حتى ينقضي أكثرها،
ثم ينهض قائماً ويدخل القصر ويجلس في جلسة في المقصورة ويصعد أليه كاتبه ويكتب
أجوبة تلك الكتب التي رفعت أليه في ذلك المجلس".
كان الحراس يحيطون بسعود دوماً. وعندما يصلي في مسجد القصر يحرسه
عبدان، وعندما يخرج إلى الصلاة مع الناس يرافقه ستة عبيد يحملون السيوف: اثنان أمامه
واثنان خلفه واثنان وراء الصف الثاني من المصلين(43). وقد اتخذت هذه الإجراءات
تحوطاً للطوارئ بعد مقتل أبيه عبد العزيز في المسجد.
ويستنتج مما ذكره أبن بشر مع ذلك أنه نشأت في بلاط السعوديين مراسم
خاصة للفصل الظاهري بين الوجهاء
والشعب والتأثير على بسطاء الناس عن طريق الأبهة والفخفخة عند الحاشية والخدم
وخصوصاً آداب السلوك وهلم جرا.
نفقات
الدولة خارج بلاط الأمير. كانت الهدايا التي يقدمها أمراء الدرعية إلى الوجهاء والأعيان
بشكل عيني (خيول أصيلة وأسلحة وماشية) وبشكل مكافأة مالية واحداً من أساليب إعادة
توزيع الثروات المستحصلة داخل الطبقة الحاكمة. وكتب بوركهاردت أن أمير الدرعية كان
يهدي لشيوخ البدو ما بين 50 و 300 ريال(44). وقال أبن بشر أن أمير الدرعية كان
"كثير العطاء والصدقات للرعية من الوفود والأمراء"(45).
وتلقي المعلومات الخاصة بالميزانيات المحلية وميزانيات المناطق ضوءاً
إضافياً على طابع النفقات في الدولة الوهابية. ويتوقف بوركهاردت طويلاً عند هذه
المسألة. صحيح أن ملاحظاته تنم عن رغبة غير متعمدة في تصوير جهاز الدولة الوهابية
بصورة أكثر تنظيماً مما كان عليه فعلاً.
ويقول بوركهاردت "إن جميع المداخيل، ما عدا زكاة البدو، ترد إلى
بيت المال. ولكل مدينة أو قرية ذات شأن بيت مال محلي يدفع له السكان ما يترتب
عليهم. وفي بيت المال كاتب يبعثه زعيم الوهابيين ويأمره بعدم السماح للشيخ المحلي
بإساءة التصرف بالأموال بأي حال. ولا يسمح للشيوخ لا باستحصال النقود ولا بالتصرف
بما يتم جمعه منها.
فهذه الأموال مخصصة للخدمات العامة وهي تقسم إلى أربعة أقسام. يرسل ربع
إلى بيت المال المركزي في الدرعية، ويخصص ربع للتخفيف من أعباء الفقراء… وهو ينفق
على علماء الدين الذين يرشدون التلاميذ وعلى القضاة وعلى أعمار المساجد وصيانة
الآبار العامة… ويخصص النصف للصرف على الجنود الفقراء الذين يزودون بالأغذية أثناء
الحملات، ويزودون بناقة عند الاقتضاء، وكذلك على الضيوف. وأن النقود المخصصة
للضيوف تسلم إلى الشيوخ الذين يفتحون مضايف ليتوقف فيها الضيوف ويتغذون. وتخصص
لهذا الغرض كذلك الضرائب العينية(46).
إن هذا المقتطف لا يقدم جواباً على أسلة كثيرة. فليس واضحاً ما إذا كان
بيت المال المحلي يستلم قسماً من الزكاة أو أنه يفرض ضرائب إضافية، وما إذا كان
بيت المال المركزي يساهم في النفقات المحلية. وكتب بوركهاردت أن المركز يعوض عن
الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية وغزوات الأعداء(47). ولكن هل أن ذلك مشاركة
من بيت المال المركزي في النفقات المحلية لمرة واحدة أو أنه يجري على الدوام؟
وأورد أبن بشر تقسيماً آخر للميزانية المحلية فقد كتب عن توزيع أمير
الدرعية لِأموال الأحساء يقول: "والذي يحصل من بيت مال الأحساء يقسم ثلاثاً،
ثلث يدخره لثغوره وخراجاً لأهلها والمرابطة فيها، وثلث خراجاً لخيّالته
ورجاله ونوابه وما يخرجه لقصره وبيوت آل
الشيخ وغيرهم في الدرعية، وثلث يباع بدراهم وتكون عند عماله لعطاياه وحوالاته…
ويحصل بعد ذلك ثمانون ألف ريال تظهر للدرعية"(48).
وهكذا كانت الأموال المحلية توزع في عدة اتجاهات أساسية. ينفق القسم
الرئيسي منها على الأغراض الحربية _ لتأمين حاجة الجنود الفقراء وتزيد الحاميات
بالأغذية ودفع الرواتب والأنفاق على الخيالة (أي الوجهاء المسلحين). والباب الهام
الثاني للصرف هو الهدايا التي تقدم إلى الوجهاء المحليين الذين يحتلون أهم المناصب
في الإدارة الوليدة ويتصرفون بجزء من النفقات، وليس بدون نفع شخصي طبعاً. إما
النفقات على "الفقراء" فتغطي حاجات علماء الدين والقضاة.
الأعمال
الخيرية. يتحدث أبن بشر عن سجايا أمير الدرعية عبد العزيز فيقول: "وكان
عطاؤه للضعفاء والمساكين في الغاية، فكان منهم من يكتب أليه منه ومن أمه وزوجته
وأبنه وأبنته من كل واحد كتاباً وحده، فيوقع لكل كتاب منهم عطاءه فكان الرجل يأتيه
بهذا السبب عشرون ريالاً وأقل وأكثر. وكان إذا مات الرجل من جميع نواحي نجد يأتي
أولاده إلى عبد العزيز وأبنه يستخلفونه فيعطيهم عطاءً جزيلاً. وربما كتب لهم
راتباً في الديوان… في كل وقت وكل سنة يعطي كل أهل بلد وكل أهل ناحية ألف ريال
وأقل وأكثر… وأخبرني كاتبه قال أن عبد العزيز أخذه يوماً صداع فدعاني وقال اكتب
صدقة لأهل النواحي فأملي عليِّ لأهل منفوحة خمسمائة ريال. وأهل العيينة مثل ذلك. وأهل
حريملا سبعمائة ريال. وأهل المحمل ألف ومائة ولجميع نواحي نجد على هذا المنوال.
قال قيمتها تسعون ألف ريال. وأتى أليه يوماً خمسة وعشرون حملاً من الريالات، فمر
عليها وهي مطروحة، فنخسها بسيفه. وقال: اللهم سلطني عليها ولا تسلطها عليِّ، ثم
بدأ في تفريقها"(49).
ووصف أبن غنام المجاعة المرعبة التي اجتاحت نجد في أواسط الثمانينات من
القرن الثامن عشر حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية إلى أقصى حد وهلك الرجال
والنساء ناهيك عن الشيوخ والأطفال. كان الناس يسقطون أثناء الصلاة بسبب الهزال.
واستمرت المجاعة عدة سنوات. وعند ذاك بدأ عبد العزيز بإطعام الأرامل والأيتام
والضعفاء(50).
وهكذا طبقت الدولة السعودية عملياً
واحداً من المستحدثات العبقرية (أو على الأصح المكتسبات) التي جاء بها الإسلام،
ونعني الأعمال الخيرية أو العمل بالمعروف. فهذا العمل الذي "يفتح" أمام
القائمين به أبواب الجنة في الآخرة كان يحميهم في الدنيا ولو مؤقتاً من غضب
الفقراء وانتفاضاتهم وتمرداتهم. وكانت الأعمال الخيرية تجرد الفقراء من سلاحهم
الفكري وتوحي إليهم بأن خلاصهم من الجوع والحرمان والتخفيف من أعبائهم يتمان ليس
بالكفاح الحازم، بل بصدقات الأثرياء والوجهاء. ولعبت أعمال السعوديين الخيرية
دوراً سياسياً لا يقل أهمية: فقد تحسنت الأوضاع المادية بعض الشيء لسكان المناطق
الوسطى من الدولة الوهابية على حساب الأطراف، وأدى ذلك إلى زيادة ولاء أُولئك
السكان لِأمراء الدرعية. وكان قسم من الأموال المخصصة للأغراض الخيرية يقع في أيدي
الوجهاء والأعيان المحليين أو يخدمهم بصورة غير مباشرة إذ يخلصهم من لزوم الأنفاق
من جيوبهم على فقرائهم.
وكانت الأعمال الخيرية في إمارة
الدرعية بمثابة ترجمة للتضامن العشائري في مواجهة الكوارث.
البينة
السياسة للدولة وتنظيم السلطة. لقد توحدت بقوة السلاح تحت سلطة أمير الدرعية مختلف المناطق
والقبائل البدوية. وكانت درجة تبعيتها للدرعية متباينة.
ويقول أبن غنام أن القبائل أو الواحات عندما يجري ضمها إلى الوهابيين
تقسم أمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير أبن سعود على خوض الجهاد ضد المشركين
(أي غير الوهابيين) وتقديم العون للوهابيين(51). وعندما أنضم سكان الخرمة والمجمعة
إلى الوهابيين بعثوا وفداً إلى الشيخ وإلى عبد العزيز للأعراب عن رغبتهم في التمسك
بالإسلام وأداء كل الفرائض بما فيها الزكاة، ولكنهم طلبوا السماح لهم بعدم
المشاركة في الجهاد خلال عامين(52).
فما الذي تعنيه مثل هذه الاتفاقيات؟ لقد كانت تلك، بالدرجة الأولى،
تحالفات عسكرية التزم فيها الطرف المنضم إلى الوهابيين بشن العمليات الحربية ضد
غير الوهابيين. وهذا هو الأمر الرئيسي. وليس من قبيل الصدفة أن تأجيل المشاركة في
الجهاد عامين كان يعتبر استثناء من القاعدة.
لقد ألزم التحالف مع الوهابيين القبائل والواحات بأن تدفع ضريبة دائمة
إلى بيت المال المركزي وقيد استقلالها بقدر كبير.
وفي عام 1865، زار المندوب البريطاني ل. بيلي الدولة الوهابية التي
بُعثت مع عاصمتها الجديدة الرياض بعد تدميرها على يد المصريين. وأشار إلى مختلف
أشكال تبعية القبائل التي انضمت أو ضُمت إلى الوهابيين للرياض. ويمكن، ببعض التصرف
الحذر، تطبيق أقواله على الدولة الوهابية الأولى.
كانت بعض القبائل تدفع الضرائب وتشارك في الحملات الحربية وتؤدي مختلف
الواجبات، بينما تقوم قبائل أخرى برعي الماشية في نجد وأطرافها وإذا تعرضت لهجوم من طرف ثالث فأن الوهابيين لا يتدخلون. والمجموعة
الأخرى من القبائل تلتزم بعدم الأعداء على القبائل الخاضعة لأمير الرياض، مقابل
التزام مماثل من جانب هذه القبائل الأخيرة. وتتكون المجموعة الرابعة والأخيرة من
قبائل لا تعترف بسلطة أمير الرياض ولكنها تدفع الإتاوات له(53).
وكانت السلطة المركزية تتخذ الإجراءات لِإلغاء العادات العشائرية
القديمة في حل النزاعات وتسعى إلى تسوية التناقضات المحلية في إطار الدولة
الموحدة. وأفاد بوركهاردت أن النزاعات القبلية في الدولة الوهابية تحل من قبل أمير
الدرعية نفسه. وهو يعاقب بشدة المذيبين فيها(54).
واستخدم السعوديون قسماً من الوجهاء والأعيان المحليين الذين انضموا
إليهم بمثابة سند وحليف لهم. وفي بعض الأحيان ظل الأمراء والشيوخ السابقون على دست
الحكم في القبائل والواحات. ولكنه بقدر اتساع الدولة الوهابية وتعزز السلطة
المركزية أخذت الدرعية تستبدل الحكام المحليين أكثر فأكثر بممثلي الأفخاذ والبطون
المنافسين لهم أو أبناء الأسر التي لم يكن لها في الماضي أمل في الارتقاء.
ويقول بوركهاردت: "يعتقد الوهابيون أن من الضروري استبدال جميع
الشيوخ تقريباً في القبائل التي ضموها إليهم. ولم يتركوا السلطة في أيدي أبناء
الشيخ بل أحالوها إلى أسر الأعيان المنافسة. وعندما احتل محمد على الحجاز أعاد
حقوق الشيوخ المحليين وأنشأ بذلك معقلاً ضد الوهابيين"(55).
ومن الإجراءات التي اتخذها السعوديون لضمان ولاء القبائل والواحات
للسلطة المركزية الإجراء المجرب في ممارسات الغزاة والفاتحين، ونعني أخذ الرهائن.
وفي بعض الأحيان كانوا يأخذون عدداً من الأعيان بمثابة رهائن بعد أداء يمين الولاء
من قبل الواحة أو الفخذ(56). وكان بعض الشيوخ المتمردين يقيمون بصورة دائمة في
الدرعية، وقد عين بدلاً منهم أشخاص موالون للسلطة المركزية. وبغية إضعاف القدرة
الكفاحية للبدو وتشويش تنظيمهم فرضت الإقامة في الدرعية على بعض عقداء
القبائل(57).
وهكذا، بدلاً من الشيوخ والأمراء السابقين المستقلين رسمياً وفعلياً
ظهر أتباع لِأمير الدرعية يكادون يكونون غير مستقلين أو صنائع سافرين له.
وكتب بوركهاردت يقول "يتلقى
كبار شيوخ البدو من الزعيم الوهابي لقباً تقديرياً هو أمير الأمراء. إن سلطة هؤلاء
الأمراء على الأعراب محدودة جداً، ولا تزيد إلا قليلاً على السلطة التي يتمتع بها
الشيخ البدوي المستقل، ما عدا كونه يستطيع أن يفرض الخضوع للقانون بحبس المخالف أو
فرض غرامه عليه"(58). إن هذا "القليل" هو أهم سمة تميز الشيخ في
الدولة السعودية عن زعيم القبيلة في عصر ما قبل الوهابية: أي تعزيز السلطة العامة
(السجون والغرامات) وفصل السلطة العامة عن جمهور البدو.
كان أمراء المناطق من أتباع السعوديين يجمعون القوات ويساعدون جباة
الضرائب. وسلطتهم يقيدها القضاة القادمون من المركز(59).
وجاء في "لمع الشهاب": كان شأن السعوديين حيث تولوا بلداً
كبيرة أو كورة بنوا حصناً في تلك البلد على حدة عن حصنها الأول أن كان لها حصن
وبحثوا حوله خندقاً أن كانت الأرض صلبة واحكموا بنيان القلعة ورتبوا في الحصن قدر
خمسمائة رجل عسكري أو ألف رجل على قدر البلاد لكن بشرط كشف حالهم عن الاستقامة
التامة بحسب الاعتقاد بهذا الدين ويعينون لهؤلاء متاعاً كثيراً ربما كفاية سنتين
أو ثلاث سنين ويجعلون في الحصن أيضاً بنادق عديدة وباروداً كذلك وربما جعلوا في
بعض الحصون مدافع"(60).
وعين الوهابيون المفتين والقضاة في الواحات. وفي القرى الصغيرة كانوا
يعينون قضاة فقط كما يقول "لمع الشهاب". وكانت رواتبهم تأتي من بيت
المال. وكانوا يبعثون قاضي الزكاة إلى كل واحة. وفي بعض الأماكن كان هناك أربعة
جباة، وفي بعضها الآخر سبعة. وهم مستقلون عن الأمير ولكنه كان يساعدهم في قبض
الزكاة. كما كان يعين محتسب وظيفته مراقبة أداء الشعائر الدينية وصواب عقد الصفقات
التجارية ومراعاة المقاييس والأوزان وأداء القضاة لواجباتهم وقطع دابر
الارتشاء(61).
وهكذا، يمثل السلطة المحلية الأمير قائد الحامية وكذلك القاضي (أو
المفتي) وجباة الزكاة والمحتسب.
كان أمراء الدرعية يبتون في أهم شؤون الدولة بعد التشاور مع الشيخ محمد
بن عبد الوهاب وأبنائه وأحفاده وعلماء الدين ووجهاء القبائل وأعيان الواحات وأفراد
عائلة السعوديين.
ويقول أبن غنام أنه عندما عاد سعود منتصراً من الأحساء "قصد والده
والأهل والذرية، واستقر مجلسه مع والده وأعيان الرعية"(62). وتحدث أبن بشر عن
سعود بمزيد من التحديد فقال: "ومع ذلك إذا أهمه واراد إنفاذ رأي أرسل إلى
خواصه من رؤساء البوادي واستشارهم فأذا أخذ رأيهم وخرجوا من عنده أرسل إلى خواصه
من رؤساء البوادي واستشارهم فأذا أخذ رأيهم وخرجوا من عنده أرسل إلى خواصه أهل
الرأي من أهل الدرعية ثم أخذ رأيهم. فأذا خرجوا أرسل إلى أبناء الشيخ وأهل العلم
من أهل الدرعية واستشارهم. وكان رأيه يميل إلى رأيهم ويظهر لهم ما عنده من
الرأي"(63).
ولا توجد معطيات تفصيلية عن تنظيم السلطة المركزية في الدولة السعودية
الأولى. وليس معروفاً ما إذا كان لدى أمراء الدرعية مجلس دائم من كبار الوجهاء
والأعيان. فالمؤرخون الوهابيون يتحدثون عن وجود ديوان عند الأمير ولكنهم لا يحددون
وظائفه. وعلى أي حال فقد كانت هناك دوائر أو مصالح مركزية.
علماء
الدين والقضاة.. قدم علماء الدين الوهابيون دعماً كبيراً للسياسة التوحيدية لِأمراء
الدرعية. وقد أوردنا أمثلة على مشاركتهم الواسعة المستمرة في أهم شؤون الدولة.
وكان مؤسس الوهابية الشيخ محمد بن عبد الوهاب يتمتع بمنزلة رفيعة للغاية. وفي
السنوات الأولى لتحالفه مع محمد بن سعود لم يكن مجرد عالم دين ومعلم ومفتٍ. فقد
قام بتنظيم القوات ومارس الشؤون الداخلية والخارجية وأجرى المكاتبات والمراسلات مع
علماء الدين في الجزيرة وبشر بتعاليمه ودعا إلى التمسك بالولاء لأمير الدرعية(64). وساهم مساهمة نشيطة
في تأسيس وإدارة الدولة الوهابية. كانت دعوة الشيخ قد ضبطت الوهابيين ورصت صفوفهم
حول الأمير وأججت تعصبهم. وما كان عبد العزيز يوزع غنائم الحرب إلا بعد التشاور مع
محمد بن عبد الوهاب.
كان محمد بن عبد الوهاب يحافظ على سمعته فلا يستأثر صراحة بدرهم واحد
من غنائم الحرب. وبعد احتلال الرياض التي كانت الخصم الرئيسي للدرعية في نجد اعتزل
محمد بن عبد الوهاب شؤون الدولة وأناط بعبد العزيز مراقبة بيت المال وكرس نفسه
لشؤون الدين والمذهب والدعوة(65). وانهمك أبناء الشيخ وأحفاده بتأليف كتب الفقه
استناداً إلى تعاليمه وبتفسير مؤلفاته(66). وعلى هذا النحو نشأت مدرسة رجال الدين
الوهابيين التي ظلت سالمة بعد الغزو المصري.
وكتب أبن بشر عن أمير الدرعية يقول: "وكان رحمه الله تعالى مع ذلك
كثير العطاء والصدقات للرعية من… القضاة وأهل العلم وطلبته ومعلمة القرآن
والمؤذنين وأئمة المساجد" . وبعد إنهاء التعلم كان الشبان يحصلون على هدايا
كبيرة(67). وكان بيت المال ينفق على تلاميذ أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب(68).
وكانت النفقات على المساجد والقائمين على خدمتها تعتبر بالطبع من أسمى وأنبل نفقات
بيت المال. ويقول منجين أن المساجد في الدولة السعودية، تعتمد مالياً على جزء من
العشر وعلى عائدات الأوقاف المخصصة لها. ويديرها مدير يُعَيِّنه علماء
الدين"(69). ومما يؤسف له أننا لم نعثر على
معطيات أخرى تثبت وجود وانتشار أموال الأوقاف في الجزيرة العربية. ويقول
مؤلف "لمع الشهاب" أن محمد بن عبد الوهاب وعائلته يمتلكان أراضي واسعة،
وبالإضافة إلى ذلك كان يستلم مداخيل هائلة من بيت المال وهدايا من الأمراء
التابعين(70).
وكانت الدرعية ترسل علماء الدين إلى جميع الواحات والمدن والقبائل
الهامة. وكانت مهمتهم تتلخص في توعية السكان دينياً واجتثاث تمسكهم بالمذاهب
الأخرى وفرض أصول الوهابية وإثارة الحماسة الحربية والولاء للدرعية. وقد افتتحت
كتاتيب قام علماء الدين فيها بتعاليم القراءة والكتابة وتجويد القرآن. ويقول
بوركهاردت أن علماء الدين جمعوا مكتبات كبيرة في الدرعية. وقد كانت لدى سعود مكتبة
كبيرة أيضاً(71).
وكان القضاة الوهابيون يمارسون القضاء مسترشدين بالكتاب والسنة(72) على
أساس المذهب الحنبلي. وكانت الشريعة تغرس بنجاح أكبر في الواحات التي تتسم بتمايز
طبقي متطور.
أما البدو فأن الشريعة الإسلامية لا تطبق عندهم إلا قليلاً(73). ودخل
النظام القضائي الوهابي في خلاف شديد مع العرف البدوي. وهناك مبررات للافتراض أن
العرف هو الذي فاز مع أن ازدياد الوظائف الإدارية لِأعيان القبائل البدوية قد وسع
إمكانيات تطبيق الشريعة. وفي الوقت الحاضر شهد كاتب هذه السطور محاكمة في منطقة
مأرب في اليمن الشمالي. فأن المحافظ نظر في النزاعات القبلية استناداً إلى العرف
وحده.
وحدثت بعض التغيرات في مطاردة المجرمين قضائياً وإنزال العقوبة بهم في
الدولة الوهابية. وبموجب الشريعة كانوا يقطعون يد اللص أو يفرضون عليه غرامة حسب
الظروف(74).
وكما هو الحال في عهد النبي محمد سعى الوهابيون إلى تقييد الثأر
فاستبدلوه بتعويض قدره 100 ناقة أو 800 ريال. (أورد بوركهاردت هذه المعلومات دون
أن يؤكد ما إذا كان ذلك يسري على جميع مناطق الجزيرة). ويبدو أن السعوديين تمكنوا
من تضييق مفعول عادات الثأر بعض الشيء دون أن يقضوا عليها.
ولم يكن الوهابيون يعترفون بعادات الحماية التي يقدمها بعض أبناء
القبائل للمجرمين.
الاقتصاد
والتجارة (الجوانب الإيجابية للمركزية). لِأول مرة خلال قرون عديدة ساد
الاستقرار الجزيرة العربية. وخصوصاً مناطقها الوسطى، وأن بصورة مؤقتة. فقد اتخذ
الأمراء إجراءات لا هوادة فيها لِإحلال الأمن في الطرق وحماية التجارة الداخلية من
النهب وحماية الملكية. وكتب المؤرخ البصري أبن سند أن ضمان الأمن والسلامة في
الطرق يكاد يكون واحداً من الوصايا الأساسية للوهابيين(75). ويقول أبن بشر عن عبد
العزيز "كان رحمه الله تعالى رافقاً بالرعية شديداً على من جنى جناية من
الأعراب أو قطع سبيلاً أو سرق شيئاً من مسافر بحيث من فعل شيئاً من ذلك أخذ ماله
نكالاً أو بعض ماله أو شيئاً منه على حسب جنايته وأدبه غير ذلك أدباً
بليغاً…"(76).
واستحدث أمراء الدرعية نظام المسؤولية المشتركة للقبائل عن الأمن في
أراضيها. كما ألغى الوهابيون الرسوم التي كانت تتقاضاها القبائل لقاء
"حماية" و "مرافقة" القوافل ولقاء مرورها في أراضيها.
فالتجار والرحالة، كما يقول أبن بشر "لا يخشون أحداً من جميع
البوادي مما احتوت عليه هذه المملكة لا بحرب ولا سرق. وليس يؤخذ منهم شيء من
الأخوات والقوانين التي تؤخذ على الحجاج. وبطل جميع الأخوات والجوائز على دروب
الأعراب التي احيوا بها سنن الجاهلية. يخرج الراكب وحده من اليمن وتهامة والحجاز
والبصرة والبحرين وعمان ونقرة الشام ولا يحمل سلاحاً بل سلاحه عصاه لا يخشى كيد
عدو ولا أحد يريده بسوء(77)… وكانت الأقطار والرعية في زمنه (عبد العزيز) آمنة
مطمئنة في عيشة هنيئة. وهو حقيق بأن يلقب مهدي زمانه. لأن الشخص الواحد يسافر
بالأموال العظيمة أي وقت شاء شتاءاً وصيفاً يميناً وشمالاً شرقاً وغرباً في نجد
والحجاز واليمن وتهامة وغير ذلك لا يخشى أحداً إلا الله لا سارقاً ولا
مكابراً"(78).
وقد استفاد السكان الحضر. سكان الواحات والمدن، من استتباب الأمن
والاستقرار. فقد توقفت الغارات على نخيلهم وحقولهم(79). وفي ظروف الدولة المركزية
ما كان بوسع البدو أن يستحصلوا الأخاوات بالاعتماد على العنف الحربي أو التهديد
باستخدامه وتهيأت مقدمات إلغاء علاقات الإتاوة. ويصعب القول إلى أي مدى سارت مثل
هذه الاتجاهات.
وكتب أبن بشر يقول: "وكانت جميع بلدان نجد من العارض والخرج
والقصسم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يتركون جميع مواشيهم
في البراري والفلاة من الإبل والخيل والجياد والبقر والأغنام وغير ذلك ليس لها راع
ولا مراع بل إذا عطشت وردت على البلدان ثم تصدر إلى فلاتها حتى ينقضي الربيع أو
يحتاج لها أهلها… وربما تلقح وترد ولا يدري أهلها إلا إذا جاءت وولدها معها، إلا
الخيل الجياد، فأن لها من يتعاهدها في فلاتها لسقيها وحدها بالحديد.
وكانت أبل أهل سدير ونجائبهم وخيلهم سائبات أيام الربيع في الحمادة وفي
أراط والعبلة، ومعها رجل واحد يتعاهدها ويسقيها ويزور أهله ويرجع أليها وهي في
مواضعها فيصلح ربطها وقيودها ثم يغيب عنها. وكذلك خيل أهل الوشم ونجائبهم. وهكذا
يفعلون بها. وكذلك خيل عبد العزيز وبنيه وعشيرته في النقعة الموضع المعروف قرب بلد
ضرمى، وفي الشعيب المعروف بقرى عبيد من وادي حنيفة وليس عندها إلا من يتعاهدها
لمثل ما ذكرنا. وكذلك جميع النواحي تفعل ذلك…
وكان في الدرعية راعية إبل كثيرة وهي ضوال الإبل التي توجد ضائعة في
البر والمفازات جمعاً أو فرادى، فمن وجدها من باد أو حاضر في جميع أقطار الجزيرة
أتى بها إلى الدرعية خوفاً من أن تعرف عندهم… وجعل عبد العزيز عليها رجلاً يقال له
عبيد بن يعيش يحفظها ويجعل فيها رعاة ويتعاهدها بالسقي والقيام بما ينوبها. فكانت
تلك الإبل تتوالد وتتناسل وهي محفوظة. فكل من ضاع له شيء من الإبل من جميع البادية
والحاضرة أتى إلى تلك الإبل. فإذا عرف ما له أتى بشاهدين أو شاهد ويمينه ثم
يأخذه"(80).
كان الواقع الاقتصادي للدولة الوهابية الأولى بعيداً، طبعاً، عن الصورة
الطوباوية التي رسمها أبن بشر. فقد حدث نهب في الطرق (وإلا لما عاقب أمراء الدرعية
أحداً) وحدث هجوم على بساتين وحقول السكان الحضر، وقامت انتفاضات متكررة للبدو وأهل
الواحات.
وقد وصف المؤرخ الحجازي أحمد بن زيني دحلان النهب في الدروب عندما بدأ
الوهابيون يستولون على الحجاز تدريجياً ، وكان أمير مكة هو الشريف عبد لمعين
الموالي لهم(81).
كانت إجراءات الوهابيين الرامية إلى إحلال الأمن في الطرق وإلغاء
الرسوم الجمركية" الداخلية وحماية الملكية قد هيأت ملائمة للتجارة داخل
الجزيرة العربية. وتوفر حافز إضافي للتبادل في مجتمع الجزيرة، وهو تبادل متطور
أصلاً. ولكن المقصود، ونحن نؤكد على ذلك، هو التجارة الداخلية بالذات، فأن سياسة
الوهابيين في ميدان التجارة الخارجية كانت تدميرية كم سنتأكد أدناه.
وقد أثرى البعض بقدر هائل بمقاييس الجزيرة من التجارة، وخصوصاً في
سنوات القحط عندما ارتفعت الأسعار لدرجة كبيرة جداً. وكتب بوركهاردت يقول "في
نجد كانوا يتاجرون أساساً بالمواد الغذائية _ وأكد منجين هذه المعلومات أيضاً(82)
_ فالقبائل القادمة من أعماق البادية تشتري ما تحتاج أليه. وطالما أن سنوات القحط
تتكرر فأن الأثرياء يكدسون كميات كبيرة من الحبوب. ولم يتدخل سعود في ذلك مطلقاً،
وفي سنوات شحة الأغذية يسمح ببيع الحبوب بالأسعار التي يحددونها هم مهما كان ذلك
صعباً على الفقراء، وكان يقول أن النبي محمد لم يمنع أبداً الحصول على أي ربح ممكن
من الأموال"(83). وبالمناسبة فأن الوهابيين منعوا الربا طبقاً لأصول فجر
الإسلام(84).
لقد ساعد تطور التجارة داخل الجزيرة على ازدهار الدرعية عاصمة الدولة.
وقد زارها أبن بشر في عهد سعود وترك لنا وصفاً للمدينة حيث كتب يقول: "ولقد
رأيت الدرعية بعد ذلك في زمن سعود… وما فيه أهلها من الأموال وكثرة الرجال والسلاح
المحلى بالذهب والفضة الذي لا يوجد مثله والخيل الجياد والنجايب العمانيات
والملابس الفاخرة وغير ذلك من الرفاهيات ما يعجز عن عده اللسان ويكل عن حصره
الجنان والبنان. ولقد نظرت إلى موسمها يوما في مكان مرتفع وهو في الموضع المعروف
بالباطن، بين منازلها الغربية التي فيها آل سعود المعروفة بالطريف ومنازلها
الشرقية المعروفة بالبجيري التي فيها أبناء الشيخ. ورأيت موسم الرجال في جانب…
وموسم النساء في جانب وموسم اللحم في جانب وما بين ذلك من الذهب والفضة والسلاح
والإبل والأغنام والبيع والشراء والأخذ والعطاء وغير ذلك وهو مد البصر. ولا تسمع
فيه إلا كدوي النحل من النجناج وقول بعت وشريت والدكاكين على جانبيه الشرقي
والغربي، وفيها من الهدوم والسلاح والقماش…"(85).
ويضيف أبن بشر "وكان قوة هذه البلد وعظم مبانيها وقوة أهلها وكثرة
رجالها وأموالها لا يقدر الوصف صفتها…" فلو ذهبت أعد رجالها وإقبالهم فيها
وأدبارهم في كتائب الخيل والنجائب العمانيات وما يدخل على أهلها من أحمال الأموال
من سائر الأجناس التي لهم مع المسافرين من أهلها ومن أهل الأقطار لم يسعه كتاب…
وكان الداخل في موسمها لا يفقد أحداً من أهل الأفاق من اليمن وتهامة
والحجاز وعمان والبحرين وبادية الشام ومصر وأناس من حاضرتهم إلى غير ذلك من أهل
الآفاق ممن يطول عدهم هذا الداخل فيها وهذا خارج منها وهذا مستوطن فيها.
وكانت الدور لا تباع فيها إلا نادراً وأثمانها سبعة آلاف ريال وخمسة
آلاف والداني بألف ريال وأقل وأكثر وكل شيء بقدره على هذا التقدير.
أجرة الدكان الواحد في الشهر خمسة وأربعون ريالاً وسائر الدكاكين
الواحد بريال في اليوم وشيء نصف ريال. وذكر لي أن القافلة من الهدم إذا أتت أليها
بلغت أجرة الدكان في اليوم الواحد أربعة ريال.
وأراد رجل منهم أن يوسع بيته ويعمره فاشترى نخيلات تحت هذا البيت يريد
قطعها وتعمير موضعها كل نخلة بأربعين ريالاً وخمسين ريالاً… وكان غلا الحطب فيها
والخشب إلى أعلى حد حتى قيل أن حمل الحطب باغ خمسة ريالات وستة والذراع من الخشبة الغليظة بريال"(86).
لقد غدت الدرعية مركزاً تجارياً كبيراً للجزيرة العربية. فعندها تلتقي
الطرق التجارية من أجزاء الجزيرة كافة. وكانت وفرة الثروات المنهوبة المتواردة على
المدينة قد خلقت انتعاشاً مفتعلاً وتسببت في تجمهر أعداد غفيرة من الناس مما أدى
إلى ازدياد الغلاء ولم تكن موجودة آنذاك المقدمات الاقتصادية الضرورية لِإنشاء
مراكز سكنية كبرى من هذا القبيل. وتدل على ذلك الأسعار الباهظة للأخشاب والنخيل
والحطب. ومع ذلك أسفرت سلامة الطرق عن تعزز الصلات الاقتصادية داخل الجزيرة بقدر
ما، وأن بصورة مؤقتة.
وأدت الإجراءات الاقتصادية والسياسية والفكرية لمركزية الدولة إلى
ظواهر لم يشهدها وسط الجزيرة فيما مضى. فقد ظهر اتجاه نحو تكوين وحدة فوق القبائل.
وكان ذلك أمراً مدهشاً جعل المؤرخ الوهابي أبن بشر يهتف متعجباً وأن بشيء من
المغالاة: "والرجل يأكل ويجلس مع قاتل أبيه وأخيه كالإخوان"(87)، ورغم
المبالغة في هذا القول، فهو يدل على الاتجاه العام. وأشار أبن سند إلى أن
الوهابيين أزالوا غارات البعض على البعض وصار جميع البدو رغم الفوارق بينهم، من
حضرموت إلى الشام أخوة وأبناء شخص واحد. وكان بالإمكان أن يرى المرء في بعض
المناطق خيمة لعتيبة وخيمة لحرب وكانوا يعيشون بوئام(88).
إلا أن العساكر ظلت هي الإدارة الرئيسية لسياسة المركزية ولرص صفوف
مختلف المناطق والقبائل في إطار الدولة السعودية. وطالما أن العشائر قوية ومظفرة
ظل وجود إمارة الدرعية مكفولاً.
العساكر. كتب بوركهاردت يقول أن
سعود وأباه لم يحتفظا بجيش نظامي قط ما عدا بضع مئات من الجنود المختارين كانت
لهما في الدرعية(89)، ولكن جميع الرجال ما بين الثامنة عشرة والستين كانوا يعتبرون
ملزمين بالخدمة العسكرية(90). وكان كل بدوي أو حضري صحيح الجسم وقوي يعتبر في الواقع
محارباً.
عندما ينوي أمير الدرعية القيام بغزوة يبعث رسولاً إلى شيوخ القبائل
ويأمرهم بالحضور في يوم معين إلى منطقة بئر معين. ويقول أين ببشر "ولا يتخلف
أحد عن ذلك الموعد حقير ولا جليل، لا من بوادي الحجاز ولا العراق ولا الجنوب ولا
غير ذلك". وإذا تخلف أحد تفرض عليه غرامة. وكان أشخاص مختصون يبعثهم الأمير
فيأخذون الغرامة بشكل مختلف الأموال والجياد والإبل ويضربون المذنبين"…
ويعذبون المجرم بأنواع العذاب… ولا يتجاسر أحد أن يقول لهم شيئاً، أو يشفع فيه بل
كلهم طائعون مذعنون"(91).
وكتب المؤرخ البصري أبن سند يقول: "فإذا أراد أبن سعود قتال قرية
أو قبيلة فأولاً يرسل إلى القرى التي أطاعته ويطلب من كل قرية مقدار العسكر
المفروض على تلك القرية أو القبيلة فيأتي أليه…"(92).
وكتب الرحالة الأسباني بادياّ _ أي _ ليبليخ "عندما يحتاج أمير
الوهابيين إلى العساكر يكتب إلى القبائل ويحدد عدد المحاربين الذين يتعين إرسالهم
أليه"(93).
وكتب منجين بهذا الخصوص: "قبيل بدء الحملة الحربية كان سعود يطلب
من المناطق أن ترسل له العدد اللازم من العساكر. وكان الأمراء يصدرون الأوامر لمن
هم تحت سلطتهم. وكان كل من وجهاء المدينة والمنطقة يقود محاربيه المسلحين بنفسه
إلى المكان المخصص له ويبقى رئيساً وقائداً لهم طوال فترة الحرب.
وتتشكل في كل منطقة مفارز خاصة بقيادة أميرها، وفي كل مفرزة كاتبان
وإمام. وتتلخص وظيفة الإمام في أداء الصلاة في المعسكر، وهو في الوقت نفسه حكم في
الخلافات التي يمكن أن تنشأ"(94).
كانت أكبر قبائل وسط الجزيرة _ عنزة وقحطان ومطير _ تخضع لِأوامر حكام
الدرعية وأن كانت تقيم بعيداً عن مسرح العمليات الحربية(95). صحيح أن وصف الغزوات
يبين أن القبائل القريبة فقط تشارك فيها بالقدر الكامل عادة.
وكتب منجين "إن كل محارب يحمل معه سلاحه وطعامه وذخيرته. وكانوا
يقدمون للمحاربين الفقراء مساعدة في التجهيز. والأثرياء يزودون أسرة الفقير بما
تحتاج أليه. ويستطيع الشخص الذي يطلب منه الأمير المشاركة في الغزو أن يقدم شخصاً
آخر بدلاً منه لهذا الغرض. وهو يزوده بكل ما يلزم أو يتعهد بمنحه جملاً أو حصاناً.
ولم يكن الرجالة والهجانة على الجمال يستلمون أي أجور. أما الخيالة فيستلمون علفاً
للحصان وراتباً شهرياً"(96).
ويقول بوركهاردت أن قوت الجندي يتكون من 100 أوقية من الدقيق و 50 _ 60
أوقية من الثمر و 20 أوقية من السمن وكيس من القمح أو الشعير للبعير وقربة
ماء(97).
بديهي أن هذه الاحتياطيات أقصى ما يمكن أن يأخذه المحارب، وأن كميتها
تختلف باختلاف مدة الغزوة. وقد أشار أبن سند إلى ذلك. فهو يقول أن أبن سعود نفسه
يحدد مقدار الدواب أو الذخيرة التي يتعين على المشاركين في الغزوة أن يأخذوه معهم.
ولكنه لم يكن يحب الغزوات التي تطول أكثر من شهر، كي لا يزود الجنود العتاد
والأغذية بنفسه. ففي الغزوة التي لا تزيد على شهر يتزود المحاربون بما هو ضروري
بأنفسهم، وإذا زادت الفترة على الشهر فأن أمير الدرعية يقدم لهم جزءاً(98). وإذا
جاء المتطوعة سيئي التجهيز فأن الأمير الوهابي يعيدهم من حيث جاءوا، ثم يعاقب
الواحات أو القبائل التي أرسلتهم أليه بهذه الصورة.
إن المئونة الشخصية التي يتزود بها المحاربون تعفي بيت المال من
الاهتمام بتغذيتهم وتزيد من استقلالية العساكر في الحملات. إلا أن تجنيد المحاربين
وتهيئة المئونة لهم كانا عبئاً ثقيلاً على القسم الفقير من السكان. فهم لا
يستطيعون، مثل الأغنياء، أن يقدموا البدل من الخدمة العسكرية، وكانوا يضيعون
الأيدي العاملة، ولا يمكن لأي معونة أن تعوض عن فقدان المعيل. ولا يعول المحاربون
ألبسطاء الذين يشاركون في الغزوات على شيء سوى حصة في الغنائم. ولذلك فأن سكان
الواحات والبدو، كما يقول بوركهاردت كانوا كثيرا ما يتهربون من المشاركة في
الحملات(99).
وبعد اقتطاع خمس غنائم الحرب لصالح أمير الدرعية يقسم الباقي على
المحاربين: ومن المقرر أن الفارس، أي ممثل الوجهاء والأعيان، يستلم بقدر حصتي
الرجالة. وفي الواقع كان الوجهاء، على ما يبدو، يستأثرون بحصة الأسد. وأشار رايمون
إلى أن الجند في عهد عبد العزيز كانوا يتشكون من الظلم في توزيع الغنائم، حيث
يستلم قادتهم حصة الأسد. وكان يتعين على أمير الدرعية أن يتدخل ويحق الحق(100).
وكتب بوركهاردت أن حرس أمراء الدرعية يتكون من أفضل الجنود وعددهم 300
شخص. وهذا الحرس هو الاحتياطي الرئيسي في سوح القتال. وهم مسلحون جميعاً أفضل
تسليح وينفق الأمير عليهم(101). ولا يذكر المؤرخون النجديون شيئاً عن مثل هذا
الحرس. فهم يتحدثون فقط عن العبيد المسلحين. ويبدو أن الحرس الشخصي للأمير يضم
المماليك المسلحين والأحرار.
كان سعود منذ الطفولة وحتى الشيخوخة يحب الغزو والجهاد. وشارك معه في
الغزوات علماء الدين من الدرعية والواحات القريبة. وكان يترك في العاصمة أحد
أبنائه خليفة له، وهو عبد الله في أغلب الأحوال(102). ويقول أبن بشر أن سعود يثير
الرعب في الأعداء "فإذا سمعوا بمغزاه هرب كل منهم وترك أخاه وأباه وماله وما
حواه(103).
ويقول منجين "خلال الحملات النهارية والليلية تخصص مقدمة ومؤخرة.
وتتقدم العساكر بطابور أو عدة طوابير تبعاً للملابسات. وكان الأمراء دوماً يقودون
المحاربين الخاضعين لهم. وتسير الخيالة والهجانة في مقدمة الطابور وفي مؤخرته.
والوسط يخصص للمدفعية والرجالة الذين يمتطي كل أثنين منهم جملاً.
وأثناء الحملات يقتات الوهابيون على التمر مع لبن الإبل ونادراً ما
يتناولون الخبز واللحم.
ويدخل الوهابيون المعركة بشكل كتائب. ويترك الرجالة الجمال تحت رعاية
الخدم(104). وعندما يقترب العدو أو يتفوق تغدو الجمال بمثابة الدروع الواقية
للمتحاربين. وتتكون كل كتيبة من سكان
منطقة معينة يتزعمهم أمير أو وجيه قروي. صفوف المحاربين مزدوجة وعندما يتعب
الصف الأول أو يتكبد خسائر كبيرة يحل محله الصف الثاني. وتنقل جثث القتلى من ساحة
القتال ومن العيب عدم مواراتهم التراب. وفي حالة الهزيمة تنسحب العساكر بلا ذعر
ولا اضطراب. وإذا مني العدو بالهزيمة فإن الرجالة لا تطارده، ولكن الخيالة
والهجانة تطارده لمسافة معينة"(105).
وفي المعسكر "يعرف كل فرد مكانه. والقائد في وسط المعسكر.
والخيالة حول خيمته. وعلى مقربة من المعسكر مخافر الرجالة والخيالة. ويجري استبدال
الخفراء كل أربع وعشرين ساعة. وفي النهار الجميع ينامون ولا ينهضون إلا لِأداء
الصلاة خمس مرات. وفي الليل يتجاذبون أطراف الحديث ويجودون القرآن ويحكون الحكايات
والقصص.
كان الانضباط متشدداً عند الوهابيين. فالقائد الذي لا يؤدي واجباته أو
الذي يبدر منه ما يثير الشكوى يُنّحى من منصبه وأحياناً تفرض عليه غرامة. وتجري
معاقبة الجنود المذنبين بالجلد بالعصي. وأحياناً تفرض عليه غرامة. وتجري معاقبة
الجنود المذنبين بالجلد بالعصي. وإذا اقترف الجندي جريمة كبيرة تقطع رقبته.
ويفعلون به الشيء نفسه إذا فر من العدو"(106).
وفي الواحات الكبيرة والمدن (في الأحساء والقصيم ومكة والمدينة) كانت
لِأمراء الدرعية حاميات من النجديين المواليين لهم(107).
كانت عساكر الجزيرة العربية مسلحة بالسيوف والحراب والخناجر والرماح
القصيرة للرجالة والدروع والهراوات والبنادق الحارقة والمسدسات(108). وكان
الوهابيون يصنعون البارود بأنفسهم(109). وأحياناً كانوا يرتدون خوذاً وأردية حماية
جلدية(110). وكانت لدى الوجهاء قمصان من زرد(111). ولدى المحارب كذلك خنجر مشدود
إلى حزامه وحقيبة مليئة بالخراطيش. وكان لدى البعض مسدسات(112). ولم تستخدم
البنادق الحارقة كثيرا، فلم بكن السلاح الرئيسي لدى العساكر. ويقول أبن بشر أنه
كان لدى سعود 30 مدفعاً كبيرا و 30 مدفعا صغيرا(113). وقد تم الاستيلاء على أكثر
هذه المدافع من العدو ولم تستخدم تقريباً في القتال.
وبلغ عدد العساكر تحت رايات أمير الدرعية 50 ألفاً(114) وكان
الأوروبيون ميالين إلى المبالغة، فيذكرون أرقاما مثل 100 و 120 ألف وحتى 200 ألف (115). لم يكن للوهابيين نظير في
شبه الجزيرة، ولكن ذلك لا يعني أنهم كانوا منتصرين دوما.
مقدمات
تحلل وسقوط الدولة السعودية الأولى. اتضح أن مهمة إخضاع شبه جزيرة العرب كلها كبيرة على أمراء
الدرعية. فأن أراضي الجزيرة الشاسعة وسوء طرق المواصلات عبر البوادي القاحلة
والجبال الوعرة جعلت المناطق منعزلة عن بعضها بعضاً وخلقت الصعوبات أمام الغزوات
وتموين العساكر. ولم تكن الطاقات والعساكر كافية لِأمراء الدرعية كي يخضعوا
المناطق الجبلية في اليمن وحتى في الحجاز وساحل مسقط وحضرموت، وكي يثبتوا مواقعهم
في تهامة ونجران. وكان ذلك يُشّكل تهديداً متواصلاً ومصدراً للاضطراب في أطراف
الدولة وأرغم الوهابيين على تبديد قواهم وأموالهم على العمليات الحربية التي لم
تنته دوماً بالعقوبة المثلى "للمشركين" وبثواب "الموحدين"
بغنائم وفيرة.
ولم تكن العساكر الوهابية خارج شبه الجزيرة العربية وفي المناطق
الصحراوية بقادرة على خوض معارك كبيرة ناجحة. فبعد غزو كربلاء، كما أسلفنا، لم تقع
في أيدي الوهابيين أي مدينة محصنة وأن كانت صغيرة في الشام أو العراق. كانت عساكر
السعوديين تحجم أمام المدن المحصنة والمحمية ببسالة وبمعرفة في الفن العسكري.
كانت حماسة الوهابيين في الهجوم تتسم بطابع حروب الغزو في القرون
الوسطى. ومن الصعب التكهن بمصير دولتهم لو كانت قد ظهرت قبل القرن التاسع عشر بعدة
قرون. بيد أن سير التطور التاريخي لا يعترف بأي افتراضات. فعندما تجاوز الوهابيون إطار
الجزيرة العربية التي كان مستواها هو مستوى القرون الوسطى اصطدموا بالقوات الأكثر
تطوراً للإمبراطورية العثمانية والتي سبقتهم من حيث التطور بعدة قرون. في تلك
الأثناء كانت بعض ولايات الإمبراطورية العثمانية تقوم بمحاولات مستميتة، وإن دون
جدوى حتى ذلك الحين، من أجل التحول إلى دولة عصرية. وتبنت بالدرجة الأولى التكتيك
الحربي الأوروبي والتنظيم العسكري الأوروبي. ومني الوهابيون بالهزيمة في الصدام مع
جيش مدرب ومسلح على الطريقة الأوربية.
ويكمن في وقف التوسع بحد ذاته خطر على وجود الدولة السعودية. فإن
المشاركة في الغزوات الموافقة والنهب المشترك، كما أسلفنا، هما الأمر الرئيسي الذي
وحد وجهاء وأعيان مختلف الواحات والقبائل. وعندما تباطأ التوسع العسكري لِأمارة
الدرعية بعد أن بلغ حدوده الطبيعية، ثم توقف في الواقع فقد التوحيد كثيراً من
جاذبيته بالنسبة لوجهاء الجزيرة. وتقلص ورود الثروات المنهوبة. وصار بوسع الوجهاء
الإقطاعيين أن يحصلوا على مداخيل أكثر عن طريق تطبيق سياسة مستقلة وممارسة الغزو
التقليدي. وكانت القبائل البدوية الجبارة تشعر خصوصاً بثقل نير الدولة المركزية.
فالكثير من البدو الذين لم يكونوا يعرفون الضرائب في السابق وأبدا صاروا يسددون
الزكاة الإلزامية خوفاً من التنكيل الشديد، وكثيراً ما أخذوا يتمردون. وكان البدو
مستعدين دوماً للتخلص من نير الوهابية. ولم يكن اعترافهم بالوهابية إلا ظاهرياً
كما يقول بوركهاردت(116). وكانت غنائم الحرب تعوض بشكل ما عن تسديد الزكاة وفقدان
مداخيل مختلف أنواع الاخاوات، ولكنه في حالة توقف الغزوات الناجحة صار عبء الدولة
المركزية عبئاً ثقيلاً لا يطاق.
كان الاستغلال الضرائبي والإتاوات والغرامات في بعض الحالات أثقل من
مزايا السلامة والأمن والاستقرار. وعند ذاك كانت قبائل ومناطق بكاملها برفض دفع
الإتاوات(117). وكان سعود يقوم سنوياً بعدة حملات ليس فقط على أطراف الجزيرة
المتمردة أو ولايات الإمبراطورية العثمانية، بل كذلك على القبائل والمناطق
المتمردة في دولته.
وسارت داخل الدولة السعودية عملية التعمق المتزايدة في فوارق الملكية
والتناقضات الطبقية. وصار وجهاء وسط الجزيرة الذين أثروا من الغزوات يبتعدون أكثر
فأكثر عن بسطاء البدو والفلاحين ويتذوقون طعم الترف والفخفخة. وتعمقت الهوة بين
الدعوة الوهابية الموجهة إلى الرعية وبين نمط حياة الوجهاء والأعيان.
وكانت الحملات البعيدة تلهي فلاح نجد عن الأعمال الزراعية دون أن تكافئهم
دوماً بالغنائم. وكانت من أسباب تذمر قسم من السكان الحضر ضرورة تسديد بدل الإيجار
للإقطاعيين أو للدولة بالإضافة إلى الزكاة.
إن تضاؤل مصلحة الوجهاء والأعيان في وجود الدولة المركزية بعد توقف
التوسع، وتذمر البدو وأعيانهم من سلطة السعوديين، وخيبة أمل الفلاحين المزارعين في
أمراء، الدرعية والوهابية _ كل ذلك كان مقدمات موضوعية، خارجة عن إرادة الأمراء،
لتحلل الدولة المركزية في الجزيرة العربية. كانت تلك المقدمات موجودة بشكلها
الكامن، ولكنها لم تظهر إلا بعد فترة زمنية طويلة نسبياً. إلا أن بعض الإجراءات
السياسية والاقتصادية التي فرضها التعصب الضيق على أمراء الدرعية قد أدت إلى تفاقم
الصعوبات أمام الدولة وعجلت في تحللها.
وكان تعصب الوهابيين الشديد قد حملهم على قطع العلاقات التجارية مع
"المشركين"، أي غير الوهابيين. وحتى عام 1810 ظلت التجارة مع الشام
والعراق محرمة(118). وكانوا إذا وجدوا تاجراً في طريق يؤدي إلى
"المشركين" صادروا بضاعته كلها(119). ومن السهل تصور الضربة الفظيعة
التي تتلقاها الحياة الاقتصادية في بعض المناطق في حالة التطبيق الحرفي للأوامر
المتعصبة.
بيد أن الحاجات الاقتصادية كانت أقوى ن القرارات المتهورة والتعصب
الأعمى. فقد تقلصت تجارة الجزيرة مع "المشركين" ولكنها ظلت مستمرة. وفي
فترة تأزم العلاقات مع مصر والعراق والشام لم تتوقف تجارة القمح(120). وكان
الوهابيون أنفسهم يبيعون في الهند المجوهرات المنهوبة(121). إن أمراء الدرعية
عندما قاموا بمحاولة فاشلة لِإقامة "الحصار الذاتي" على الجزيرة وعجزوا
عن الاستغناء عن التجارة مع "المشركين" قد أساءوا إلى سمعتهم هم.
وكانت سياسة الوهابيين تدميرية خصوصاً بالنسبة للحجاز. وكانت الضربة
الأشد قد نجمت عن منع وصول أغلبية الحجاج من الإمبراطورية العثمانية. ولم يعد
البدو يستلمون بدل مرور القوافل عبر أراضيهم ولا أجور دواب الحمل. وفقد عدد غفير
من المتسولين المحترفين والإدلاء وسدنة العتبات المقدسة مداخيلهم. ولم تعد هدايا
السلطان السنوية تصل إلى الحرمين(122). وبنتيجة ذلك، كما يقول الجبرتي، لم يعد
سكان مكة والمدينة يستلمون ما يعيشون عليه: الصدقات والأغذية والنقود. فأخذوا
نساءهم وأطفالهم وتركوا ديارهم ولم يبق هناك إلا الذين لم يكونوا يعتمدون على تلك
المصادر للعيش. وتوجه أولئك الناس إلى مصر والشام وسافر قسم منهم إلى
الأستانة(123).
وعندما اجتاحت المجاعة بسبب الجفاف المرعب الجزيرة العربية طوال خمس أو
ست سنوات كانت الأغذية تصل إلى الحجاز مع ذلك من بلدان أخرى. بيد أن عملياً
الوساطة أو السمسرة وبيع البضائع من قبل الحجاج هي الأنواع الرئيسية للتجارة في
الحجاز. وهي بالذات التي تضررت أكثر من غيرها. وتقلص مرور البضائع عبر جدة بسبب
التقلص الشديد في عدد الحجاج الذين كان كثير من البضائع يجلب من أجلهم، في حين أن
تجار البن والأقمشة الهندية لم يجرءوا على الظهور في المرفأ، لأنهم يُعاملون
معاملة "المشركين". وأصاب الكساد التجارة مع مصر. وتجلى الأثر السلبي
لذلك كله ليس فقط عند التجار الأثرياء بل كذلك بسطاء الناس في جدة ومكة ومدن أخرى،
لأنهم هم أيضاً مرتبطون بالتجارة. وأصاب الإفلاس كثيرين منهم، وخلت جدة من
أهلها(124).
وألغى أمراء الدرعية مختلف الإتاوات الجائرة وحالوا دون الابتزاز من
جانب شريف مكة أو آغا المدينة المنورة. ولكنهم فرضوا الزكاة الإلزامية في المناطق
غير الخاضعة للشريف مباشرة. ويمكن أن نتصور مشاعر البدو أو سكان المدينة المنورة
الذين فقدوا مداخيلهم من الحج وصاروا مضطرين على تسديد الزكاة.
لقد تركت لشريف مكة مداخيله، ولكنها تقلصت كثيرا بسبب تقلص توارد
الحجاج وركود التجارة ومنع استحصال الرسوم من التجار الوهابيين، ناهيك عن الأثر
الذي تركة فيه فقدان الاستقلال السياسي. ولم تكن المشاركة في الغزوات لتبشر سكان
الحجاز عموماً بخير، فقد تعودوا الحصول على أسباب العيش بأساليب أسهل. ويكفي القول
أن سكان المدينة المنورة الذين كانوا يمتلكون جياداً قد باعوها فوراً لتفادي الاستدعاء
للخدمة في عساكر الوهابيين(125).
وكانت العادات الصارمة "النقية" التي استحدثت في مكة تتعارض
مع عادات ومفاهيم سكانها. إن الانتماء إلى الحرم الشريف قد ولد لدى سكان مكة شعورا
بالتفوق على سائر المسلمين، الأمر الذي قدم لهم تبريرات جاهزة للتسيب(126).
وكانت الأنظمة الجديدة تحظى بتأييد علماء الدين الأتقياء والمؤمنين
الصادقين، ولكنها كانت ثقيلة على أغلبية السكان. وكان ثقيلاً أيضاً الشعور
بالإهانة بسبب الخضوع للنجديين لأول مرة بعد قرون عديدة.
إن كل هذه العوامل الاقتصادية والسياسية والسيكولوجية قد أثارت في
الحجاز جو العداء والحقد على الوهابيين الذين كانت مكانتهم وسلطتهم تستندان إلى
القوة العسكرية فقط.
وكان بوسع أي دافع خارجي قوي أن يؤدي إلى بدء عملية تحلل الدولة
السعودية الأولى، في حين أن التناقضات التي كانت تفتتها من الداخل ببطء قد اكتسبت
طابعاً تدميرياً.
الفصل
الخامس
دحر الوهابيين على أيدي المصريين (1811 _ 1818)
مقدمات
لتوسيع الحملة المصرية على الجزيرة العربية. كان احتلال الوهابيين لمكة والمدينة
المنورة قد الحق ضرراً بسمعة السلطان العثماني سليم الثالث.فأن خليفة المسلمين
وسادن الحرمين الشريفين لم يكن قادراً على تأمين الحج لرعيته وهو واحد من أركان
الإسلام الخمسة.
وبعد الإطاحة بالسلطان سليم
الثالث حاول السلطان الجديد الذي كان في السابق لعبة في أيدي الإنكشارية إعادة
الحجاز مهما كلف الثمن إلى حظيرة
الإمبراطورية العثمانية، وأتضح إنه لا أمل في محاولات دفع والي بغداد ودمشق
إلى العمليات النشيطة ضد الوهابيين.
وكانت الإمكانية الواقعية الوحيدة لدحر إمارة الدرعية هي استخدام قوات
والي مصر الذي أخذ يتقوى.
وعندما ترسخت أقدام محمد علي
في مصر وصار والياً على القاهرة في عام 1805 . كلفه الباب العالي بمهمة
استعادة الحرمين من الوهابيين. كان الوالي
الجديد مشغولاً بتعزيز سلطته ومكافحة منافسيه والمماليك والدفاع عن مصر دون
الإنجليز ومهتماً بالإصلاحيات الداخلية فلم تكن لديه طوال عدة سنوات قوى كافية لمعالجة شؤون الجزيرة
العربية. ولكنه اعتباراً من نهاية عام 1809 أخذ يبدي اهتماماً جدياً بالتحضير
للحملة (1).
ولم تكن رغبة الباب العالي السبب الرئيسي الوحيد الذي دفع حاكم مصر
المستقل في الواقع للقيام بحملة طويلة الأمد وباهظة التكاليف على الجزيرة العربية
كان محمد علي يأمل من وراء تحرير الحرمين
الشريفين بتقوية سمعته في الإمبراطورية العثمانية كلها وبكسب شعبية كبيره. وكانت
خطط والي القاهرة، مثل خطط علي بك في حينه، تستهدف السيطرة على تجارة السلع
الهندية والبن اليمني التي تمر عبر جدة، ثم الاستيلاء على اليمن نفسه. وكان محمد
علي ينوي كذلك، من وراء الشعارات النبيلة لتحرير مكة والمدينة المنورة، إخراج
الجنود الذين نصبوه على دست الحكم في مصر ولكنهم تحولوا إلى قوة خطيرة للغاية
وصاروا يقيدون أعماله. وأخيراً فأن الباب العالي قد وعد، على ما يبدو، في مباحثات
غير رسمية بتسليم ولاية دمشق إلى أحد أبناء محمد علي حالما يتم تحرير مكة
والمدينة(2).
كان بضع مئات من العمال يمارسون بناء السفن في السويس، وحتى آذار
(مارس) 1810، كانت هناك تقريباً عشرون سفينة جاهزة(3).
ثم بنيت عدة سفن أخرى. وحول المصريون أحد مرافئ البحر الأحمر إلى قاعدة
رئيسية لتموين الحملة وعززوا القلاع في القسم الشمالي من طريق قوافل الحجاج من مصر
إلى الحجاز حيث أرسلوا إليها حاميات من الجنود المغاربة المرتزقة، ووزعوا الهدايا
على القبائل البدوية(4).
وفي الأول من آذار (مارس)، فتك والي مصر بالمماليك في قلعة القاهرة، ثم
استمر قتلهم في المدينة كلها. تمت تصفية منافسي محمد علي الخطرين في الوجه البحري.
وكانت الحرب في أوروبا قد أزالت مؤقتاً خطر اقتحام دولة من الدول
الأوروبية لمصر وساعدت على القيام بالحملة على الجزيرة العربية.
وعين لقيادة الحملة طوسون بن محمد علي وهو فتى شجاع كان ما يزال آنذاك
في السادسة عشرة أو الثامنة عشرة من العمر(5).
وبغية الحصول على تأييد شريف مكة غالب بدأ محمد علي مراسلات سرية معه.
ووعده الشريف بالتأييد. وكانت المعلومات التي حصل عليها رجال محمد علي تبعث على
الارتياح. فأن سكان الحجاز يكنون العداء للوهابيين وكأنما كانوا ينتظرون
"الأتراك" كمخلصين لهم. (في بادئ الأمر دخل محمد علي الجزيرة العربية وكأنما
نزولاً عند إرادة السلطان العثماني، لذا استقبل السكان جيشه بوصفه جيشاً تركياً).
وكانت مثل هذه المعلومات تتوارد على حاكم مصر من مصادر أخرى أيضاً، فقرر أن الوقت
قد حان(6).
هزيمة
طوسون في وادي الصفراء. في أواخر العقد الأول من القرن التاسع عشر لوحظ ضعف العمليات
الهجومية لِإمارة الدرعية. فبعد تدمير كربلاء والاستيلاء على الحجاز لم يحقق
الوهابيون انتصارات كبيرة. فقد ألحق الإنجليز المتحالفون مع أهل مسقط عدة هزائم
شديدة بالوهابيين في البر والبحر ومكنوا البحرين من الخروج على الدرعية. وقامت في
عمان تمردات متواصلة على الوهابيين.
وأدى الجفاف والقحط في الجزيرة العربية لسنوات عديدة وحتى عام 1809 إلى
إضعاف تحرك الدولة السعودية. ومما زاد في الطين بلة وباء الكوليرا الذي تفشى
آنذاك. ففي الدرعية وحدها كان يموت يومياً عشرات الأشخاص(7).
وكانت الخلافات في الأسرة الحاكمة تفتت سلطة السعوديين من الداخل.
إلا أن الدولة السعودية احتفظت ببعض جوانبها القوية. فإن تعصب
الوهابيين القتالي لم يستنفذ بعد. وكان أمراء الدرعية ما يزالون قادرين على
الاعتماد على مفارز صلبة من حضر نجد وبعض القبائل البدوية. ثم أن الطبيعة الصعبة في الجزيرة أخيراً كانت إلى
جانب الوهابيين في الكفاح ضد العدو الخارجي.
كان الجيش المصري المكون من المرتزقة الأتراك والألبان والمغاربة
مسلحاً بصورة جيدة، ولديه مدفعية. وكانت لدى العديد من قادته خبرة الحروب ضد
الفرنسيين والإنجليز وكانوا مطلعين على التكتيك الحربي الأوروبي. بيد أن الانضباط
والمعنويات عند الجيش لم تكن عالية آنذاك.
وفي آب (أغسطس) 1811، أرسل قسم من القوات المصرية إلى الحجاز بحراً
للاستيلاء على ينبع بواسطة الإنزال، بينما توجهت الخيالة بقيادة طوسون إلى هناك
براً. ويقول بوركهاردت أنه أرسل عن طريق البحر 1500 جندي، بينما وصل مع طوسون 800
فارس (يذكر عبد الرحيم أ. عبد الرحيم، استناداً إلى الارشيفات المصرية، إن عدد
الذين جاءوا معه ثلاثة آلاف، بمن فيهم البدو). ووصل مع طوسون واحد من أفضل القادة
العسكريين عند محمد علي وهو أحمد الملقب بونابرت، وكان بمثابة مستشار عسكري عنده
وكان هو القائد الفعلي.
وفي تشرين الأول ( أكتوبر ) من العام نفسه احتلت قوات الإنزال البحري
المصرية مدينة ينبع، ولم تكن فيها قوات وهابية، بل كانت هناك حامية صغيرة خاضعة
لشريف مكة ولم تبد في الواقع أي مقاومة (8). ونهب الجنود كل ما كان في ينبع
"من الودائع والأموال والأقمشة والبن وسبوا النساء والبنات الكائنات بالبندر
وأخذوهن أسرى ويبيعونهن على بعضهم البعض" (9). ومن المستبعد أن يحظى سلوك
الجنود هذا باستحسان السكان بيد إن المهمة الرئيسية للمرحلة الأولى من الحملة قد
نفذت فقد تم الاستيلاء على رأس جسر هام
لمواصلة العمليات ضد الوهابيين.
وفي تشرين الثاني (نوفمبر) وصل طوسون وخيالته إلى ينبع .ويقول أبن بشر
أن أكثر من 14 ألف شخص تحشدوا في ينبع(10). وحتى لو أخذنا في الاعتبار أن
بوركهاردت حاول التقليل بعض الشيء من تعداد القوات المصرية فأن عدم تطابق أرقامه
مع أرقام المؤرخ النجدي يثير الدهشة. ويبدو أن حاميات أخرى أرسلها محمد علي سابقاً
إلى القلاع على طريق القوافل قد التحقت بقوات طوسون في مسيرتها بالإضافة إلى بعض
البدو(11).
ظل طوسون عدة أسابيع في ينبع، وبعد أن وصلته إمدادات من مصر سار بقواته
نحو المدينة المنورة.
كان سعود مطلعا على استعدادات محمد علي الحربية، فقد أطلعه مخبروه في
القاهرة على أنبائها. ويبدو أن ذلك هو سبب اهتمامه المتواصل بتعزيز المدينة
المنورة. وعندما احتل طوسون ينبع عبأ سعود أفضل قواته وارسلها إلى الحجاز بقيادة أبنه عبد الله. وشغل
18 آلفا من الوهابيين، بمن فيهم 600 من الخيالة، مواقعهم عند وادي الصفراء على
منتصف الطريق بين ينبع والمدينة(12).
ونشبت المعارك الحاسمة في كانون الأول (ديسمبر). كان جيش طوسون يلاحق
قبيلة حرب التي لم يقم معها علاقات ودية فدخل في ممر جبلي ضيق قرب وادي الصفراء
وتعرض لضربات قوات الوهابيين المختارة التي لم يكن لطوسون أي علم بوصولها. وفر
الجيش المصري البالغ تعداده 8 آلاف شخص. ولم تنقذ الموقف بسالة طوسون شخصياً. فقد
دُمرت قواته تدميراً وفقدت نصف أفرادها. ولم ينقذ المصريين من الهلاك عن بكرة
أبيهم إلا انشغال الوهابيين بنهب المعسكر الذي تركوه، فعادت إلى ينبع بقية ضئيلة
من قوات طوسون إلا أن الوهابيين لم يهاجموا هذه المجينة. فظل المصريون يحتفظون
بأهم رأس جسر(13).
ووصف الجبرتي سلوك جنود طوسون حالما لاحت أولى علامات الهزيمة:
"فما يشعر السفلانيون إلا العساكر اللذين في الأعالي هابطون منهزمون فانهزموا
جميعاً وولوا الأدبار وطلبوا جميعاً الفرار وتركوا خيامهم وأحمالهم وأثقالهم
وطفقوا ينهبون ويخطفون ما خف عليهم من أمتعة رؤسائهم فكان القوي منهم يأخذ متاع
رفيقه الضعيف ويأخذ دابته ويركبها وربما قتله وأخذ دابته وساروا طالبين الوصول إلى
السفن بساحل البريك لِأنهم كانوا أعدوا عدة مراكب بساحل البريك من باب الاحتياط
ووقع في قلوبهم الرعب واعتقدوا أن القوم في أثرهم والحال أنه لم يتبعهم أحد لأنهم
لا يذهبون خلف المدبر ولو تبعوهم ما بقي منهم شخص واحد فكانوا يصرخون على القطائر
فتأتي إليهم القاطرة وهي لا تسع إلا القليل فيتكاثرون ويتزاحمون على النزول فيها
فيصعد منهم الجماعة ويمنعون الباقي من إخوانهم فأن لم يمتنعوا منعوهم بالبنادق
والرصاص…"(14).
كان الجبرتي من الأزهريين المعارضين لمحمد علي. وقد قدم توضيحاته
لأسباب هزيمة القوات المصرية: "وقد قال لي بعض أكابرهم الذين يدعون الصلاح
والتورع أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة وفيهم من لا يتدين بدين ولا
ينتحل مذهباً وصَحَبَتْنا صناديق المسكرات ولا يسمع في عرضينا آذان ولا تقام به
فريضة ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين والقوم إذا دخل الوقت أذّن
المؤذنون وينتظمون صفوفاً خلف أمام واحد بخشوع وخضوع وإذا حان وقت صلاة الخوف
فتتقدم طائفة للحرب وتتأخر الأخرى للصلاة وعسكرنا يتعجبون من ذلك لأنهم لم يسمعوا
به فضلاً عن رؤيته وينادون في معسكرهم هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون
المستبيحين الزنا واللواط والشاربين الخمر والتاركين للصلاة الأكلين الربا
القاتلين الأنفس المستحلين المحرمات(15).
وبالإضافة إلى الأسباب العسكرية الصرف _ عنصر المباغتة عند الوهابيين
وسوء المواقع عند القوات المصرية، وتدهور معنويات جنود طوسون _ لعب دوراً كبيراً
عجزه في تلك الفترة عن إقامة علاقات ودية مع القبائل البدوية المحلية. فإن قوات
طوسون مرت بمناطق كان سكانها حلفاء للوهابيين ولم يقرروا بعد مهاجمتهم.
احتلال
الحجاز.
كان تصحيح الأوضاع قد تطلب استمالة شيوخ البدو المحليين. وتطلب ذلك أموالاً.
وسرعان ما وصلت تلك الأموال من مصر.
كتب قنصل روسيا في مصر ش. روسيتي: يقول "إن استمرار تصدير الأطعمة
من هنا (من الإسكندرية إلى مالطة وأسبانيا يقدم له (لمحمد علي) وسيلة لسد العجز في
خزينته ويمكنه من إنفاق الأموال على استئناف هذه المدينة… وعلى الاستعدادات الهامة
للحملة على عبد الوهاب. والحال تصل من تركيا إلى الإسكندرية بلا انقطاع قوات جديدة
يرسلها هو بفصائل صغيرة إلى ينبع عن طريق السويس. ويقال إن عبد الوهاب يتخذ من
جانبه إجراءات نشيطة لمواجهة هذه الحملة الجديدة. ويوجد خلاف شديد بين عبد الوهاب
المذكور وشريف مكة…"(16).
وكتب ش. روسيتي كذلك عن الإشاعات الدائرة عن الاستعداد للحرب بين فرنسا
وروسيا وكان ذلك قد ساعد والي القاهرة في
العمل دون أن يعبأ كثيراً بالدول الأوروبية.
ووصلت "إلى ينبع إمدادات جديدة ومعدات حربية، واجتذب طوسون
بالهدايا الكبيرة شيوخ قبائل جهينة وحرب وكثيراً من الحضر. وخصص راتباً شهرياً لكل
شيخ من شيوخ القبائل(17). كان التذمر من الوهابيين في الحجاز قد تحول من زمان إلى
حقد، ولذلك أخذت سياسة طوسون هذه تعود بثمارها.
وفي خريف 1812، توجه طوسون على رأس قوات كبيرة نحو المدينة المنورة
واقترب منها في تشرين الأول (أكتوبر) دون أن يواجه مقاومة في الطريق(18). وكانت
حامية من الوهابيين بسبعة آلاف شخص تدافع عن المدينة، إلا أن المرض، كما يقول أبن
بشر، أصاب قسماً كبيراً من الجند. ولم يكن سكان المدينة راغبين في القتال إلى جانب
الوهابيين.
وأخذ طوسون يقصف المدينة بالمدفعية
ففتحت الانفجارات ثغرات في أسوارها. واستسلمت المدينة المنورة. والتجأت حامية
الوهابيين إلى قلعة المدينة، ولكن الجوع أرغمها على ترك القلعة بعد ثلاثة أسابيع
في تشرين الثاني (نوفمبر). ووعد طوسون بالسماح بجلاء بقايا الحامية الوهابية بشروط
مشرفة(19). ويقول منجين إن جنود طوسون تصرفوا تصرفاً نبيلاً(20). إلا إن بوركهاردت
المطلع عن كثب على سير الحملة يقول أن هؤلاء الجنود قتلوا ونهبوا في الطريق أغلبية
الوهابيين (21 ). وارسلت إلى القاهرة 4 آلاف أذن اقتطعت من الوهابيين واعدت
لإرسالها إلى الأستانة (22). وانتقل آغا المدينة المنورة حسن إلى صف المصريين
ولكنه اعتُقِل ونُفي إلى الأستانة حيث أُعدِم. وعُين حاكماً للمدينة بدلاً منه
توماس قيس وهو اسكتلندي أُسر في مصر واعتنق الإسلام (23).
ولعب الشريف غالب على حبلين. فقد كان
مسروراً لهزيمة الوهابيين وكان يأمل في التخلص من ظلمهم بمساعدة المصريين. إلا أنه
لم يكن راغباً في تقوي مواقع والي القاهرة في الحجاز لدرجة كبيرة. وكان افضل ما
يُناسب غالب هو استنزاف القوات المصرية وقوات الوهابيين وعودة السلطة الفعلية في
الحجاز إليه.
وهاهو يقسم الولاء من جديد لسعود
الذي أدى فريضة الحج آخر مرة في نهاية عام 1812(24)، ويستعد لتسليم مكة وجدة إلى
قوات والي القاهرة. وفي تلك الفترة كان معسكر قوات عبد الله يرابط ليس بعيداً عن
مكة. إلا إن مصنفات أبن بشر والمصادر الأخرى لا تشير إلى قيام الوهابيين
باستعدادات ما لعمليات حربية. ولم تكن سلبية سعود وأبنه تعني بأنهما لم يفهما مدى
الخطر الذي يتهددهُما. ولا يمكن أن يُفسر سكوتهما إلا بالحالة الداخلية للدولة
الوهابية وعدم الاستقرار في المؤخرة وعدم أمانة البدو.
وفي كانون الثاني (يناير) 1813، أحتل
فصيل مصري غير كبير مدينة جدة بلا قتال. وخوفاً من تلقي ضربة غادرة من غالب سحب
عبد الله الحامية الوهابية من مكة وانسحب بجيشه كله إلى الخرمة. وفر عثمان
المضايفي وعائلته من الطائف. وسقطت مكة، والطائف بعد بضعة أيام، ووقعتا في يد
طوسون بلا قتال(25). وأعلن غالب، وعلى أثره قبائل الحجاز البدوية، الولاء للأسياد
الجدد.
وانتزع المصريون الحجاز من الوهابيين
بدون جهود حربية كبيرة رغم هزيمتهم الفادحة ولعب الدور الحاسم في انتصارهم عداء
الحجازيين لأمير الدرعية وللوهابية وكذلك الذهب المصري الذي وزع بسخاء على وجهاء
وأعيان البدو وعلى البدو أنفسهم، وأخيراً انتقال شريف مكة إلى جانب والي القاهرة.
وبمناسبة احتلال المدينتين المقدستين
أقيمت في القاهرة احتفالات صاخبة أطلقت فيها نيران المدافع وأجرت الألعاب النارية.
وتوجه رسول من محمد علي إلى الأستانة يحمل مفاتيح مكة والمدينة المنورة وجدة.
وكتبت السفارة الروسية من الأستانة تقول: "حضر جميع أعضاء الحكومة العثمانية
لاستلام المفاتيح في مسجد أيوب، ومن هناك نقلت إلى السلطان في السراي. وفي ذلك اليوم
دوت ثلاث مرات صليات المدفعية من جميع بطاريات المدينة والأسطول ومضيق البحر
الأسود احتفالاً بهذا الحادث. واستمرت الاحتفالات سبعة أيام"(26). وعين
السلطان العثماني طوسون والياً لجدة، واستلم محمد علي والشريف غالب هدايا ثمينة من
السلطان(27).
ولم تعد الأشهر التالية على المصريين
بما يفرحهم. ففي ربيع وصيف 1813، قام الوهابيون بغزوتين موفقتين على الحجاز. وظهر
سعود بنفسه قرب المدينة المنورة مع أنه لم يتمكن من احتلالها. وهجم أهالي عسير
الذين ظلوا موالين للوهابيين على الفصائل المصرية قرب أسوار مكة وجدة تقريباً.
وفقد جيش الاحتلال المصري بسبب
الإرهاق والحر والأمراض المتواصلة الناجمة عن سوء التغذية وتلوث المياه عدداً من
الجنود أكبر مما فقده في المعارك. ويقول منجين أن جيش والي القاهرة فقد خلال هذه
الحملة 8 آلاف شخص و 25 ألف جمل. وكان هلاك دواب الركوب والنقل قد حرم المصريين من
إمكانية المناورة والمسيرات البعيدة وإيصال العتاد والذخيرة والأغذية في الوقت
اللازم. وبدأت آمال البدو في والي مصر تخيب، وصاروا يتعاونون مع قواته على
مضض(28).
وفي خريف 1813، ابتسم الحظ لطوسون من
جديد. فقد قام القائد العسكري الوهابي عثمان المضايفي بغارة على الطائف ولكنه مني
بالهزيمة وفر. وقبض عليه بدو عتيبة وسلموه إلى غالب(29). ثم أرسل إلى القاهرة
ومنها إلى الأستانة حيث أعدم.
سياسة
محمد علي في الحجاز. كان حاكم مصر يدرك أن الوهابيين لم ينتهوا رغم احتلال الحجاز. فقرر أن
يتوجه شخصياً إلى الجزيرة العربية ويدرس الموقف هناك، ويؤدي فريضة الحج في الوقت
نفسه. وفي خريف 1813، وصل محمد علي مع بضعة آلاف من الجنود إلى جدة(30).
واستقبله غالب. وعاهد أحدهما الآخر بالصداقة، وأقسما على ذلك في
الكعبة، إلا أن خلافاً جدياً كان يختمر بين الوالي والشريف.
كان مركز شريف مكة قوياً بحيث لا يسمح بالتطاول السافر على سلطته. وكان
مبعث قوته وجود بضعة آلاف من العبيد المسلحين والجنود المرتزقة والحجازيين
الموالين له وسيطرته على قلعة مكة(31). إلا أن الوالي الداهية اعتقل غالب غدراً في
أواخر عام 1813 بزعم أن السلطان طلب ذلك وأرغم محمد علي شريف مكة تحت تهديد الموت
على أن يصدر أمره إلى أبنائه ليكفوا عن المقاومة، وبعد ذلك نفاه مع عائلته كلها
إلى القاهرة. وعين محمد علي بدلاً منه صنيعته يحيى بن سرور وهو من أقرباء الشريف
غالب وصادر أموال الشريف من نقود وأثاث وبضائع وبن وتوابل بلغت قيمتها ما يعادل
250 ألف جنيه إسترليني.
إلا إن السلطان أمر بإعادة قسم من تلك الأموال إلى الشريف غالب الذي
أقام في سالونيكي وتوفي فيها بعد بضع سنوات (32).
لقد فاز محمد علي دون شكك من حيث الهدف البعيد الذي يتلخص في إخضاع
الحجاز بصورة تامة. فقد جرد شريف مكة من السلطة والنفوذ وأستبعد احتمال انتقال
غالب إلى صف الوهابيين. ووضع يده على
مداخيل الشريف السابقة كلها تقريباً وساعد ذلك على تمويل الحملة الباهظة. وأخيراً
حرم الباب العالي من إمكانية الاستفادة من التناقضات بينهُ وبين غالب.
إلا أن النتيجة المباشرة لغدر محمد علي تجلت في غضب سكان الحجاز
،وخصوصاً البدو، ولجوء الكثير من عوائل الوجهاء إلى الوهابيين خوفاً من التنكيل
ومشاركتها في الحرب إلى جانب الوهابيين. وكان من بين هؤلاء الشريف راجح وهو قائد
عسكري شجاع.كما لجأ إلى الوهابيين جزء من حرس غالب (33).
ومن الناحية العسكرية كان الإخفاق يلاحق محمد علي في بادئ الأمر. ففي
أواخر 1813وأوائل 1814 مُنيت قواته بالهزيمة في تربة والقنفذة.
وعندما استولى الإنزال البحري على مدينة القنفذة قتل الجنود كثيراً من
السكان العزل وقطعوا آذانهم لإرسالها إلى الأستانة كدليل على البسالة في القتال.
وقال ج.فيناتي الذي شارك في هذا الإنزال إن الجنود كانوا أحياناً يقطعون آذان
الأحياء لكي يحصلوا على المكافأة الموعودة(34).وتوحد السكان المحليون الغاضبون
بسبب ذلك حول طامي أمير عسير الذي حاصر القنفذة وقطع عنها مياه الآبار الموجودة
حولها ثم بدأ الهجوم بعد أن استنزف قوى المحاصرين. وفر الجنود إلى السفن في هرج
ومرج. وقتل الكثيرون منهم وغرق آخرون أو هلكوا في الطريق بسبب العطش(35).
كان محمد علي يدرك أنهُ إذا لم يحقق نصراً حاسماً في الجزيرة العربية
فإن مكانتهُ في مصر سوف تتزعزع، ولذا بدأ باتجاه إجراءات عاجلة لِمواصلة
الحملة. وفرضت ضرائب إضافية على الفلاحين المصريين،
ووصلت إلى جدة إمدادات جديدة وذخيرة وعتاد وأغذية. فصارت المدينة بمثابة مستودع
رئيسي. ووصلت عدة مئات من الخيالة من بدو ليبيا الموالين لمحمد علي باشا. وكانوا
سنداً ثميناً له لأنهم متعودون على العمليات في الظروف الصحراوية. وازدادت وسائط
النقل بآلاف الجمال التي اشترى محمد علي بعضها من الشام وجلب البدو الليبيون بعضها
الآخر. واتفق محمد علي مع أمام مسقط حول إرسال السفن لنقل القوات(36).
واتخذت خطوات لتحسين العلاقات مع السكان المحليين. وألغى محمد علي بعض
الإتاوات المرهقة جداً وقلص الرسوم الجمركية في جدة. ووزع النقود على المحتاجين
ورمم الكعبة وقدم الهدايا لعلماء الدين وكشف خصيصاً عن ورعه وتدينه. وأمر جنوده
بأن لا يمارسوا النهب والتنكيل وأن يدفعوا ثمن ما يأخذونه من أغذية. وتغير موقف
الحجازيين من قوات محمد علي نحو الأفضل(37).
إلا أن الأمر الرئيسي يتلخص في استئناف الحج. فقد استلم البدو نقوداً
من قافلة الشام بعد أن كانت السلطات العثمانية لا تدفع شيئاً منذ عشر سنوات. وأسفر
توارد عشرات الآلاف من الحجاج عن ازدهار أحوال سكان الحجاز من جديد(38).
وكانت وفاة أمام الدرعية سعود في ربيع 1814(39) قد أفادت والي مصر. فأن
موهبة سعود كقائد عسكري ورجل دولة معروفة للجميع. ولم يبخل أبن بشر بالكلمات في
مدحه، فرسم له صورة الحاكم المثالي التي وردت أوصافها في الكثير من الروايات
الشفهية وفي الأدب العربي. ويقول المؤرخ أن سعود كان محبوباً عند الرعية. وكان جيد
الإطلاع على الكتاب والسنة بفضل تعلمه على يد محمد بن عبد الوهاب. وقد كافح في
سبيل الإسلام وخاصة الجهاد ببسالة. وكتب وصايا للرعية أدهشت الجميع بعمق معرفة
الفقه، ودلل على أفكاره بآيات من القرآن وأقوال من الحديث ومقتطفات مما كتبه أشهر
الفقهاء. ودعا إلى الامتناع عن المحظورات: الزنا والنميمة والافتراء والأكاذيب
والربا. وكان متواضعاً ورعاً سخياً وكان بسيطاً في معاملة المقربين أليه. كان
فطيناً حاد الذكاء وقد حظي بإعجاب كبير وشعبية واسعة(40).
في فترة وفاة سعود كان الوهابيون قد فقدوا الحجاز كله وعمان والبحرين
وقسماً من تهامة. وتسلم أبنه عبد الله دولة انتابها الخراب. وبعد أن قهر مقاومة
المتذمرين ثبت مركزه على العرش وأخذ يستعد لموصلة الحرب ضد جيش محمد علي. وتشير
أغلبية المؤرخين إلى أن عبد الله كان محارباً شجاعاً، ولكنه أقل من والده من حيث
الدهاء السياسي والمرونة وسائر خصال رجال الدولة. وربما كان في هذا القول بعض
الحق. فالتاريخ يدين المغلوبين بوصفهم غير موهوبين، مع أن الملابسات كانت في كثير
من الأحيان أقوى منهم.
انتصار
المصريين في معركة بسل وتقدمهم نحو عسير. أخذت سياسية محمد علي في الحجاز
تؤتى ببعض الثمار. فقد تمكن من تحسين العلاقات مع البدو. والدليل على ذلك ما قاله
أبن بشر من أن عبد الله هاجم مراراً القبائل البدوية الحجازية المالية لمحمد علي.
واضطر أمام الدرعية إلى القيام بحملة تنكيلية ضد بدو مطير أيضاً(41). وفي أواخر
عام 1814، تمكن محمد علي من الاتصال مع الشريف راجح وإقناعه بالعودة للخدمة عنده
ودفع له مبلغاً ضخماً.
وحتى ذلك الوقت، صارت لدى محمد علي قوات كافية. ويقدر بوركهاردت تلك
القوات بـ 5 آلاف شخص، ولكن محمد علي كان يعتقد بأن لديه 20 ألفاً(42). ويبدو
أن الرقم الحقيقي هو بين هذا وذاك.
وفي أواخر 1814 وبداية 1815، حشد الوهابيون في بسل، على مقربة من تربة،
جيشاً بلغ 30 ألفاً كما يقول أبن بشر، و 20 ألفاً كما يقول بوركهاردت. وأكثر من
نصفه أحضره طامي بن شعيب من عسير. وترأس بلك القوات الموحدة فيصل شقيق عبد الله.
توفي كانون الثاني (يناير) 1815 نشبت معركة انتصرت فيها قوات محمد علي المتحالفة
مع البدو. ودفع محمد علي 6 ريالات مقابل كل قتيل من الأعداء. واحتفل محمد علي
بالنصر حيث اعدم في مكة مئات الأسرى. وبلغت خسائر الوهابيين عدة آلاف.
ثم احتلت قوات محمد علي تربة ورنية وبيشة. ووصل المصريون إلى ساحل
البحر الأحمر واستولوا على القنفذة. وجرى تسليم زعيم عسير طامي بن شعيب إلى محمد
علي الذي أرسله إلى مصر ثم إلى الأستانة حيث أًعدم. وكان محمد علي ينصب على
القبائل البدوية في كل مكان أًناساً طائعين له(43). وبنتيجة العمليات الحازمة التي
شنها محمد علي جرى دحر الوهابيين في عسير وفي المناطق الهامة من الناحية
الإستراتيجية بين الحجاز ونجد وعسير.
وبعد عدة أشهر، عاد محمد علي إلى مصر حيث وصلته أنباء عن القلاقل.
وبالإضافة إلى ذلك كان محمد علي، بعد احتلال الحلفاء لباريس، يخشى من إنزال جديد
يقوم به الإنجليز على مصر أو من هجوم الأتراك(44).
دخول
طوسون القصيم والصلح مع عبد الله. لم تكلل بالنجاح محاولة طوسون الأولى لدخول القصيم. فقد عاد
أدراجه عندما علم بظهور عبد الله مع قوات كبيرة. إلا أن التذمر في القصيم من سلطة
الوهابيين قد أشتد. واتصل وجهاء الرس بطوسون ووعده بالمساعدة إذا دخل القصيم.
وتحرك طوسون بلا إبطاء مع عدد غير كبير من القوات نحو مدينة الرس ودخلها. ودمر هنا
قسماً من التحصينات وفرض الضرائب على السكان ونصب معسكراً على مقربة من المدينة
مؤّمناً تزويد الجيش بالأغذية على حساب السكان المحليين. فلم يتمكن من تأمين المؤن
من المدينة المنورة بصورة منتظمة.
وكانت قوات عبد الله مرابطه في عنيزة. وقام الوهابيون بهجمات متفرقة
باتجاه الرس وكانوا يستولون على قسم من القوافل القادمة من المدينة المنورة. فقد
وقع فصيل الإمدادات الذي قاده توماس قيس
في كمين نصبه الوهابيون وأبيد(45). واستمرت العمليات الحربية سجالاً طوال
عدة أشهر حتى صيف 1815.(46).
غدت حالة طوسون عصيبة للغاية. فأن ضغط الوهابيين الشديد كان يمكن أن
يدمره. بيد أن قوى عبد الله لم تكن كافية على ما يبدو، ثم أنه كان يخشى تمرد أهل
القصيم في مؤخرته. وتم توقيع الصلح بشروط تعكس توازن القوى المترجرج هذا.
ونص الاتفاق على توقف العمليات الحربية. وترك جيش طوسون القصيم وكف
المصريون عن التدخل في شؤون نجد. وتأكد ضمان حرية التجارة والحج للجميع. وأورد أبن
بشر وبوركهاردت كلاهما هذه المعلومات عن الاتفاقية. إلا أن الرحالة بوركهاردت أورد
بضعة شروط أخرى من الاتفاقية: يجب أن تخضع لعبد الله كل القبائل المتواجدة شرقي
الحناكية. ويقول بوركهاردت كذلك أن عبد الله وافق على اعتبار نفسه من رعية السلطان
العثماني. ويؤكد المؤرخ المصري المعاصر أ.عبد الرحيم هذه الحقيقة استناداً إلى
وثائق من أرشيفات القاهرة(47).
ووصل مبعوثو عبد الله مع طوسون إلى القاهرة، خريف 1815(48).
وبعد انسحاب طوسون أخذ عبد لله ينحي أمراء القصيم الذين أبدوا ترددا
أثناء وجود الفصيل المصري في الرس، أو الذين تعاونوا مباشرة مع طوسون، وبدأ
كذلك عمليات تأديبية ضد بدو حرب ومطير
الذين خانوا العهد.
وإلى الجنوب من ذلك، في مناطق بيشة وتربة ورينة التي كانت، باعتقاد
بوركهاردت، مستثناة من الاتفاقية بين عبد الله وطوسون، استمرت الصدامات بين
الوهابيين والقوات المصرية(49).
وأثارت أعمال عبد الله التذمر في القصيم، ناهيك عن البدو، فأرسلت شكاوى
إلى محمد علي. وفي المراسلات التي جرت بين عبد الله وبين محمد علي وأبنه وردت
إشارات متكررة إلى خرق الوهابيين لشروط الاتفاقية(50).
ارتفعت منزلة محمد علي في الإمبراطورية العثمانية بفرض سيطرة مصر على
الحجاز. وأخذ محمد علي يطالب الباب العالي بتسليمه الشام على سبيل المكافأة عن
الانتصارات في الحجاز. ولذا أصبحت أكثر إلحاحاً بالنسبة له مهمة تثبيت أقدامه في
الحجاز وفي الجزيرة العربية عموماً بتقويض الدولة السعودية الأولى نهائياً(51).
احتلال
نجد من قبل إبراهيم باشا. عين إبراهيم الابن الأكبر لمحمد علي لقيادة الحملة هذه المرة.
وظلت معروفة إحدى الطرائف التي قيلت بمناسبة تعيين إبراهيم قائداً للحملة الجديدة.
يقال أن محمد علي جمع قواده العسكريين في القاهرة قبيل بدء الحملة ليناقش معهم خطة
العمليات. ثم أشار محمد علي إلى تفاحة موجودة وسط سجادة كبيرة مفروشة في القاعة.
وقال: من يحضر هذه التفاحة ويسلمها لي دون أن يمس السجادة برجليه سيقود القوات. انبطح
المقربون إلى الوالي على الأرضية ولكنهم لم يبلغوا التفاحة. وعند ذلك اقترب أبنه
إبراهيم، وهو قصير القامة، من السجادة فطواها وبلغ التفاحة وسلمها إلى أبيه. وهكذا
لمحَّ لأبيه، كما يقال، إن القوات المصرية تحت قيادته سوف تطوي "سجادة"
بوادي الجزيرة في البداية بتأمين المواصلات والعلاقات الطيبة مع السكان
المحلين(52).
كانت مثل هذه المبادئ بالفعل أساساً للسياسة المصرية في الجزيرة
العربية أثناء حملة إبراهيم. فقد كان يفهم جيداً أن التوغل في أعماق الجزيرة
مستحيل بدون مساعدة البدو، لذا سعى إلى اجتذابهم. ولهذا الغرض ألغى إبراهيم الزكاة
الوهابية على البدو، وراح يدفع المال نقداً لقاء كل الخدمات. إلا أن فلاحي مصر هم
الذين دفعوا ثمن انتصارات إبراهيم.
كان إبراهيم عارفاً بمدى العداء الذي خلفته تصرفات وتعسف جنوده
المتباينين في الحجاز، لذا حاول أن يترك انطباعاً طيباً عند الأعراب بورعه وتقواه
ونبله وإيفائه بالوعد. وقد قطع بكل حزم دابر أي أعمال للعنف ضد السكان المحليين
إلى أن تم تدمير الدرعية.
في تلك الأثناء أصاب الضعف دولة السعوديين. وكانت القبائل البدوية
الرئيسية مستعدة في أي لحظة لتقلب لها ظهر المجن. وابتعد وجهاء وأعيان واحات وسط
الجزيرة عن الوهابيين بسبب التوقف التام تقريباً في مسيل الثروات المنهوبة. وكان
السكان الحضر يتذمرون من الحروب المتواصلة الطويلة الأمد والإتاوات التي لا تنقطع.
ولم تكن منزلة عبد الله رفيعة كمنزلة أبيه سعود. ولم يبق سنداً لأمراء الدرعية في
كل مكان إلا علماء الدين الوهابيون.
وما كان بوسع المصريين أن يرسلوا إلى نجد قوات غفيرة. إلا أن جنودهم
صاروا يختلفون عن أولئك الذين قاموا بالإنزال في الحجاز قبل ست سنوات. فهم الآن
يجيدون تدبير حصار القلاع وبناء الطوابي الحامية من الهجمات المباغتة واستخدام
المدفعية بمهارة ليست قليلة. وكان مع إبراهيم مدربون من جيش نابليون وأطباء
أوروبيون(53).
إما عساكر عبد الله فقد ظلت على غرار المتطوعة العشائرية والحضرية كما
كانت سابقاً. وكان الوهابيون متخلفين عن المصريين من حيث الأعداد الحربي. صحيح
أنهم كانوا يقاتلون في ظروف مناخية تعودوا عليها ويدافعون هذه المرة عن ديارهم
ونخيلهم وحقولهم، إلا أن وطنيتهم النجدية لم تكن قوية، وكانت المشاعر التي يكنونها
لآل سعود آنذاك متعارضة.
ويبدو أن عبد الله كان يدرك تعقد الموقف بالنسبة له. كان ينوي دحر
المصريين في معركة مكشوفة، وفي حالة الاخفاق كان يريد أن يرغمهم على محاصرة واحة
محصنة بعد أخرى وينسحب إلى وسط نجد. وكانت صعوبات الحملة وسط الجزيرة البعيد عن
قواعد التموين لا بد أن ترغم المصريين، كما يعتقد على التخلي عن نيتهم في احتلال
نجد.
وفي خريف 1816، وصل إبراهيم إلى المدينة المنورة مع قوات كبيرة. وجاءته
من مصر قوات جديدة وأغذية ومعدات. واجتذبت إبراهيم القبائل في ضواحي المدينة لعمل
معه وبدأ زحفه البطيء على نجد. وبعد أن احتل الحناكية أنشأ فيها معسكراً محصناً.
ودعا أليها زعماء القبائل
المجاورة وقدم لهم الهديا واستعرض جيشه أمامهم. وفي تلك الأثناء وصل من الأستانة نبأ
منحة لقب باشا. وكان ذلك بمثابة مغازلة لمشاعره لا أكثر، فهو لا يعني أي دعم له.
وفي تلك الأثناء، كانت القبائل البدوية تبتعد عن عبد الله الواحدة تلو
الأخرى.
فأن زعيم مطير فيصل آل دويش، مثلاً، جاء إلى إبراهيم وعرض عليه خدماته
مقابل تعيينه فيما بعد أميراً للدرعية. ووصل عبد الله إلى القصيم وهاجم المصريين
ولكنه مني بهزيمة. وقتل كثيرون من الوهابيين واقتطعت آذانهم وأرسلت إلى القاهرة.
وفي صيف 1817، أقترب إبراهيم من الرس وبدأ حصاراً استمر عدة أشهر،
ودافع المحاصرون عن أنفسهم ببسالة. ويمكن الافتراض من ضراوة المعركة أن عبد الله
الذي يفهم الأهمية الإستراتيجية للرس قد ترك هناك أفضل ما كان متوفراً لديه. وخلال
الحصار الطويل لمدينة الرس كان عبد الله على مقربة منها دون أن يتمكن من نجدتها
بشكل فعال. ولم تتمكن من دخول المدينة عبر المعارك إلا قافلتان وهابيتان.
وبلغت خسائر إبراهيم ثلاثة آلاف وخمسمائة شخص. وأغلبهم بسبب الأمراض.
فالحصار في أوج الصيف، مما زاد في الصعوبات أمام جيش إبراهيم. ولكنه كان يتمتع
بمزايا المدفعية ومختلف آلات الحصار والقيادة الماهرة. والأمر الأهم أنه استلم
إمدادات. فأن عبد الله لم يتمكن من قطع طرق التموين. وكان للذهب المصري الذي وزعه
إبراهيم بسخاء ولإلغاء الزكاة على البدو أثر كبير بهذا الخصوص.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) استلمت الرس بشروط مشرفة. والتحقت حامية
الوهابيين المتبقية حاملة أسلحتها بقوات عبد الله(54). وحسبما يقوله ج. سالير كان
مصير الرس يختلف بعض الشيء. فالمدينة لم تستسلم، بل وعدتا بالاستسلام للمصريين بعد
أن يحتلوا عنيزة(55).
كان يقود الدفاع عن عنيزة أشخاص من أقرباء أمام الدرعية. وكانت حامية
الوهابيين مزودة بالمؤن والذخيرة بصورة جيدة. ولكن المدينة احتلت بعد عدة أيام من
الحصار، واستسلمت حاميتها بشروط مشرفة. والتحق المحاربون الوهابيون حاملين السلاح
بعبد الله(56).
ولم يحاول أمام الوهابيين إبداء مقاومة أكثر لجيش إبراهيم في سوح
مكشوفة. فأن احتياطات مصر تحمي ظهر إبراهيم. وكان هجومه بطيئاً، ولكنه لا مرد له.
وبعد عنيزة استسلمت بريدة، وفي أواخر عام 1817 أعلنت القصيم كلها عن خضوعها
لإبراهيم(57). وكتب إبراهيم باشا لأبيه أن كل سكان المنطقة يكرهون حجيلان أمير
بريدة العجوز وكذلك عبد الله(58).
في البداية انسحب عبد الله إلى شقراء حيث كان يجري على جناح السرعة
بناء المنشآت الدفاعية، وبعد ذلك انسحب إلى الدرعية.
ظل إبراهيم في بريدة حولي الشهرين لاستلام الامدادات. ثم تحرك نحو
شقراء. وذكر منجين أن عدد قوات إبراهيم قليل جداً _ ألف جندي. ويبدو أن هذا الرقم
أقل مما في الواقع. وبعد ذلك ذكر منجين الرقم 4500 جندي دون أن يوضح ما إذا كان
البدو بضمنهم أم لا. ولكن الحقيقة هي أن إبراهيم تمكن من قهر نجد بقوات قليلة
نسبياً. إلا أن حملته على شقراء شارك فيها بدو مطير وحرب وعتيبة وبنو خالد. وكان
أولئك من البدو الذين كانوا آخر من خضع للوهابيين وأول من قلب لهم ظهر المجن. وكتب
أبن بشر بمرارة يقول أنه سار مع إبراهيم كثير من زعما القبائل ووجهاء الواحات في
نجد بأمل الغنيمة والاستقلال المرتقب، ولكن آمالهم خابت بعد سقوط الدرعية أشد
خيبة(59). فعندما ترك إبراهيم المدن التي أحتلها كان يدمر في البداية كل التحصينات
ويأخذ رهائن معه(60).
وفي كانون الثاني (يناير) وصل إبراهيم إلى ضواحي شقراء. وبعد القصف
المدفعي بدأ اقتحام المدينة. وسقطت شقراء بعد عدة أيام. وأطلق سراح حاميتها بعد أن
جرد أفرادها من السلاح ووعدوا بأنهم لن يشاركوا في الحرب. واستولى إبراهيم على
الوشم كلها(61). ثم احتل سدير والمجمعة بلا قتال في الواقع، وأعلنت حريملا والمحمل
عن خضوعهما(62).
وتحرك إبراهيم من شقراء إلى ضرمى التي كان يدافع عنها محاربون أشداء من
الخرج. ورغم القصف المدفعي واستخدام تكنيك الحصار لم يتمكن إبراهيم باشا من إرغام
الحامية على الاستسلام. إلا أن القوى لم تكن متعادلة. واقتحم جنود إبراهيم المدينة
ونكلوا بأهلها جزاء لهم على المقاومة، وقطعوا آذان القتلى، كما هي العادة،
وأرسلوها إلى القاهرة. ونهبوا المدينة عن آخرها. وجرى ذلك في شباط (فبراير) _ آذار
(مارس) 1818(63). وبذلك فتح الطريق نحو الدرعية.
سقوط
الدرعية. في نيسان (إبريل) جرى المشهد الأخير من فاجعة الدولة السعودية الأولى.
فقد بدأت معركة الدرعية. ومع أن واحات ومدن نجد سقطت الواحدة تلو الأخرى في يد
الغازي المصري، إلا أنه كان في كل منها وهابيون راسخوا العقيدة رفضوا حتى فكرة
التعايش سلمياً مع "المشركين" وظلوا مخلصين حتى النهاية لآل سعود.
وتقاطروا على الدرعية للمشاركة في المعركة
الأخيرة.
وواجهت القوات المصرية فصائل من العاصمة والواحات الأخرى في وسط
الجزيرة. وقاد هذه الفصائل ثلاثة من أشقاء عبد الله، وهم فيصل وإبراهيم وفهد.
وكانت في الدرعية قوات من منفوحة بقيادة العقيد الشجاع عبد الله بن مزروع وكذلك
فصائل من حريق و سدير. وكان كهول من سكان العاصمة يدافعون عن مراكز الإسناد
الصغيرة. وكانت هناك مفارز تحت قيادة أبناء آل سعود وأفراد عائلة آل معمر وغيرهم
من القادة البارزين(64).
وكان تحت امرأة إبراهيم باشا حوالي ألفين من الخيالة و4300 من الجند
الألبان والأتراك و1300 من الخيالة المغاربة و150 من المدفعيين ومعهم خمسة عشر
مدفعاً وكذلك 20 من المختصين بالبنادق و11 من المختصين بالقذائف(65).
كانت واحة الدرعية تمتد لعدة كيلومترات بشكل خط على طول وادي حنيفة.
وتتكون المدينة نفسها والواحة من عدة نزل متلاصقة. وتطل على المنطقة قلعة الطريف
ومسجدها ومختلف المباني التابعة لها. وهي محمية بصخرة جبلية عالية من جهة وقناة من
الجهة الأخرى.
بدأ إبراهيم هجومه ببطء على طول الوادي. وبعد المناوشات الأولى مع
العدو ترك المترددون عبد الله وانتقلوا إلى إبراهيم وزودوه بمعلومات عن الوضع في
المدينة.وكان تفوق المصريين في المدفعية قد مكنهم من تدمير تحصينات الوهابيين،
وكان المهاجمون يحمون أنفسهم من الهجمات المباغتة ببناء الطوابي على النمط
الأوروبي هنا كما فعلوا في السابق. ومرت لحظة خيل فيها الوهابيين أنهم سينتزعون
النصر. فقد أنفجر مستودع البارود الرئيسي عند إبراهيم وتوجه الوهابيون في هجوم
سريع ولكنه أخفق.
كان توارد الأغذية وذخيرة والإمدادات على إبراهيم طول الوقت قد أمن
النجاح لزحفه البطيء. وكان المرضى والجرحى من قوات إبراهيم ينقلون إلى مستشفى أنشئ
في شقراء. وكانوا يتماثلون إلى الشفاء هناك أحياناً ويعودون إلى صف المقاتلين.
وأرغم إبراهيم الأمراء الذي التحقوا به على أن يرسلوا إلى الدرعية محاربين يقاتلون
تحت ألويته. وكان جنود جدد يحتلون مواقع الجنود القتلى من أفراد قوات إبراهيم في
حين كانت صفوف المدافعين عن الدرعية تتضاءل. وكان من أسباب ذلك نقص الأغذية في
الواحة(66).
وغدت حالة الوهابيين ميئوساً منها. وتكررت حالات الفرار. وفي مطلع
أيلول (سبتمبر)بدأ الهجوم العام على المدينة. واحتمى عبد الله وقسم من أقربائه في
قلعة الطريف. وفي 9 أيلول، أقدم عبد الله على المفاوضات بعد أن أدرك أن كل شيء قد
ضاع. وتوجه إلى معسكر المصريين عمه عبد الله بن عبد العزيز وعلي أبن الشيخ محمد بن
عبد الوهاب وكذلك محمد بن مشاري بن معمر. وطالبهم إبراهيم باشا بالاستسلام. وأتفق
مبعوثو عبد الله معه على الاستسلام بشروط مشرفة لسكان واحة الدرعية الذين كانوا ما
يوالون يقاومون. وقاتل عبد الله ومحاربوه المرابطون في القلعة قتالاً باسلاً يومين
آخرين. وأوصل إبراهيم إلى منطقة القلعة كل مدفعيته، وفي 11 أيلول استسلم عبد الله.
وانتهت ستة أشهر من المعارك الطاحنة(67). وفقد السعوديون أثناء تلك
المعارك زهاء عشرين من أقرباء الإمام بمن فيهم ثلاثة من إخوانه. وقدر أبن بشر
الخسائر العامة للوهابيين برقم صغير يُثير التساؤلات، وهو 1300 شخص، بينما يقول أن
خسائر إبراهيم في معركة الدرعية حوالي 10 آلاف(68). وأفاد إبراهيم في رسالته إلى
القاهرة والأستانة بأن الوهابيين خسروا 14 ألفاً من القتلى و6آلاف من الأسرى، ومن
بين الغنائم 60 مدفعاً(69).
وبمناسبة احتلال الدرعية جرت في القاهرة في تشرين الأول (أكتوبر) 1818
احتفالات بهيجة أطلقت فيها نيران المدافع وأجريت الألعاب النارية وكان الناس
يسرحون ويمرحون(70). وعلى أثر ذلك أعرب
السلطان عن ارتياحه العميق عندما بلغه نبأ هزيمة "أعداء الإسلام"(71).
وأعرب شاه إيران في رسالة إلى محمد علي باشا عن تثمينه لدحر الوهابيين(72).
نقل عبد الله عن طريق القاهرة إلى الأستانة بصحبة أثنين من المقربين
أليه في مطلع كانون الأول (ديسمبر). وأفادت السفارة الروسية من الأستانة: "في
الأسبوع الماضي قطعت رؤوس زعيم الوهابيين ووزيره وإمامه الذين أسروا في الدرعية
ونقلوا إلى العاصمة مؤخراً. وبغية إضفاء المزيد من الفخفة على الانتصار على ألد
أعداء المدينتين اللتين تعتبران مهد الإسلام أمر السلطان في هذا اليوم بعقد المجلس
في القصر القديم في العاصمة. وأحضروا إلى القصر الأسرى الثلاثة مقيدين بسلاسل
ثقيلة ومحاطين بجمهور من المتفرجين. وبعد المراسيم أمر السلطان بإعدامهم. قطعت
رقبة الزعيم أمام البوابة الرئيسية
للقديسة صوفيا، وقطعت رقبة الوزير أمام مدخل السراي وقطعت رقبة الثالث في أحد الأسواق الرئيسية في العاصمة. وعرضت جثثهم
ورؤوسها تحت الإبط… وبعد ثلاثة أيام ألقوا بها إلى البحر.
وأمر صاحب الجلالة بأداء صلاة عمومية شكراً لله على انتصار سلاح
السلطان وعلى إبادة الطائفة التي خربت مكة والمدينة ونشرت الذعر في قلوب الحجاج
المسلمين وعرضتهم للخطر(73).
الوهابية
خارج الجزيرة العربية: إن تعاليم محمد بن عبد الوهاب
التي بدت وكأنها ظاهرة خاصة بالجزيرة العربية وحدها قد وجدت لها بغتة
أنصاراً في بلدان أخرى تبعد عن الجزيرة آلاف الكيلومترات. لقد نشرها الحجاج الذين
كانوا في مكة في مطلع القرن التاسع عشر.
فقد وجد شجب الوثنية ورفض عبادة الأولياء ومكافحة البدع ونشر الجهاد ضد
"الكفرة" و "المشركين" والجمع بين الشعارات الطبقية
والتعادلية _ معتقدات وممارسات الوهابيين _ تربة صالحة في بلدان ذات أنظمة
اجتماعية وسياسية متباينة بعد تكيف وتعديل مناسب. ووصلت الوهابية إلى الهند
وإندونيسيا وأفريقيا.
وكان لتعاليم محمد بن عبد الوهاب تأثير كبير في الهند. فقد استخدم بعض
أحكامه المصلح الإسلامي والسياسي الهندي سيد أحمد بارلوي، وهو من أتباع المفكر
الإسلامي المعروف ولي الله شاه. وكان سيد أحمد قد باشر بدعوته في مطلع القرن
التاسع عشر. وفي العشرينات حج إلى مكة وأطلع هناك على تعاليم محمد بن عبد الوهاب
وتبناها. وعندما عاد إلى الهند اتخذ من باتنا مقراً له وأخذت تتوارد عليه جموع
الأنصار.
وفي عام 1824، أعلن سيد أحمد الجهاد ضد الكفار، ثم، في عام 1826،
اجتاحت قواته البنجاب وأخذت تفتك بالسيك. وفي عام 1830، أحتل الوهابيون بيشاور
وأسسوا دولة لهم حتى أنهم بدئوا بصك قطع
نقدية تحمل أسم احمد. ولكن أمام الوهابيين قُتل في العام التالي. ونشط أتباعه
أعمالهم في المناطق الإسلامية من الهند، وخصوصاً في الشمال وفي البنغال الشرقية
وأعلنوا الجهاد ضد المستعمرين الإنجليز.
وكتب مؤلف إنجليزي بمرارة في القرن التاسع عشر "كان المبشرون
المتمردون الذين وعدوا المؤمنين بالخلاص أو الجنة قد أججوا الحقد على الإنجليز
والذي كان يضمره بعض المسلمين الهنود. وكانت كل صلاة يؤدونها مفعمة بهذا
الحقد"(74). كان نضال الوهابيين ضد السيطرة البريطانية قسطاً في حركة الشعب
الهندي ضد الاستعمار. واستمر هذا النضال عدة عقود حيث كان يشتد تارة ويخفت تارة
أخرى. ومعروف جيداً دور الوهابيين الكبير في انتفاضة 1857 _ 1859 الشعبية ضد
السيطرة البريطانية(75).
وعلى الحدود الشمالية، في سيتان، صمد المركز الوهابي في وجه حوالي
عشرين حملة من القوات الاستعمارية. ولم يندحر إلا في عام 1863. إلا أن نشاط الوهابيين
استمر بعد ذلك. وكانت السلطات البريطانية، كما يقول المؤرخ الإنجليزي و. هنتر،
تعتبرهم "جماعة… تشكل، في رأي جميع الحكومات التي حلت محل بعضها بعضاً،
مصدراً لخطر دائم على الإمبراطورية الهندية"(076).
ودفعت الوهابية بعض الحجاج الإندونيسيين الذين أمّوا مكة في العقد
الأول من القرن التاسع عشر إلى ممارسة النشاط الإصلاحي. ففي سومطرة بدأت حركة
دينية سياسية استخدمت عدداً من الشعارات الوهابية. وكانت في البداية موجهة ضد
السكان المحليين غير المسلمين، ثم اكتسبت طابعاً مناوئاً للهولنديين. وطوال حوالي
خمسة عشر عاماً، اعتباراً من عام 1821، خاض المستعمرون الهولنديون الحرب ضد
وهابيّي سومطرة.
ويرى بعض الباحثين أن الوهابية مارست تأثيراً معيناً على حركة عثمان
دان فوديو في غرب أفريقيا في مطلع القرن التاسع عشر والتي أدت إلى تأسيس دولة
سوكوتو الشاسعة هناك، وكذلك على السنوسيين في ليبيا(77).
وكان سلطان مراكش مولاي سليمان (1792 _ 1822) الذي اشتهر بثقافته وورعه
وحرصه على الإسلام قد استخدم الأفكار الوهابية في مكافحة التجزئة الإقطاعية
والعشائرية في البلاد. وواجه نشاط المرابطين الانفصالي بمبدأ: سلطة واحدة ودين
واحد ودولة واحدة. وتقليداً للوهابيين شجب السلطان الشعائر السنوية لتكريم
الأولياء وألغى مختلف الضرائب التي لا ينص عليها القرآن وأخذ يرسل إلى مناطق
البربر قُضاة مسلمين يعملون على نشر الشريعة واجتثاث العرف القبلي عند البربر.
وكانت إصلاحات مولاي سليمان الوهابية تشكل خطراً على المصالح المادية للجمعيات
الدينية والمرابطين وسلطتهم بل حتى على وجودهم. فتوحدوا، إلا القليل منهم، ضد
السياسة الوهابية للحكومة وألحقوا الهزيمة بالسلطان وأرغموه على التنازل عن
العرش(78).
الفصل
السادس
من سقوط الدرعية حتى جلاء المصرين
عن الجزيرة العربية (1818 _ 1840)
السياسة
المصرية في الجزيرة العربية بعد دحر الوهابيين.
بعد سقوط الدرعية لم يعد للدولة السعودية الأولى وجود وأصبح المصريون
أسياداً بالتمام والكمال في أواسط الجزيرة، وأخذوا يزيلون بالحديد والنار نفوذ آل
سعود والوهابيين.
عذبوا الأمراء والعقداء والفقهاء
وأطلقوا النار عليهم فرادي وجماعات وربطوهم إلى فوهات المدافع و مزقوهم بالقذائف
تمزيقاً. وأرغموا سليمان بن عبد الله، حفيد محمد بن عبد الوهاب، على الاستماع إلى
أنغام الربابة قبيل الإعدام ساخرين من مشاعره الدينية(1). وفي مدن وواحات جبل شمر
و القصيم و الدلم قتلوا أفراد عوائل الوجهاء والأعيان والعقداء واستولوا على أموالهم(2).
وأرسلوا أفراد عوائل آل سعود وآل
الشيخ ووجهاء نجد (حوالي 400 شخص مع النساء والأطفال ) للإقامة في مصر. وتمكن بعضهم
من اهرب فيما بعد، بينما ارتقى بعض قليل إلى مناصب عالية في مصر. وغدا أحد أحفاد
محمد بن عبد الوهاب وهو عبد الرحمن بن عبد الله، محاضراً للفقه الحنبلي في
الأزهر(3).
وكتب الكابتن ج. سادلر "إن
تاريخ حملة إبراهيم باشا عموما يكشف عن سلسلة من أبشع القساوات الوحشية التي
اقترفت خلافاً لأكثر الالتزامات قدسية. ففي بعض الحالات اغتنى من نهب القبائل
نفسها التي ساهمت بقسط في انتصاراته، وفي حالات أخرى ينتزع ثروات أعدائه المغلوبين
أنفسهم الذين تمكنوا في وقت ما من تحاشي غضبه"(4).
وبعث محمد علي إلى إبراهيم أمراً
بإزالة عاصمة الدولة الوهابية من الوجود. و قبيل تدمير المدينة ابتز المصريون
النقود من أهلها ونهبوهم دون رحمة. ولو يستلم فيصل بن وطبان آل دويش منصب أمير
الدرعية، بل طالبه المصريون بأن يسدد لهم الزكاة للسنوات الخمس التي كان مدينا بها
للسعوديين. فرفض زعيم مطير تلبية هذا الطلب وارتحل إلى الفرات الأوسط(5).
وانتهز عدد من أفراد عائلة آل عريعر
فرصة سقوط الدولة السعودية فاستولوا على السلطة في الأحساء. ألا إن إبراهيم باشا
طردهم من شرقي الجزيرة وصادر كل أموال آل سعود ونهب الواحات(6).
وكانت بريطانيا التي تكره إمارة
الدرعية تراقب بتذمر تعزز المصريين في
الجزيرة العربية. وقامت عمارة بريطانيا بإنزال في القطيف(7). وكتب فيلبي
يقول "يصعب الافتراض بان إنزال القوات البريطانية في القطيف في وقت احتلال
المصريين للاحساء تقريباً كان يمثل شيئاً غير استعراض العضلات ضد المصريين. فقد
كان بسط نفوذهم على ساحل الأحساء تحدياً للمواقع البريطانية في ساحل الصلح البحري
مع إن المصريين يمكن أن يعتبروا أنفسهم ورثة لسلطة الوهابيين في هذه
المنطقة"(8).
كان الإنجليز يريدون أن يعرفوا نوايا
المصريين في الخليج. فأرسلوا ج.سادلر لمقابلة إبراهيم باشا. وكان ج. سادلر أول
أوروبي اجتاز الجزيرة من شرقها إلى غربها وشاهد أنقاض الدرعية. ألا إن إبراهيم
باشا غادر نجد في أواسط عام 1819وتوجه إلى المدينة المنورة. ولم يكن للعمليات
المشتركة التي اقترحها عليه سادلر ضد الوهابيين أي معنى. زد على ذلك أن مصر عموماً
كانت ذات وجهة مناوئة للإنجليز. ورفض إبراهيم اقتراح الإنجليز بشأن التعاون وطرد
سادلر من جدة في خريف 1819 . وسرعان ما غادر فصيل الاحتلال البريطاني القطيف بعد
أن فقد كثيراً من جنوده بسبب الأمراض(9).
في أواخر عام 1819 دمر الإنجليز رأس
الخيمة من جديد. ووضعت الإدارة الإنكلوهندية ما يسمى "بمعاهدة الصلح
العامة" التي فرضت فيما بعد على جميع حكام الساحل والبحرين(10). وكانت تلك في
الواقع معاهدة الحماية التي أضيفت إليها بمر السنين مواد جديدة متزايدة.
وسرعان ما أدرك إبراهيم باشا إن
عائدات البلد لا تسد نفقات احتلاله. فالقوات المصرية بعيدة عن القاهرة بآلاف
الكيلومترات وبعيدة عن قاعدتها الرئيسية التعبوية في الحجاز بمئات الكيلومترات.
وأخذ السكان، من بدو وحضر، يضمرون للغزاة عداء متزايداً. ولم يكن عدد الجمال
كافياً. ولا يندر أن يستولي البدو على قوافل الأغذية. ويمكن تصور المجاعة التي
اجتاحت نجد إذا علمنا أن في وقت ما حتى جنود إبراهيم كانوا يقتاتون على الأعشاب.
وقامت تمردات في جيش الاحتلال(11).
وأخيراً قرر إبراهيم أن يجلي قسماً
كبيراً من قواته من نجد ومن شرق الجزيرة، فهو يعرف أن أباه يسعى بالدرجة الأولي
لسيطرة على حوض البحر الأحمر وليس على أواسط
الجزيرة العربية. وحشد المصريون قواتهم في منطقة الرس.
وقبيل الانسحاب دمروا كل القلاع
والتحصينات الدفاعية واقتادوا الماشية وقطعوا النخيل وخربوا الحقول. وكتب ج.
سادلر: "كان سكان منفوحة آنذاك في حالة يرثى لها، في حالة أسوأ مما كانت في
أي زمان في الماضي منذ أن قامت سلطة الوهابيين. فإن أسوار المدينة التي هي الحامي
الرئيسي لملكيتهم قد أُزيلت عن سطح الأرض وأخذ الأتراك محصول الموسم ولم يكن
بالإمكان هنا لا شراء القمح ولا الشعير. ولم تبق في القرى ولا فرس واحد"(12)
وبعثت الخلافات القبلية والمحلية
بتغاض سافر أو مستتر من جانب الأسياد الجدد، وبدأت النزاعات وأخذ البعض يغزو البعض
الآخر. وتعرضت طرق القوافل للخطر. وحتى في المدن لم يكن السكان يتجرأون على الخروج
إلى الشارع بدون سلاح. ونشأ انطباع وكأن سياسة المصريين تتلخص في إغراق وسط
الجزيرة في حالة الفوضى والركود والخراب وإلغاء احتمال انبعاثه(13). وكانت
الحاميات المصرية الصغيرة لا تلعب دور العامل الإيجابي للمركزية وإحلال النظام، بل
غدت مجرد أداة للنهب والدمار.
كانت الدولة السعودية تحت الأنقاض
وقد قهرت عساكرها ودمرت أدارتها. وبدأ وكأن قوى التشتت والتجزئة التي انطلقت من
عقالها بعد دحر الوهابيين قد مزقت التوحيد السابق شذر مذر.
ولكن بقيت داخل مجتمع أواسط الجزيرة
القوى التي تمنت قبل نصف قرن ونيف من رص صفوفها وتأسيس أمارة الدرعية.
بعد تصفية الجولة السعودية كان
مزارعو نجد واتجارها وصناعها يتحسرون على العهود القديمة، عهود الاستقرار والسلامة
الشخصية وسلامة الملكية والمداخيل. وكانت حروب السعوديين الموفقة التي عادت بغنائم
وفيرة قد رسمت حولهم هالة في أنظار وجهاء نجد. وراح الفقهاء الوهابيون الذين سلموا
بجلودهم يدعمون الذكريات ويتغنون بأمجاد السعوديين الغابرة.
وإلى جانب النزاعات القبلية
الإقطاعية كان هناك تيار لرص الصفوف وسعى إلى توحيد نجد بغية طرد المحتلين الأجانب
واستئناف الظروف الملائمة للحياة الطبيعية والنشاط الاقتصادي. وبين تطور الأحداث
لاحقاً أن وجود الدويلات _ الواحات الصغيرة والمتناهية في الصغر قد عفا عليه
الزمن. فبعد بضع سنوات من سقوط أمارة الدرعية أسفرت الحركة الواسعة للأمة ضد
الاحتلال الأجنبي عن بعث الدولة السعودية التي اختيرت الرياض هذه المرة عاصمة لها.
النزاعات
القبلية الإقطاعية في ظل الاحتلال المصري. حل خليل باشا أبن أخت محمد علي محل
إبراهيم باشا كحاكم للجزيرة العربية. إلا أن خليل باشا سرعان ما توفي وعين بدلاً
عنه أخوه أحمد شكري يكن بك الذي ظل في الجزيرة باسم أحمد باشا حتى عام 1829 حيث
استدعاه محمد على إلى القاهرة وعينه رئيساً لحربيته(14).
وفي خريف 1819، عين محمد بن مشاري بن معمر حاكماً لنجد. وهو من العائلة
التي حكمت العيينة في فجر الحركة الوهابية. حاول أبن معمر ترميم أنقاض الدرعية،
الأمر الذي واجهه السكان بالاستحسان. وأخذ أهالي مناطق الأطراف يبعثون الوفود إليه
ليعبروا عن تأييدهم(15). وأمنت الأمطار الوفيرة محصولاً لا بأس به وساعدت أبن معمر
على التخفيف من المجاعة. ولكن مع ذلك فالأغذية لم تكن كافية.
وظهر منافسون لابن معمر. فقد بعث ماجد بن عريعر، وهو من شيوخ بني خالد،
سلطته في شرقي الجزيرة. وحكم آل عريعر تلك الأنحاء حتى عام 1830(16).
وظهر على مسرح الأحداث في نجد تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، وهو
ممثل فرع جانبي من آل سعود، وقد فر من المصريين بعد سقوط الدرعية. وكان لبعض الوقت
يعمل إلى جانب أبن معمر(17).
وكان أحد أخوان آخر إمام سعودي وهو مشاري بن سعود بن عبد العزيز، قد فر
من الحرس المصري في الطريق من المدينة المنورة إلى ينبع، ثم ظهر في سدير حيث أعلن
نفسه إماماً، وفي آذار (مارس) 1820استولى على الوشم. وحظي ببعض التأييد في القصيم
وفي مناطق أخرى. بيد أن أبن معمر تمكن من الاعتماد على قبيلة مطير ودحر قوات مشاري
وأسره(18).
ظلت سلطة أبن معمر مضعضعة. وأخذ المتذمرون يلتفون حول تركي بن عبد
الله. واقتربت الصدامات الحاسمة بين المتنافسين. وأخيراً استولى على الدرعية بسرعة
كبيرة حتى تمكن من تناول الطعام في وليمة الغذاء التي كان الأمير السابق قد أعدها
لضيوفه. ثم تحرك نحو الرياض حيث قبض على أبن محمد بن معمر. وفي الأسر قتل أبن معمر
مع أبنه(19). كان حكم أبن معمر قد استمر عاماً واحداً تقريباً. وكان من أسباب
سقوطه تلوث سمعته كعميل للمصريين وبقاء منزلة آل سعود رفيعة كالسابق.
وعندما بلغت أنباء الاضطرابات في نجد محمد علي قرر تعزيز الحاميات في
أواسط الجزيرة. وفي خريف 1820، وصل
إلى القصيم حسين بك مع إمدادات وقرر التخلص من الأمير السعودي. وتحصن أنصار تركي
في قلعة الرياض، ولكنهم بعد حصار قصير من المصريين وافقوا على الاستسلام للأسر
بشرط الحفاظ على حياتهم، إلا أنهم فيما بعد قُتلوا كلهم تقريباً. وتمكن تركي من
الهرب(20).
وفي آذار 1821، أمر حسين بك جميع
أهالي الدرعية الذين عادوا أليها بأن يجتمعوا واعداً إياهم بتوزيع الأراضي عليهم.
وعندما جاء 230 من أهالي الدرعية قتلهم الجنود المصريون. وكان القتل والسجن بلا
محاكمة وتقطيع الأعضاء والتعذيب أموراً معتادة في نجد. وكانت الحاميات في المدن
تنهب الأهالي. ويقتطع الجنود النخيل ويخربون الحقول. وفر الكثير من السكان إلى
البوادي أو غادروا نجد(21). وكتب أبن بشر يقول "وترأس عليهم
الشيطان"(22). وفي عام 1821 تفشي وباء الكوليرا فزاد في الطين بلة.
وقبيل العودة إلى مصر جمع حسين بك
رهائن من مدن عديدة وحبسهم في الحصن الذي أنشئ في ثرمداء(23). وظلوا هناك حتى وصل
إلى نجد في ربيع 1822 قائد مصري جديد هو حسن بك الذي انشغل بجمع الإتاوات والنهب.
وأصبح الأمر لا يطاق، حتى أن انتفاضات كثيرة ومقاومة مسلحة قامت ضد المحتلين رغم
الإرهاب. ولم تكن لدى المصريين قوات كافية. فاكتفوا بإبقاء حاميات في عدة مدن هامة
_ الرس وشقراء وبريدة وعنيزة وثرمداء والرياض(24).
لقد أخفقت المحاولات الأولى لبعث
السلطة المحلية من قبل أبن معمر في البداية ثم من قبل أثنين من أفراد العائلة
السعودية. إلا أن الوهابية احتفظت بجذور عميقة بين أهالي نجد، في حين كانوا
يتصورون أن العائلة السعودية هي منفذة المشيئة الإلهية على الأرض.
بعث
سلطة السعوديين في عهد تركي. بعد أن وفق تركي في الهرب من المصريين عام 1820، ظل متخفياً
طوال عدة سنوات، في المناطق الجنوبية على ما يبدو، ولكنه ظهر من جديد على مسرح
الأحداث في نجد في أيار (مايو) أو حزيران (يونيو) 1823، حيث يشير أبن بشر إلى
عمليات فصيله الصغير في الحلوة(25).
ووجد تركي حلفاء وأنصاراً له من بينهم سويِّد حاكم مدينة جلاجل في
سدير(26). ووصلت مع سويِّد فصائل من بعض المناطق الأخرى. فتشجع تركي وقام بغزوة
على مدينتي منفوحة والرياض المتواجدتين قرب بعضهما بعضاً وفيهما حاميات مصرية من
600 شخص. ولم تكن جميع المناطق بعد تؤَّيد الأمير تركي. وعلى أي حال فأن أبن بشر
ذكر أن ثرمداء وحريملا والخرج تعاديه وأن قسماً كبيراً من واحات الوشم وسدير فضل
الانتظار(27).
وفي تلك الأثناء بدأت في القصيم انتفاضة شاملة ضد المصريين سببها
الإتاوات والابتزاز من جانب حسن بك. واضطر المصريون على الجلاء إلى الحجاز وتركوا
حاميتين في الرياض ومنفوحة فقط(28).
وانتهز تركي فرصة ضعف المواقع المصرية في نجد في عامي 1823 _ 1824 فوسع
نفوذه في المنطقة المحيطة بالرياض ومنفوحة وعزل الحاميتين المصريتين واخضع سدير
والمجمعة والوشم. وفي أواخر تموز (يوليو) 1823 شدد تركي الضغط على الرياض وثرمداء
والخرج. وأجليت الحامية المصرية من منفوحة. وبعد عدة أشهر من الحصار سقطت الرياض
على يد تركي وتم جلاء المصرين من الحجاز وأعلنت بعض مناطق القصيم عن اعترافها بحكم
تركي. وتم تطهير أواسط نجد كلها من المحتلين(29).
استمر حكم تركي بن عبد لله بن محمد بن سعود من عام 1813، عندما بدأ
يحتل نجد، حتى مقتله في عام 1834. ويرى الكثيرون من المؤرخين أن تركي هو مؤسس
الدولة السعودية الثانية لأنه كان يحكم بصورة مستقلة رغم اعترافه بسلطة
الإمبراطورية العثمانية شكلياً والمصريين فعلياً. ولكنه لا يمكن الكلام عن
الاستقلال الحقيقي للأمارة الجديدة إلا بعد جلاء المصريين نهائياً من الجزيرة
العربية عام 1840. كان الأئمة السابقون يتحدرون من عبد العزيز بن محمد بن سعود، في
حين أن تركي وجميع الحكام اللاحقين، بمن فيهم الملك الحالي فهد وهو من سلالة تركي
كانوا يتحدرون من عبد الله بن محمد بن سعود.
وفي أواخر عام 1824، استقر تركي في الرياض التي ظلت عاصمة لنجد ثم
للعربية السعودية بأسرها حتى اليوم. وبدأ نشاء المسجد والقصر والتحصينات وفي نيسان
(إبريل) _ أيار (مايو) 1825، توجه أمير الرياض إلى منطقة الخرج وأخضعها بعد
معارك(30).
وسيطر تركي على العارض والخرج والحوطة والمحمل وسدير والأفلاج والوشم.
وفي منطقة القصيم خضعت له بعض الواحات فقط. وظلت منطقة جبل شمر في الواقع ليست في
متناول يد الأمير. وربما كان تركي يدفع الحد الأدنى من الضريبة للسلطات العثمانية،
أو على الأصح للمصريين مباشرة في الحجاز أو في القاهرة(31)، مع أن أبن بشر لا يشير
إلى ذلك.
وكان بعض الفارين قد عادوا إلى نجد التي سادتها فترة من الاستقرار
المؤقت. وكان من أبرز العائدين مشاري بن عبد الرحمن بن مشاري بن سعود الذي فر من
مصر. وفي عام 1825، عين حاكماً للمنفوحة. وفيما بعد، قتل مشاري هذا الأمير تركي
غدراً. ووصل من المنفى أحد أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو عبد الرحمن بن حسن
الفقيه الكبير ومعلم جيل كامل من أفراد آل الشيخ الأصغر منه سناً(32). وقد بعث إلى
أنحاء نجد على الفور رسائل طالب فيها الجميع، وخصوصاً الفقهاء والأمراء، بالعودة
إلى "الإسلام الحقيقي" ورفض ممارسات المشركين من أدعياء الإسلام والخضوع
لِإمام المسلمين. واتخذ الشيخ عبد الرحمن سيرة جده الشهير مثالاً وقدوة لخدمة
الدين الحقيقية(33). ويقول الرحالة السويِّدي فالين أن عبد الرحمن كان قاضياً في
الرياض عام 1845(34)، إما بلغريف الذي زار الرياض عام 1862 فيتحدث عنه بوصفه
"الزعيم الروحي للبلاط"(35). وتعززت سلطة السعوديين الدنيوية من جديد
بفضل تأثير الوهابية مع أنها لم تعد تتميز بالتعصب الذي كانت عليه في السابق.
بديهي أن تركي قد حاول تسديد الضربة إلى البدو، بعد أن أحتل عدة مناطق
ذات سكان حضر بكثافة كبيرة نسبياً. وفي الفترة 1826 _ 1828، قام غزوات على قبائل
بني خالد وهتيم والدواسر وغيرها. وسرعان
ما أرسل العديد من شيوخ قبائل سبيع والسهول والعجمان وقحطان وكذلك مطير (الأمر الذي أفرح الأمير تركي بخاصة)
أرسلوا وفوداً أعربت عن خضوع تلك القبائل له. وبالمناسبة فأن ذلك لم يمنعها من
الحنث بالوعد والقيام بغزوات جديدة(36).
وكان من الأحداث الهامة في 1827 _ 1828 فرار فيصل، أبن تركي، من الأسر
المصري(37). فقد كان مقدراً له أن يحكم أمارة الرياض مرتين.
إن عدم وجود منافسين كبار وعدم تدخل المصريين أو الأتراك مؤقتاً في
شؤون نجد قد مكن الرياض من إخضاع القصيم وأن بصورة غير كاملة(38). ثم جاء دور جبل
شمر(39).
وفي عام 1827، قتل يحيى، شريف مكة، فعين محمد على بدلاً منه محمد بن
عبد المعين بن عون الذي ظل في هذا المنصب حتى عام 1851.
واتضح أن عسير كان عسيراً على محمد علي. فقد دحر أهل هذه المنطقة
مراراً في معارك مكشوفة ولكنه لم يتمكن من السيطرة عليها.
شرق
وجنوب شرق الجزيرة في عهد تركي. لم تكن في شرقي نجد قوات تستطيع أن تهدد أمارة الرياض كالقوات
المصرية في الحجاز. وبديهي أن تركي الذي عزز مواقعه في نجد قد بدأ غزوات على
الشرق، على الأحساء. في تلك الأثناء كان محمد وماجد من آل عريعر قد حكما هذه
المنطقة منذ عشر سنوات تقريباً. وربما كانا قد عينا رسمياً من قبل محمد علي أو
ربما كانا يدفعان له الإتاوة(40).
وفي عام 1830 اجتاح نجد تجمع بدوي كبير من بني خالد وسبيع وعنزة ومطير
وبني حسين. وبالإضافة إلى حضر نجد الموالين لتركي التزم جانبه قسم من البدو من
قبائل أخرى. ونشبت معركة استمرت عدة أيام بين أهل نجد وخصومهم، وانتهت بمقتل ماجد
آل عريعر وتدمير بدوه. وتقررت في هذه المعركة مسألة من سيسيطر على شرق الجزيرة، هل
هم آل سعود أم آل عريعر(41).
وسيطر تركي على الأحساء.
وخلافاً للأمراء السابقين واللاحقين طبق تركي وفيصل في الأحساء سياسة
متسامحة(42)، الأمر الذين ساعدهما في التمركز هنا. وتجدر الإشارة إلى أن أمراء
الرياض رغم استخدام راية الوهابية السابقة، قد ابتعدوا عن التقوقع الطائفي والتعصب
اللذين كانا ملازمين لسابقهم. ومن الصعب اعتبار أنصارهم من أفراد الطائفة
الوهابية، ولذا فسوف نستخدم مصطلح "الوهابيين" بصورة محدودة.
وفي أواخر عام 1830 فرض تركي سلطة السعوديين على حاكم البحرين عبد الله
بن أحمد آل خليفة (1816 _1843) الذي كان يسيطر كذلك على قسم كبير من قطر. وفي تلك
الفترة توافقت مؤقتاً مصالح أمير الرياض وسلطان مسقط الموجهة ضد البحرين. وبعد ذلك
اختلفا فيما بينهما. وبعد مرور أقل من ثلاث سنوات قطع حكام البحرين علاقات التبعية
للرياض حتى الواهية منها. وفي عام 1834، انتقل عبد الله آل خليفة إلى الهجوم وحاصر
المرفأين السعوديين القطيف و العقير (43).
وقبل فرض السيطرة السعودية على شرقي الجزيرة أخذ الأنصار القدامى
للنجديين ينشطون في جنوب شرقي الجزيرة. ففي عام 1821، استولى سعد بن مطلق، وهو أبن
حاكم البريمي السعودي السابق، على مجموعة واحات البريمي الهامة استراتيجياً وأخضع
قسماً من عمان(44). وعندما ثبت تركي في عام 1824منصبه كحاكم للرياض أجرى معه
مباحثات سلطان بن صقر، حاكم الشارجة، وراشد حميد من العجمان وكان قسم كبير من سكان
الشارجة وعجمان يتعاطفون مع الوهابيين كالسابق(45). وفي الوقت نفسه أجرى حكام
إمارات الساحل مفاوضات مع الإنجليز مؤملين بمساعدة منهم ضد خطر الوهابيين. إلا إن
الإنجليز آنذاك كانوا متمسكين بسياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للجزيرة
العربية(46).
وفي عام 1828،مهد أنصار الوهابيين على ساحل الخليج العربي وخليج عمان
التربة لتدخل جديد من قبل القوات الموالية للرياض. وعين تركي أميراً للبريمي عمر
بن محمد بن عفيصان الذي بدأت غزواته للمناطق الداخلية من عمان ومنطقة الباطنة
الساحلية(47). وفي عام 1832، أعتدت قوات النجدين الكبيرة على عمان عبر البريمي.
ووافق سلطان مسقط سعيد على دفع 5 آلاف ريال لأمير الرياض. ثم اتفقا على مساعدة
بعضهما بعضاً في إخماد الانتفاضات في أراضيهما واقتسما ساحل الجزيرة الجنوبي
الشرقي(48).
ويقول الدبلوماسي والمؤرخ الإنجليزي ولسون "أن ساحل الخليج العربي
كله اعترف بسلطة الوهابيين منذ عام 1833 وصار يدفع لهم الجزية"(49).
الوضع
في أمارة الرياض في عهد تركي. في مطلع الثلاثينات كانت مكانة تركي في الرياض راسخة تماماً.
فأن نجد المخربة التي أرهقها نير الاحتلال كانت خاضعة لسلطة تركي. إلا إن خلافاً
نشب في عائلة السعوديين، ففي عام 1831، تمرد مشاري بن عبد الرحمن حاكم منفوحة مع
بعض أفخاذ قحطان على الأمير. ولكنه فر بسبب عدم حصوله على تأييد واسع. وفي عام
1832، عاد إلى نجد بعد أن عفا عنه الأمير(50).
كانت محدودية موارد الدولة الجديدة وعدم إمكان الحصول على غنائم وفيرة
في الغزوات قد دفعا الوجهاء والأعيان إلى تشديد استغلال الرعية، وكان أمير الرياض
يجد صعوبة كبيرة في فرض مبادئ معاملة السكان "بالعدل" وأورد أبن بشر
حادثة ذات دلالة. ففي عام 1832، عاد تركي من الهوف إلى الرياض وعقد المجلس الكبير
للأمراء وأخذ يلومهم بصرامة لأنهم يعاملون الناس بتعسف ويأخذون منهم ما ليس لهم حق
به بموجب القانون. وقال في ما قال: "وأنكم إذا ورد أمري بالمغزا حملتموهم
زيادة لكم وإياكم وذلك فإنه ما منعني أن أجعل على أهل البلدان زيادة ركاب في غزوهم
إلا الرفق بهم وإني ما حملتهم إلا بعض ما
حملهم الذين من قبلي… وإنه إذا ورد عليكم أمري فرحتم بذلك لتأكلوا في ضمنه وصرتم
كراصد النخل يفرح بشدة الريح ليكثر الساقط عليه وأعلموا إني لا أبيحكم أن تأخذوا
من الرعايا شيئاً ومن حدث منه منكم ظلم على رعيته فليس أدبه عزله بل أجليه عن
وطنه. (ثم قال للرعايا) أيما أمير منكم ظلمكم فأخبروني…"(51).
وأوصى الأمير تركي الرعية بأن يعرضوا تدينهم في الإيمان بالتوحيد و
أداء الصلاة ودفع الزكاة. وشجب أمير الرياض الربا وحذر من محاولات الالتفاف على
منع ممارسته وأوصى جميع الحكام بأن يوحدوا الموازين والمكاييل في أقاليمهم وطالب
بأن لا يحنث أحد بأي صفقة أو اتفاقية حتى إذا كانت معقودة مع أهل الذمة من اليهود
أو مسيحيين أو زرادشتيين وألزم الأمراء بأن يمنعوا التدخين ويُشجعوا التعليم
الديني ويبنوا المساجد(52).
ورغم القحط المتوالي فأن الأوضاع الاقتصادية في أواسط الجزيرة أبان حكم
تركي قد استقرت بقدر ما بعد النهب والنزاعات والاقتتال. ولكن بعض الناس في سدير
والقصيم ماتوا من المجاعة الناجمة عن الجفاف في 1826 _ 1827 أيضاً. وفي مطلع
الثلاثينات، وبفضل المحصول المتوسط والاستقرار النسبي انخفضت الأسعار وتوقفت
المجاعة(53). إلا أن وباء الكوليرا تفشى في نجد في عهد تركي. ظهر هذا الوباء في
1828 _ 1829 ثم في 1830 _ 1832. وفي نيسان (إبريل) أيار (مايو) 1831 انتشرت
الكوليرا بين الحجاج في مكة، فتوفي حوالي 20 ألفاً منهم. وهلك ثلث حجاج قافلة
الشام، كما هلك نصف حجاج قافلة نجد. وفي العام التالي اجتاح الوباء نجد كلها. ووصف
أبن بشر لوحة مرعبة حيث توفي عدد هائل من الناس ولم يبق من يتمكن من دفنهم. ولا
أحد يحرس الأموال المتروكة. وكانت الماشية تنفق لأن أحداً لا يقدم لها العلف
والماء. وتوفي كثير من الأطفال في المساجد لأن أباهم عندما أصيبوا بالمرض تركوهم
في المساجد على أمل أن يساعدهم أحد هناك. ولكن لم يبق أحد ليساعد أولئك الأطفال.
فقد خلت الواحات من أهلها(54).
مقتل
تركي والفترة الأولى من حكم فيصل. لم تكن القبائل البدوية في أواسط الجزيرة تهتم كثيراً بمنزلة
أمير الرياض، فكانت تتصرف بصورة مستقلة. وفي عام 1833، بدأ حاكم البحرين عمليات
حربية ضد أمير الرياض، وفي بداية عام 1834، تعرضت مرافئ الأحساء إلى ضربات
البحرانيين الذين اعتمدوا على أسطولهم وعلى قلعة الدمام على ساحل الجزيرة
العربية(55). وحاصر فيصل بن تركي بلدة سيهات التي تمركز فيها أنصار البحرانيين.
وفي تلك اللحظة وصل نبأ مقتل أبيه في الرياض على أيدي مرتزقة مشاري بن عبد الرحمن
الذي استولى على السلطة في العاصمة. رفع فيصل الحصار فوراً وأسرع أرى نجد.
يعتقد البعض أن مشاري فعل فعلته بتكليف من المصريين. ويعتقد البعض
الآخر، ومنهم لوريمير أن لحاكم البحرين ضلعاً في قتل تركي(56). ولكن مطامح مشاري
الشخصية هي التي لعبت، على ما يبدو، الدور الرئيسي. في التاسع من أيار (مايو)
1834، خرج تركي من باب جانبي بعد صلاة الجمعة فأحاط به ثلاثة أشخاص، شهر أحدهم
المسدس وأطلق النار على الإمام. وحاول عبد الإمام زويد أن يدافع عنه، فتمكن من
إصابة أحد القتلة بجرح قبل أن يقبضوا علية. وبعد ذلك فر إلى فيصل. وظهر مشاري في
الحال شاهراً سيفه وطالب السكان بأن يبايعوه(57).
كان تركي حكيماً، ولم يكن يستخدم القوة بلا رحمة إلا في حالة الضرورة.
ومن الأدلة على عدم تمسكه بالثأر موفقه من مشاري، قاتله فيما بعد. وبالمناسبة فأن
العفو عن الخصوم لم يكن ظاهرة استثنائية في الجزيرة العربية، بل كان دليلاً على
ضرورة المساومات مع الأقرباء والشخصيات القوية. وكان تركي يتسم بالسخاء، شأنه شأن
الحكام السعوديين الذين سبقوه، وحاول أن يحد من جشع وجهائه وأعيانه. وتجدر الإشارة
إلى أنه درس في وقت ما التطبيب عند العوام واشتهر بأنه حكيم(58). وكان بتصرفاته
الذكية قد عجل في انسحاب المصريين من نجد. وكانت أواسط الجزيرة موحدة في عهده طوال
أحد عشر عاماً.
وأسفر مقتل تركي عن نزاعات قبلية واضطرابات في نجد استمرت تسعة أعوام.
وخلال هذه الفترة اعتلى عرش الرياض أربعة من آل سعود.
ولم يبق مشاري بن عبد الرحمن في السلطة غير شهر ونيف. فقد وصل فيصل
وأنصاره العاصمة وباغتوا مشاري وقبضوا عليه. ففي ليلة 28 أيار (مايو) 1834، أرسل
فيصل إلى الرياض محاربين من أبناء المدينة مؤملاً بأنهم سيواجهون بمقاومة أقل من
أهلها. واصطدموا بجماعة من الحرس فعرفوهم ولكنهم تمكنوا من أن يتخذوا مواقع حول
القلعة. وعندما سمع مشاري إطلاق النار نصب المتاريس في القلعة. وفي صباح اليوم
التالي، أحتل فيصل المدينة وبدأ حصار القلعة. ثم اقتحم محاربوه القلعة، وتم القبض
على مشاري وأُعدم(59).
استلم فيصل زمام الحكم وهو في حوالي الأربعين من العمر في أوج نضوج
قابلياته الجسمانية والروحية. وأسرع لتقبل البيعة من أهالي العاصمة واستدعى القضاة
من مختلف المناطق إلى الرياض حيث حلوا ضيوفاً عليه طوال شهر تقريباً ثم عادوا إلى
ديارهم بعد أن أغدق عليهم فيصل الهدايا. وبعد ذلك وجه الإمام إلى الواحات والبوادي
رسالة دعا فيها الجميع للولاء له. وأخذ أمراء الواحات وشيوخ البدو يتقاطرون على
الرياض ليعربوا عن ولائهم للحاكم الجديد. وبعد ذلك فقط أرسل فيصل عملاءه إلى
البوادي لجمع الزكاة.
إلا أن مقتل تركي قد زعزع السلطة في أمارة الرياض. فقد رفض أهالي وادي
الدواسر والافلاج وقبيلة قحطان دفع الزكاة واضطر فيصل أن يرسل إليهم فصائل لِإخماد
القلاقل(60).
وسرعان ما اضطرب شرقي الجزيرة، حيث نشبت معارك بين عساكر أمير الرياض
التي قادها المملوك زويد وبين البحرانيين الذين حاصروا القطيف والعقير من جديد،
ولكنهم واجهوا خطراً آخر يتمثل في مطامع إيران. ووافق حاكم البحرين على دفع جزية
رمزية مقدارها ألفا ريال، والتزم فيصل بحماية البحرين من العدوان الخارجي. ورفع
الحصار عن القطيف والعقير(61).
كان نفوذ أمير الرياض في عمان كبيراً في أواسط الثلاثينات. وفي شتاء
1835 _ 1836، تأكد كولونيل الأسطول الإنكلوهندي ج. ويلستاد ورفيقه وايتلوك، وهما
يتجولان في هذا البلد تحت حماية سلطان مسقط سعيد، من أن الوهابيين في عمان كانوا
أحياناً أقوى من السلطان(62). إلا أن عداء الإباضية ومعارضة الإنجليز جعلا مواقع
النجديين هنا غير مأمونة إطلاقاً.
ألا أن فيصل كان قلقاً أشد القلق للأنباء الواردة من الحجاز، حيث تأكد
له أن المصريين يستعدون لهجوم جديد على نجد.
فبعد الهزائم الجديدة في عسير 1833 _ 1834، حاول محمد علي مرة أخرى في
عام 1835 أن يستولي على هذا الإقليم الذي كان يعتبره مفتاح الجزيرة. إلا أن قواته
منيت بالهزيمة من جديد.
وقبل أن ننتقل إلى الأحداث المرتبطة بالهجوم المصري الأخير على نجد من
المناسب أن نتحدث عن إمارة جديدة لا يعرف عنها الكثير بعد، وقد شاركت في قصة
الجزيرة العربية الفاجعة. ونعني إمارة جبل شمر التي قدر لها أن تلعب دوراً هاماً
في أواسط الجزيرة.
بعد سقوط إمارة الدرعية بدأت النزاعات في جبل شمر. فقد هب ضد الأمير
محمد آل علي الحاكم هنا فخذ من قبيلته هو آل رشيد، ولكنه مني بالهزيمة. فقد طرد
زعيم هذه الأمارة أسرة علي آل رشيد وأبناءه عبد الله وعبيد من حائل عاصمة
الأمارة(63). وبعد عدة سنوات دخل عبد الله في خدمة تركي أمير الرياض وتصادق مع
أبنه فيصل. وكان من بين العقداء الذين بايعوا فيصل بعد مقبل أبيه مباشرة.
كان فيصل ينتظر الفرصة ليشكر صديقه المخلص، فاستفاد من الشكاوى على
حاكم حائل صالح بن عبد المحسن آل علي ونحاه من منصبه. وبعد إزاحة المنافسين أمسك
الأخوان عبد الله وعبيد بزمام السلة في جبل شمر وسرعان ما أخذا ينشئان قلعة في
العاصمة في محلة البرزان التي غدت فيما بعد رمزاً لِأمجاد وجبروت آل رشيد.
وأعرب الأخوان عبد الله وعبيد آل رشيد عن ولائهما للأمير فيصل أن يشارك
الذي أكد تعيينهما لحكم جبل شمر وأرسل إلى حائل فقيهاً وهابياً، ولكن الأخوين آل
رشيد أخذ في الوقت نفسه يهيئان الجمال ويرسلانها إلى المصريين في الدينة
المنورة(64).
هزيمة
فيصل.
كان المصريون قد طلبوا من أمير الرياض فيصل أن يشارك في حملاتهم على أهالي عسير
الذين هم حلفاء له سراً، أو أن يقدم الجمال للقوات المصرية. تملص فيصل بلياقة دون
أن يلبي هذا الطلب ولكنه أرسل أخاه إلى مكة يحمل الهدايا لِأحمد باشا(65).
في عام 1835 _ 1836، لم تسقط الأمطار الموسمية في أواسط الجزيرة فبدأ
القحط والمجاعة، ونزح قسم كبير من سكان نجد إلى منطقة البصرة والزبير. وأشار أبن
بشر إلى ظهور مذّنب في كوكبة الدب الكبير واعتبر ذلك نذير بالقحط، وفسر القحط
بدوره على أنه عقاب على الخطايا التي اقترفت بمقتل الإمام تركي(66). لكن إذا صدقنا
التكهنات فأن المذّنب والقحط كانا ينذران بمصائب أكبر بكثير. فقد عزم محمد علي على
فرض سلطته على نجد ونصب هناك صنيعته خالد وهو أبن لإمام سعود الشهير. وكان هذا
الأمير الشاب الذي قضى سنوات عديدة في بلاط محمد علي هو الأخ الأكبر من إخوان عبد
الله الذين ظلوا على قيد الحياة بعد إعدامه في الأستانة.
وفي تموز (يوليو) 1836، زحفت من القاهرة قوات بقيادة إسماعيل بك، وهو
مدير سابق لشرطة القاهرة. وتتكون هذه القوات من أتراك وألبان ومغاربة وبدو مصريين،
وهي معززة بالمدفعية.
وبعد أن نزل إسماعيل في ينبع واصل زحفه إلى المدينة ومن هناك إلى
الحناكية. أما فيصل الذي يعرف أن التدخل سيجري عبر القصيم فقد شغل المنطقة ونصب
معسكراً في الرس التي هي بوابة القصيم من جهة الحجاز. إلا أن جنود فيصل كانت
تعوزهم إرادة القتال وكانوا مسحوقين بائسين، إذ ما يزالون يتذكرون جيداً مصير
إخوانهم الأكبر وآبائهم. وعندما بدأ فيصل في نيسان (إبريل) 1837سحب الآليات
الثقيلة إلى عنيزة أصاب الذعر عساكره فأخذوا يتفرقون(67).
وعاد فيصل مع جماعة من أتباعه المخلصين إلى الرياض واتضح له أن روح
الهزيمة استولت على أهالي العاصمة الذين لا يريدون بأي حالة دعمه والتضحية بالنفس
والأموال من أجله(68).وعندما أدرك فيصل إن الوضع في العاصمة غير مأمون توجه نحو
الجنوب، إلى الخرج،ثم ذهب إلى الهفوف حيث وضع حاكمها الموالي له، عمر بن عفيصان،
قواته تحت تصرفه. وظل فيصل في الهفوف حتى تموز(يوليو)1837.
اعترفت القصيم بسلطة خالد بن سعود بدون مقاومة تقريباً. وبعد ذلك أرسل
المصريون فصيلاً نظامياً ومتطوعة من القصيم للاستيلاء على جبل شمر. وأقنعهم عيسى
آل علي، وهو أحد المرتدين من أفراد الأُسرة التي أُسقطت في حائل، بأن يعينوه
أميراً. ويبدو أن المصريين لم يكونوا يثقوا بالأخوين من آل رشيد. وتم احتلال
المدينة سلمياً تقريباً. وفر عبد الله وأخوه عبيد. وعاد قسم كبير من المصريين إلى
القصيم بعد أن اكتفوا بغرامات حربية نقدية. إلا أن عيسى لم يتمكن من البقاء في
حائل إلا بضعة أشهر. فإن ابتزاز و قساوة حماته المصريين جعلا الأهالي يهبون في وجه
المحتلين وصنائعهم، ويحرضهم في ذلك الإخوان عبد الله وعبيد اللذان اختبئا في
البادية. واصبح الوضع عسيراً لا يطاق بالنسبة للمصريين، فأجلوا عن جبل شمر. وأرتحل
معهم عيسى بن علي. وعاد عبد الله بن رشيد حاكماً لجبل شمر(69).
وفي أيار (مايو) 1837، دخل إسماعيل بك وخالد الرياض. وانتهت رسمياً
الفارة الأولى من حكم فيصل (1834_1837).
وتعزى سرعة هزيمة أمير الرياض وسهولة احتلال المصريين لنجد إلى فظاعة
شبح إبراهيم باشا وذكر احتلاله للبلد والمصائب التي لحقت به. فالنجديون يتذكرون
تفوق المصريين في العساكر، وخصوصاً في المدفعية. وكانت أواسط الجزيرة كلها قد
أضعفها القحط والمجاعة والأوبئة. ومما لا شك فيه إن ظهور خالد بن سعود قد ولد
انقساماً بين الموالين لآل سعود. وعلى أي حال فأن أهالي نجد لم يبدأوا بالتمرد على
المحتلين إلا بعد أن أدركوا بأن الخضوع لن يحميهم من التعسف والنهب.
وبعد الاستيلاء على الرياض أرسل خالد رسالة إلى أمير الحريق تركي
الهزاني يُطالب فيها بالخضوع، ولكنه استلم رداً يكشف عن طبيعة الأمزجة في الواحات
الجنوبية: "إن كان الأمر لك ولا يأتينا في ناحيتنا عسكر من الترك فنحن رعية
لكم وإن كان الأمر للترك فنحن لهم محاربون"(70).
وفي تموز (يوليو) 1837، توجه إسماعيل بك وحلفاؤه بقوات قدرها 7 آلاف
شخص تقريباً إلى الجنوب ولكن لحقت بهم هزيمة ماحقة في معركة الحلوة. وكانت الهزيمة
شديدة لدرجة جعلت البدو، حلفاء المصريين، ينتزعون منهم الخيول ليهربوا عليها من
ساحة المعركة بأسرع ما يمكن. وترك المصريين مدفعيتهم كلها. وفر خالد وإسماعيل بك
وبعض الضباط المصريين مع فصيل صغير. وهكذا، ففي تموز 1837 تم دحر قسم كبير من قوات
الاحتلال المصرية في نجد(71). وحاول فيصل استعادة العاصمة، فحاصرها، ولكنه لم
يتمكن من احتلالها بعد شهرين من الحصار.
وكانت قوات المتخاصمين متعادلة مؤقتاً، مع أن إمدادات مصرية وصلت إلى
القصيم في بداية عام 1838 وقد بعثها خورشيد باشا من المدينة. وتم بين فيصل
والمصريين اتفاق نص على تقسيم نجد في الواقع إلى قسمين. ظل فيصل مسيطراً على شرقي
الجزيرة والبريمي وجزء من جنوب نجد. وكانت أواسط نجد خاضعة رسمياً لخالد(72).
ولكن خورشيد باشا وصل شخصياً إلى نجد في حزيران (يونيو) 1838. وكانت من
المهمات الرئيسية لحملته كالسابق جمع الجمال لِإرسالها إلى الحجاز. وفي عنيزة جاء
عبد الله إلى خورشيد باشا من حائل وأقنعه بالاعتراف به أميراً لمنطقة جبل شمر
الخاضعة للمصريين(73).
وجاء شيوخ القبائل البدوية الكبرى ليعبروا عن خضوعهم لخورشبد باشا.
وطوال عدة أشهر قام خورشيد باشا بتعزيز عنيزة كقاعدة رئيسية له وبنى فيها قلعة
متينة.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1838، توجه المصريون إلى الرياض وانضمت إليهم
متطوعة بقيادة خالد بن سعود. وكان مجموع ما عند خورشيد من قوات 4 آلاف مقاتل و10
مدافع. وتحركت تلك القوات نحو الجنوب للقضاء على فيصل المتمركز في الدلم. وبعد
حصار استمر أكثر من شهر سقطت الدلم في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1838. وللمرة
الثانية، اضطر فيصل للسفر إلى مصر بمثابة أسير. وللمرة الثانية سقطت أواسط الجزيرة
مدمرة تحت أقدام المصريين(74).
الفترة
الأخيرة من الاحتلال المصري. استمر حكم خورشيد باشا كعامل لمحمد علي في نجد سنة ونصف. وكان
المصريون هذه المرة يعتبرون نجد لا دولة معادية يجب تدميرها وتخريبها، بل جزءاً من
ممتلكاتهم الدائمية. وكان خورشيد يأمل في بسط سلطته من أواسط الجزيرة إلى الأحساء
وعمان(75) وربما العراق أيضاً(76). وفر أمير الأحساء عمر بن عفيصان الموالي لفيصل
وأعرب الباقون عن خضوعهم للمصريين الذين أرسلوا حامياتهم إلى مدن شرقي الجزيرة.
وحاول خورشيد باشا عبثاً "أن يرغم حاكم البحرين على دفع الجزية
مجدداً لصنيعة المصريين أمير نجد خالد ووضع جزيرة تاروت وقلعة الدمام تحت السيطرة
المصرية وكذلك تسليم عمر بن عفيصان الذي فر إلى البحرين(77). وبدأ القلق على
الإنجليز.
ومنذ عام 1838، كان القنصل البريطاني العام في القاهرة الكولونيل
كامبيل قد حذر محمد علي من محاولات التمركز في منطقة الخليج، ومنها البحرين.
وأصدرت السلطات البريطانية في الهند أمراً إلى الأميرال ف. مايتلاند قائد العمارة
البحرية في الخليج بأن يدافع عن البحرين عند الاقتضاء(78).
وعندما سمع حاكم البحرين عبد الله آل خليفة أنباء انتصار محمد علي في
الشام والجزيرة العربية فضل دفع جزية رمزية إلى خورشيد بمبلغ ألفي ريال سنوياً مع
أنه رفض أن يكون له ممثل في جزر البحرين.
وفي عامي 1838 و 1839 ظهر وجود مصري في الكويت أيضاً. فقد وصل مخبر من
خورشيد باشا إلى المشيخة لشراء أغذية. وكتب لوريمير أن هذا المخبر كان على ما يبدو
يؤدي وظائف سياسية وتجسسية فيما يخص نية خورشيد باشا لانتزاع العراق من الأتراك.
وكان حاكم الكويت جابر الصباح يخشى المصريين لدرجة كبيرة، حتى أنه قدم للمندوب
المصري مكان الشرف في مجلسه إلى جنبه. وكان رد فعل الإنجليز شديداً جداً بهذا
الخصوص.
وفي الوقت نفسه أخذ خورشيد باشا يزحف نحو عمان. ونصب هناك صنيعته سعد
بن مطلق الذي كان يخدمه مثلما يخدم الأمير السعودي فيصل. وأيدته أبو ظبي والشارجة،
ولكن دبي وأم القيوين امتنعتا عن تأييد المصريين. وكان المقيم البريطاني الكابتن
هانيل قد زار إمارات الساحل ووقع اتفاقيات مع أربعة من حكامها الذين وعدوا بتأييد
الإنجليز. وكتب هانيل رسالة إلى سعد بن مطلق ينصحه فيها بالعودة إلى نجد، وأخذ
يحرض قبائل عمان ضده.
كانت قوات محمد علي تحقق الانتصارات في المعارك في عسير ولكنها لم
تتمكن من السيطرة على البلد. وفي أيلول (سبتمبر) ، 1837، قام أهل عسير بانتفاضة
جديدة. وتم إخماد الانتفاضة في أيار (مايو) 1838، ولكن أحمد باشا المقيم في مكة
وإبراهيم باشا كوجوك الموجود في الحديدة كانا في عام 1840 ما يزالان يشنان حملة
غير موفقة(79).
ويعزى استيلاء بريطانيا على عدن في عام 1839، إلى الرغبة في الحيلولة
دون تقدم المصريين في عسير واليمن وإنشاء قاعدة بحرية بريطانية ومحطة للفحم في
القسم الشمالي من المحيط الهندي.
في عام 1840، انهارت إمبراطورية محمد علي. فأصدر أمره إلى قواته
بالجلاء عن نجد واليمن في آذار (مارس) 1840. وفي حزيران (يونيو) سار على قدم وساق
انسحاب قوات خورشيد من نجد والمنطقة الشرقية وانسحاب قوات إبراهيم كوجوك من اليمن.
كان محمد علي بحاجة إلى تحشيد قواته قريباً من مصر تحوطاً لما إذا كانت ستنشب حرب
كبرى بين مصر وفرنسا من جهة، وبين تركيا والإنجليز وحلفائهم من جهة أخرى.
وغادر المصريون أواسط الجزيرة العربية إلى الأبد. لكن أحداً لم يكن
يعرف ذلك آنذاك. فقد تركت في نجد حاميات رمزية من جنود مصريين. كان عليهم أن
يرفعوا العلم ويدعموا خالد(80).
الفصل
السابع
الدولة
السعودية الثانية (1843 _ 1865)
في العقد الخامس من القرن التاسع عشر
أزيحت مصر في الواقع من المسرح السياسي في الجزيرة العربية. ولم تكن لدى الباب
العالي بعد إمكانية ورغبة في التدخل النشيط تنفي شؤون نحد، وكان الإنجليز مشغولين
بتعزيز مواقعهم على ساحل الخليج العربي وخليج عمان وفي عمان نفسها، ومن جديد تركت
أواسط الجزيرة وشأنها وتهيأت فيها الظروف لبعث الدولة السعودية في أراض محدودة.
من
جلاء المصريين حتى عودة فيصل: لم يتمكن الأمير خالد من البقاء في دست الحكم بعد جلاء قوات
خورشيد من أواسط الجزيرة إلا عاماً واحداً. وعندما استسلم محمد علي في عام 1840،
أبدى الباب العالي ادعاءه في نجد متحججاً بأن الذي احتلها كان والياً للسلطان
العثماني، ولذا يجب اعتبار خالد تابعاً للعثمانيين. وعلى أي حال، هذا ما قاله
المؤرخ التركي المعروف جودت(1). إلا أن مواقع خالد كانت تضعف وتتدهور. فقد كان
مكروهاً من قبل الجميع بوصفه صنيعة للمصريين. وخلال فترة نفيه إلى مصر تكونت لديه
فكرة ما عن التعليم الأوروبي، الأمر الذي أضر به في نجد، ولم يخدمه على ما يبدو.
وكان قد انهمك في الملذات مما ألحق ضرراً كبيراً بسمعته. أما الجنود المصريون
المتبقون فقد انخرطوا في الابتزاز ولم يكونوا يستلمون رواتبهم(2). وبدأت النزاعات
القبلية الإقطاعية من جديد.
وعندما توجه خالد إلى خورشيد باشا في آب (أغسطس) 1841 لتوديعه رفع راية
الانتفاضة أحد أقربائه البعيدين وهو عبد الله بن ثنيان، أبن حفيد مؤسس الأسرة
السعودية والممثل الوحيد لفرع آل ثنيان الذي حكم نجد في فترة ما. وكان أبن ثنيان
قد فر في السابق إلى قبيلة المنتفق في جنوب العراق ثم ظهر في نجد وحظي بتأييد حاكم
الحريق تركي الهزائي الحليف السابق للإمام فيصل وآل الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وكذلك قبائل سبيع وعجمان وآل مرة. وفي الخريف سحب خالد قواته إلى المنطقة الشرقية
أما طلباً للنجاة وأما أملاً في استجماع القوى. ولكنه لم نعد بعد ذلك إلى الرياض
مطلقاً.
وبعد خروج خالد فرض أبن ثنيان سيطرته على نجد. وكانت لديه في البداية
بضع مئات فقط من الأتباع، ولكن عددهم ازداد كثيراً فيما بعد. وفي أواخر عام 1841
استولى أبن ثنيان على الرياض. وبعد أن وافقت الحامية المصرية في القلعة على الجلاء
تحررت نجد بالكامل من القوات الأجنبية. ويبدو أن الحاميات المصرية الأخرى قد
تفرقت. فنحن لا نعرف عنها شيئاً بعد الآن(3).
حاول أبن ثنيان تعزيز مركزه كأمير للرياض، ولكن سلطته لم تشمل في
الواقع القصيم وجبل شمر والمنطقة الشرقية. وقد وجه حملته الأولى إلى الأحساء عندما
كان خالد ما يزال موجوداً فيها مع فصيل من المرتزقة المصريين. ومني خالد بهزيمة
ففر إلى البحرين ثم إلى الكويت، ومن هناك إلى الحجاز حيث أقام وأخذ يستلم راتباً
من محمد علي(4).
وأرسل أمير نجد إلى الهفوف عمر بن عفيصان الذي تمكن بالتدريج من فرض
سيطرة النجديين على هذه المنطقة واستطاع أن ينتزع العقير من البحرانيين.
كانت أساليب أبن ثنيان قاسية، وربما كانت موروثة عن الاحتلال المصري.
فقد كان كثيراً ما يفتك بخصومه، مثل آل سديري الذين عارضوه، وذلك خلافاً لتقاليد
الجزيرة العربية التي تنص على العفو عند المقدرة. وكان الأهالي يكرهونه لأنه حاول
على ما يبدو أن يجمع المزيد من الأموال بشكل زكاة من البلد المدقع. وكان المؤرخ
الشمري ضاري بن الرشيد يعتبره رجلاً شجاعاً ولكنه أراق دماء كثيرة وقتل كثيراً من
المؤمنين. كان الناس يكرهونه ويحبون فيصل(5).
هرب فيصل بن تركي من مصر في عام 1843 بعد أن كان أسيراً فيها منذ عام
1838. ويعتقد بعض المؤرخين أن عباس باشا حفيد محمد علي ساعده على الفرار. والأغلب
أن محمد علي وورثته أدركوا أن وجود أمارة مستقلة في أواسط الجزيرة العربية يجعلها
خصماً للإمبراطورية العثمانية(6).
ووصل فيصل إلى جبل شمر حيث استقبله عبد الله آل رشيد وأخواه عبيد
بالترحاب بوصفه صديقاً قديماً. كانت سلطة عبد الله قد شملت كثيراً من القبائل غير
الشمرية. "كان جميع البدو من القصيم حتى حوران، ومن بلاد أبن سعود في شرقي
نجد حتى جبال الحجاز، خاضعين وملزمين بالاعتراف بسلطة أبن رشيد حيث يدفعون له
الزكاة"(7). وعندما اقتضت الحاجة الاختيار بين السيطرة المصرية والتبعية
لفيصل اختار عبد الله التبعية، ولا سيما أن فيصل كان صديقه الشخصي، الأمر الذي
يعتبر عاملاً سياسياً ليس بقليل الأهمية في ظروف الجزيرة. وعرض حاكم حائل على
الأمير فيصل رجالاً ودواباً ونقوداً، وعبأ أبن ثنيان أنصاره ولكن أفراد عساكره
سرعان ما بدأوا يفرون.
ومما أعاق خطط فيصل العداء بين أهالي جبل شمر و القصيم، وخصوصاً بين
أهالي جبل شمر ومدينة بريدة. وكان متوقعاً إن حاكم بريدة سيضمر العداء لفيصل لأن
أبن رشيد صار من أنصاره. إلا إن مدينة عنيزة ربطت مصيرها بمنافسة أبن ثنيان.
وانتقلت نجد بالتدريج إلى جانب فيصل. في البداية انتقلت القصيم، ثم
سدير والوشم. وفر أبن ثنيان إلى الرياض وحظي فيصل بتأييد قبائل سبيع والسهول
والعجمان وكذلك مطير. وفي صيف 1843، سقطت الرياض وتم القبض على أبن ثنيان وتوفي في
السجن في تموز (يوليو) من العام نفسه، ويعتقد المؤرخ ضاري بن الرشيد إن حرس السجن
أعدموا الأمير المخلوع، فقد كان بينهم أشخاص قتل الأمير أقاربهم في حينه. وعندما سلم
فيصل منافسه إلى هذا الحرس كان قد حكم عليه بالموت بهذه الطريقة(8).
وبعثت الإمارة النجدية من جديد بعد تسع سنوات من الفوضى والصراع
الداخلي والاحتلال الأجنبي. وصار فيصل سيداً في دياره من جديد لمدة تقرب من عشرين
عاماً. كانت القوى المركزية تعمل بسرعة كبيرة على توحيد مناطق أواسط الجزيرة
وشرقيها كلما ظهرا شخصية قوية وانعدام التدخل الخارجي المباشر.
ومما لا ريب فيه إن فيصل كان حاكماً قوياً. وكانت لديه خبرة الحياة في
مصر الأكثر تطوراً وخبرة الحكم في ظروف الجزيرة العربية والقدرة على الجمع بين
الشدة واللين والاستعداد للمساومة مع الإصرار. وكانت الصلات المتزايدة مع المصريين
والأتراك والإنجليز قد حملت أمير الرياض على إبداء المزيد من الاعتبار للعالم
الخارجي.
بعث
إمارة السعوديين في الرياض. نشأت الدولة السعودية الجديدة على مساحة من الأراضي أقل من
أراضي أمارة الدرعية. وكانت الحركة الانفصالية قوية فيها رغم الاستقرار المتزايد.
ويقول فيلبي سرعان ما استأنفت نجد في عهد فيصل "سير الأمور الطبيعي المعتاد،
ولكن ذلك لم يكن على الإطلاق مرادفاً للحياة في سلام ووئام وازدهار، لتلك الأمور
التي كانت على الدوام ظواهر نادرة أو تتخللها ظواهر أخرى في البادية"(9).
كانت المهمة الأولى للأمير بعد السيطرة على المناطق الوسطى في نجد
استعادة المنطقة الشرقية. وفي خريف 1843، حاصر مدينة الدمام التي يسيطر عليها
البحرينيون. وفي تلك الأثناء نشب في جزر البحرين نزاع داخل الأُسرة الحاكمة وفر
الحاكم السابق إلى القسم القاري واستقر في الدمام، وفي الوقت نفسه سدد فيصل الضربة
إلى قبائل المناصير وآل مرة وبني هاجر
التي ساعدت على تموين القلعة.
وفي آذار (مارس) 1844، استسلمت حامية البحرين. واستولت العساكر النجدية
على غنائم كبيرة. وبدلاً من البحرينيين ترك أمير الرياض في القلعة حامية نجدية من
مائة شخص. ووافق حاكم البحرين الجديد محمد بن خليفة على استئناف تسديد الإتاوات
السنوية للرياض وتسديد الديون مقابل تصفية منافسه. وهكذا بدأ فيصل مرحلة جديدة من
حكمه حيث دمر قوات البحرانيين التي لم تكن كبيرة ولكنها كانت تقض مضجعه، واستأنف
سيطرته على جزر البحرين(10).
واندلعت في المنطقة الشرقية انتفاضات مرتبطة بالصراع بين قبيلتي بني
خالد و العجمان. كان بدو العجمان يسلكون الطريق المعتاد لنزوح قبائل الجزيرة. من
الجنوب إلى الشمال أو من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي. وكانوا قد نزحوا من
نجران ضعفاء مشتتين. ولم تكن لدى النازحين الجدد مراعٍ خاصة بهم، فصاروا يعتمدون
على القبائل الأخرى حيث تحولوا إلى زبائن لها غير متكافئين. بيد أن الأمير التركي
أخذ يدعمهم وهيأ لهم إمكانية الإقامة في المنطقة الشرقية، وهي منطقة عائدة
تقليدياً لبني خالد، ويبدو أن من أهداف هذه الإقامة إيجاد قوة توازن لمواجهة بني
خالد ووجهائهم الذين كانوا يتمردون على الرياض بين الحين والآخر، وكانوا ينافسون
أُمراءها في وقت ما.
وصار العجمان أكثر قوة وجسارة. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1845، هجم
عليهم فيصل بعساكر كبيرة، وفي عام 1846 دمرهم عن بكرة أبيهم. وحضر صغار شيوخ
العجمان وحلفاؤهم من سبيع إلى الإمام فيصل وأعلنوا عن خضوعهم له. وطوال خمسة عشر
عاماً لم يسمع أحد شيئاً عن العجمان(11).
وبعد أن فرض فيصل سيطرته على المنطقة الشرقية انشغل بالجنوب، بالافلاج
ووادي الدواسر. ففي عام 1845، أرسل قواته إلى الافلاج لِإخماد القلاقل هناك(12).
وعندما كان أمير الرياض مشغولاً بإخماد حركة العجمان وإحلال النظام في المناطق
الجنوبية من نجد اندلع من جديد العداء القديم بين القصيم وجبل شمر. وسدد عبيد ضربة
شديدة إلى فصيل من عنيزة ونظم عبيد آل رشيد شعراً بخصوص انتصاره. وفيما بعد، عندما
زار الجزيرة شارلز دوتي، وهو من أعظم الرحالة الإنجليز، سمع ذلك الشعر تتناقله
الألسن(13). كانت قصيدة عبيد افتخاراً عادياً بالنصر. فهو يتبجح بكونه قد قتل 90
من الأعداء حتى تعبت يده من حمل السيف وتخثر دم الأعداء على كُمه. وواجه أبن رشيد
صعوبة كبيرة في تهدئة فيصل الذي استشاط غضباً بسبب الحرب بين أتباعه. وبعث حاكم
جبل شمر إلى أمير الرياض رسالة توضيحية منظومة، يقال أنها أثرت في فيصل تأثيراً
حسناً(14).
وطالما كان عبد الله بن رشيد على قيد الحياة ظلت العلاقات ودية بين
حائل والرياض. واعتبر عبد الله نفسه تابعاً لفيصل، ولكنه احتفظ باستقلالية واسعة.
وبالإضافة إلى الصداقة التي تربط بين الأميرين فقد ربطت بينهما صلة القربى، إذ
تزوج عبد الله الابن الأكبر لفيصل من ابنة عبد الله بن رشيد، بينما تزوج طلال أبن
حاكم حائل من ابنة فيصل(15). وكان عبيد، شقيق حاكم حائل، يقضي كل سنة شهرين أو
ثلاثة في الرياض حيث يحل ضيفاً على فيصل. وقد توسعت منطقة جبل شمر إلى الشمال. ففي
عام 1838، مثلاً، انضمت إليها منطقة الجوف وهي واحة كبيرة تقع على بعد 350
كيلومتراً تقريباً شمال غربي حائل.
وفي أيار (مايو). حزيران (يونيو) 1837، توفي عبد الله وحل محله ابنه
طلال البالغ الخامسة والعشرين من العمر، وبعث إلى الرياض إبلاً وخيلاً بمثابة هدية
تعبر عن استمرار تبعيته للحكومة المركزية(16).
مشكلة
القصيم: الصراع مع العجمان. لم يتمكن فيصل من فرض
سيطرته بصورة تامة على القصيم. وكانت هذه المنطقة، كما تفيد حسابات يوبير
الخاصة بالسبعينات، تضم حوالي 20 مدينة وقرية. وكان في بريدة التي تعيش بالأساس
على تجارة الإبل والنقل بالقوافل حوالي 10 آلاف نسمة(17). وقبل ستينات القرن
التاسع عشر حكمها أكبر إقطاعيي المنطقة. آل عليان. وكان عدد سكان عنيزة، حسب معطيات
يوبير، 18 _20 ألفاً. وكان يعيش حوالي ألف شخص آخرين في القُرى المحيطة بها(18).
وكان أمراء الأسرة الإقطاعية التي حكمت عنيزة، آل زامل، شأنهم شأن سائر الأمراء،
ينتمون إلى وجهاء البدو الذين استقروا وتحولوا إلى حضر، ولكن سلطتهم على العكس،
كانت مُقيدة كثيراً. ونعت الرحالة عنيزة بأنها "جمهورية مدنية"، ونعتوا
أميرها بأنه "أول المتكافئين"، وقالوا عنه أيضاً أنه بمثابة "رئيس
جمهورية منتخب"(19).
وكان القول الفصل في شؤون عنيزة يعود للأثرياء من أهاليها الذين يقدمون
إلى المقطوعة جملاً أو جملين مع اثنين أو أربعة من الهجانة ويدفعون بدلاً دائمياً
للصرف على الحرس والعبيد وتسديد أجور الرعاة وتكاليف الضيافة العامة. وكانوا
يشاركون مع الأعيان والوجهاء الإقطاعيين في تصريف شؤون عنيزة عن طريق مجلس
الأمارة(20). ويصادف أن تتوتر العلاقات بين الوجهاء الإقطاعيين والتجار وبين فقراء
المدينة، الأمر الذي تدل عليه بصورة غير مباشرة ملاحظة دوتي: "… الكثير من
الفقراء يعارضون زامل بغضب مكشوف يلومونه وهو صبور حكيم"(21).
وفي عام 1846_1847، عندما غزا شريف مكة نجد أبدى أهالي القصيم
استعدادهم للتعاون معه(22). وبعد انسحاب الحجازيين غيّر أمير الرياض حكام المدن
الرئيسية. إلا أن شتاء وربيع 1848_ 1849 تصرما في إخماد انتفاضة جديدة في القصيم.
فالوجهاء المحليون لم يتعرفوا بالأمراء الذين عينتهم السلطة المركزية، إذ كانوا
يؤيدون هذا الفرع من العوائل الحاكمة سابقاً أو ذاك. وكان القتل يعقب الخيانات،
الخيانة تعقب فترات السلم، وكانت المبايعة تعقب العصيان المتكرر، ولكن المنطقة ظلت
غير خاضعة.
وكان أمير بريدة عبد العزيز آل عليان هو الزعيم المعترف به للمنطقة.
وقد نحاه فيصل عدة مرات ولكنه كان يعيَّنه من جديد كل مرة. وغدا عبد العزيز حاكماً
لبريده من جديد في مطلع عام 1851. ويبدو أن أمير الرياض لم يتمكن من الحصول على
تأييد وجهاء القصيم ولم يستغن عن المساومة مع زعيمها المعترف به(23).
وفي السنوات الثلاث اللاحقة انصب اهتمام أمير الرياض على غزوات مختلف
القبائل. ففي أيار(مايو) 1854، تمردت عنيزة من جديد. ولم يكن وجهاؤها، وخصوصاً آل
زامل راضيين عن حكم جلوي عامل الأمير فيصل، في القصيم. ويقول دوتي أن حاكم القصيم
هذا كان ينهب السكان ويستأثر بأموالهم(24). وبدأ التمرد.
وكانت مشاركة الفقراء في هذا التمرد قد أضفت عليه صبغة جديدة. فقد هب
ضد مضايقات أمير الرياض القسم الأكثر فقراً من السكان، في حين لم يؤيد التجار
الأثرياء المتمردين. وعلى أثر جلوى فر من عنيزة الشيخ عبد الله أبو بطين الذي كان
قاضياً لهذه المدينة مدة طويلة وأخلص الولاء للرياض. وصار عبد الله بن يحيى آل
زامل الملقب سليم أميراً لعنيزة.
وفي أواخر 1855، انتهى التمرد صلحاً. واضطر فيصل إلى تنحية حاكم
المنطقة الذي عينه بنفسه، بينما ظل زعيم المتمردين عبد الله بن يحيى في منصبه(25).
وفي أواسط الخمسينات هطلت أمطار غزيرة وكان المحصول جيداً فهبطت
الأسعار. إلا أن وباء الكوليرا تفشى في نجد آنذاك.
كان الوباء قد بدأ في الهند ونقل الحجاج عدواه إلى مكة في عام 1846،
وانتشر منها في أوروبا وأمريكا.
وفي عام 1860، واجه أمير الرياض تمرداً جديداً من العجمان الذين صاروا
أكثر جسارة. وأرسل الأمير قوات كبيرة بقيادة أبنه عبد الله إلى الشرق، حيث نشبت
على مسافة ثلاثين كيلومترا تقريباُ جنوبي مدينة الكويت في 9 نيسان (إبريل) 1860
معركة جديرة بالتقليد البدوية الجاهلية. فقد أجلسوا الفتيات من قبيلة العجمان
وبنات أو قريبات الشيوخ في هوادج خاصة على سبعة جمال. وأسبلت سبع من أجمل بنات
عوائل الوجهاء شعورهن وارتدين أفضل ملابسهن وظهرن في مقدمة البدو يطلقن صيحات
الحرب. وكان المحاربون متحمسين إلى أقصى حد، لأنهم يرون بأم العين أنهم سيحاربون،
فيما يحاربون، من أجل سلامة بناتهم الحسناوات اللواتي يمثلن شرف القبيلة. وكانت
المعركة دموية لأن العجمان واجهوا قوات من أبناء المدن والحضر الأكثر تنظيماً
وانضباطاً وهي قوات عززها محاربون من قبائل سبيع والسهول وقحطان ومطير. وقُتل
حوالي 700 من العجمان ففروا تاركين الفتيات والجمال وكل ما يملكون. واختبأ في
الكويت من ظل على قيد الحياة. وعمت البهجة والاحتفالات بهذا الحاث في الرياض وكذلك
في البصرة والزبير اللتين تضررتا من غزوات العجمان وأرسلتا بعد النصر هدايا ثمينة
إلى عبد الله(26).
إلا أن النصر الحقيقي كان بعيداً. فالعجمان احتفظوا بقوات كثيرة
وتحالفوا مع قبيلة المنتفق القوية في جنوب العراق. وسرعان ما بدأت القبيلتان غزو
أطراف البصرة والزبير والكويت.
وأعلن فيصل الجهاد. ونشبت معركة الجهراء في 27 آذار (مارس) 1861، وتم
من جديد دحر العجمان والمنتفق. وحاصر النجديون خصومهم ودفعوهم إلى مياه الخليج،
وعندما ارتفع المد ابتلعت المياه 1500 محارب ممن لم يكونوا مطلعين على هذا النوع
من الأخطار. وأثار النصر موجة جديدة من الفرح في العراق وقي نجد على حد سواء(27).
إلا أن انتصارات عبد الله الدموية على العجمان قد تركت لعشرات السنين حقداً عليه
في هذه القبيلة، الأمر الذي كان فيما بعد من الأسباب التي حرمته عرشه.
وبعد النصر شرقاً توجه عبد الله إلى القصيم. وقرر عبد لعزيز أمير بريدة
الهرب خشية مواجهة مخاطر أكبر، فتوجه إلى عنيزة ومنها إلى مكة. إلا أن فصيلاً
أرسله عبد الله بن فيصل اختطف عبد العزيز في الطريق وقتله مع أبنه. واختطف أبناً
آخر لحاكم بريدة ممن كانوا قد شاركوا في حملة عبد الله على العجمان وقتل في
السجن(28).
وعلى الرغم من الانتصارين الكبيرين في 1860 _ 1861 فقد واجهت إمارة
فيصل خطراً جديداً. وكان مبعثه هذه المرة أيضاً هو القصيم، وخصوصاً عنيزة، كان
أهالي عنيزة قد نعتوا تمردهم على الرياض في 1854 _ 1855 بالحرب الأولى، أما
العمليات الحربية التي بدأت في 1862 فقد نعتوها بالحرب الثانية.
ظهر محاربون من عنيزة في ضواحي بريدة، ونشبت صدامات في المنطقة كلها.
وأعلن فيصل الجهاد من جديد. ونشبت معركة كبرى في أطراف عنيزة في 8 كانون الأول
(ديسمبر) 1862. وذكر دوتي تفاصيل تلك المعركة(29). ساعدت النساء رجال عنيزة
بتزويدهم بالماء وحمل الجرحى. وكان رجال عنيزة مسلحين ببنادق الفتائل. وقاتل
محاربو أمير الرياض أساساً بالرماح والسيوف. وفي معمعان المعركة هطلت الأمطار
فتعطلت بنادق فصيل رجال عنيزة فاندحروا وأبيدوا عن بكرة أبيهم تقريباً. وقتل منهم
حوالي 200 شخص. وكانت عساكر أمير الرياض حوالي ألف محارب. ويتضح من ذلك نطاق
العمليات الحربية.
واضطر أهالي عنيزة إلى الاحتماء بأسوار مدينتهم. وفي بداية عام 1863
استلمت عساكر أمير الرياض قرب عنيزة إمدادات من جبل شمر والمنطقة الشرقية. وكانت
لدى قوات الحصار عدة مدافع. وطلب رجال عنيزة الصلح(30). ولما كان أمير الرياض
عاجزاً عن تدمير عنيزة وافق من جديد على العفو عن أهالي المدينة وإبقاء حكامهم
السابقين(31).
علاقات
نجد مع الحجاز والحكومة العثمانية في عهد فيصل. كانت علاقات نجد مع الحجاز معقدة
دوماً. وظل الباشوات العثمانيون في جدة والمدينة وشريف مكة يدعون بحق التدخل في
شؤون أواسط الجزيرة. وفي عام 1846 شن الشريف محمد بن عون حملة على نجد متحججاً
برفض فيصل دفع الإتاوات للباب العالي. وقد جرت العادة على أن يدفع أمير الرياض 10
آلاف ريال، وربما كان ذلك من شروط "فراره" من مصر(32). والحجة الأخرى
لحملة الشريف هي القلاقل في القصيم التي جعلت حاكم مكة يأمل في الحصول على مساعدة
فعالة في هذه المنطقة(33).
كانت عساكر محمد بن عون يتكون من حوالي ألفي شخص، وهم بالأساس من
البدو. ومعهم فصيل صغير من القوات التركية النظامية. وفي ربيع 1847 وصل الشريف إلى
القصيم دون أن يواجه مقاومة في الطريق. إلا أن فيصل كان يستعد بهمة للحرب. وكانت
القوى متعادلة تقريباً، فكان الطرفان يتحاشيان الاشتباك في معركة. وأرسل فيصل
"هدية" إلى محمد بن عون، وهي في الواقع إتاوة لمرة واحدة بمبلغ 10 آلاف
ريال ومعها خيول وإبل(34). ويبدو أن الاتفاق ينص من جديد على دفع 10 آلاف ريال
سنوياً، ولكن من الصعب القول بكيفية تنفيذه. وفي عام 1854 _ 1855 أثناء القلاقل في الحجاز تخلف فيصل
عن إرسال الجزية(35).
حاولت السلطات العثمانية أن تحقق في عسير واليمن ما لم يتمكن موالي مصر
من تحقيقه. وفي نيسان (إبريل) 1849، قامت القوات التركية بإنزال من السفن الحربية
في الحديدة. ووصل إلى الحديدة أيضاً فصيل بقيادة شريف مكة محمد بن عون. ووافق إمام
اليمن على وجود حامية عثمانية في صنعاء ودفع الإتاوات إلا أن الأتراك انهزموا في
عسير واليمن عام 1851 _ 1852.
وعزز شريف مكة مواقعه وأقام علاقات طيبة مع قبائل عسير ومع قبيلة حرب
الحجازية، كما أقام ارتباطاً مع عباس باشا والي مصر. إلا أن هذا السلوك بالذات
أثار ارتياب السلطات العثمانية. وفي عام 1852، وصل إلى والي جدة أمر بنفي الشريف
محمد بن عون وأبنيه الأكبرين إلى العاصمة العثمانية. وأمكن القيام بذلك بخديعة
غادرة. وعين المدعو عبد المطلب شريفاً لمكة(36).
اجتاحت الحجاز في الخمسينات قلاقل خطيرة كان من أسبابها تأخر دفع رواتب
الجنود الأتراك سنة كاملة. وفي 1855 _ 1856 فقد الأتراك مؤقتاً السيطرة على مكة
وتعين عليهم أن يبذلوا جهوداً كبيرة لاستعادة سلطتهم هناك بإعادة أبن عون الذي ورث
أبنه عبد الله منصبه بعد عامين. وطرد أهالي عسير الحاميات العثمانية. ولم يتمكن
الأتراك من إرسال القوات بانتظام إلى سواحل الجزيرة العربية على البحر الأحمر
واحتلال عسير من جديد في عام 1871 إلا بعد شق قناة السويس عام 1869(37).
في عام 1858، قتل في جدة نائب القنصل البريطاني ونائب القنصل الفرنسي
وأربعة عشر من الرعايا المسيحيين، ونهبت منازلهم. وفر الذين ظلوا على قيد الحياة
إلى الفرقاطة البريطانية "سايكلوبس" التي قصفت المدينة وقامت بإنزال
فصيل بريطاني غير كبير. وبحضور الإنجليز قطعت رقاب 11 شخصاً، ثم جرى إعدام مدير
الشرطة ورئيس الحضرميين والقائم مقام(38).
ومع أن أمارة الرياض، آنذاك، كانت في الواقع مستقلة عن الإمبراطورية
العثمانية التزم فيصل بقدر كبير من الحذر وسعى إلى تحاشي الصدام مع الأتراك. لم
يقم غزوات على الشام والحجاز والعراق. وفي عام 1855 وعام 1860 أكد فيصل في
مراسلاته مع الإنجليز بشأن الأوضاع في الخليج بأنه يعتبر نفسه تابعاً للباب
العالي(39). وكان هذا التأكيد نافعاً له في علاقاته مع الإنجليز. وكان الموظفون
العثمانيون، عندما تقتضي مصالحهم، يتحدثون أيضاً عن السيادة العثمانية في أواسط
الجزيرة.
التناقضات
بين أمارة الرياض وبريطانيا في منطقة الخليج: كتب ج. لوريمير عن السياسة البريطانية
إزاء أمارة الرياض يقول "إنها عدم التدخل في إمارات الساحل والمقاومة
المعتدلة في سلطنة عمان والمعارضة بلا هوادة في البحرين" . وهو يرى أن هذه
السياسة مبعثها "هجمات الوهابيين العدوانية المتواصلة على طول خط
الساحل"(40).
إلا أن أمير الرياض كان يعتبر المناطق الساحلية ملكاً له. فقد تحدث
الأمير فيصل عن دولته إلى بيلي وقال له ما فحواه: إنها تشمل أراضي الجزيرة العربية
من الكويت عبر القطيف ورأس الخيمة وعمان ورأس الحد وكل ما يقع وراء ذلك. هذا ما
وهبنا الله(41). وأضاف فيما بعد: مسقط تابعة لنا. وقد أخذناها بقوة السلاح(42).
ويرى أمير الرياض أن الإنجليز عندما يفرضون حمايتهم على حكام الساحل إنما يتدخلون
فيما لا يعنيهم(43). ولكن فيصل يعرف قوة بريطانيا.
ظلت العلاقة بين فيصل وحكام الكويت ودية(44). إلا أن حرباً طويلة الأمد
كانت قائمة بين نجد والبحرين.
ولم تسفر الصدامات الجديدة بين أمارة الرياض والبحرين في عام 1845 _
1846 عن انتصار لِأي من الطرفين. ولم يستمر الصلح طويلاً. ففي خريف 1850 اندلعت
الحرب من جديد بين نجد والبحرين. واحتلت عساكر فيصل قطر. وحظي أمير الرياض، بدعم
من فرع انقلب على عائلة حكام البحرين، الأمر الذي ساعده في تكوين أسطول له
والتحضير لِإنزال على جزر البحرين. إلا أن عمارة بريطانية أرسلت آنذاك للدفاع عن
البحرين، فأنقذت حاكمها من الهزيمة. واضطر فيصل إلى الاتفاق بشأن الصلح مع
البحرانيين، ولكنه تمكن من جعلهم يدفعون الإتاوات والديون السابقة. كما إنه نصب في
قلعة الدمام منافسي حكام البحرين(45).
وفي عام 1859، عند ما تهيأ النجديون للهجوم من جديد على البحرين أبلغ
المقيم البريطاني في منطقة الخليج، الكابتن جونس، الأمير فيصل بأن الحكومة
البريطانية تعتبر البحرين "إمارة مستقلة" وهي مستعدة للدفاع عنها دون أي
هجمات(46).
وفي عام 1861، فرض الكابتن جونس بمدافع العمارة البريطانية على شيخ
البحرين اتفاقية كالاتفاقيات التي اضطرت الإمارات الصغيرة على ساحل الصلح البحري
أن تقبل بها في السابق. وغدا البحرين محمية بريطانية ولم تعد تتعرض لادعاءات
الحكام السعوديين. صحيح أنها ظلت تدفع الإتاوات لأمير الرياض لقاء ممتلكاتها في
قطر.
وفي العام نفسه، حاول الإنجليز إن يخلصوا أنفسهم من التبدلات غير
المتوقعة في العائلة الحاكمة البحرانية وبعثوا إنذاراً لفيصل يطالبونه فيه بطرد
منافس حاكم البحرين من الدمام.وقصفت العمارة البريطانية الدمام دون إن تنتظر وصول
الجواب. وفر من القلعة محمد بن عبد الله آل خليفة(47).
وفي عام 1867، نشبت من جديد معركة بين عساكر أمير المنطقة الشرقية
والبحرانيين.ويقول النبهاني،مؤرخ البحرين، إن تلك كانت آخر معركة في البحرين لأن
الإنجليز وصلوا بعد ذلك.
وكانت عمان أيضاً موضع تنافس بين النجديين والإنجليز. وبعد أن عاد فيصل
إلى دست الحكم في عام 1845 سرعان ما أرسل إلى البريمي قوات بقيادة سعد بن مطلق.
وكان هذا العقيد حاكماً للبحرين حوالي ثلاثين عاماً وخدم عند تركي ثم عند أبنه
فيصل في العهد الأول من حكمه، وعند خورشيد باشا وخالد ثم عند فيصل من جديد، وكان
مطلعاً إطلاعاً ممتازاً على شؤون عمان. وطلب الشيوخ المحليون النجدة من الإنجليز،
إلا أن هؤلاء كانوا ما يزالون يتحاشون التدخل المباشر في شؤون البر.
وعلى أثر وصول سعد بن مطلق إلى البريمي طالب عدداً من الحكام المحليين
بدفع الإتاوات، ومنهم سلطان مسقط وحاكم الصحار. وعزز مطلبه بإرسال فصيل إلى مسقط.
إلا أن الإنجليز أخذوا يمارسون الدوريات عند ساحل الباطنة، فانسحب سعد بن مطلق
ووافق على استلام جزية سنوية من مسقط مقدارها 7 آلاف ريال.
وفي عام 1848، تمكن حاكم أبو ظبي من الاستيلاء على البريمي. إلا أن
منافسيه من دبي والشارجة ساعدوا أبن مطلق على العودة بعد بضعة أشهر. ثم نحاه فيصل
من منصبه عام 1850 وسرعان ما توفي.
وفي آذار (مارس) 1850، عندما تقلصت الحامية النجدية في البريمي إلى 50
شخصاً، استولى حاكم أبوا ظبي على البريمي من جديد. وفي عام 1853 وصلت إلى هنا
عساكر بقيادة عبد الله، أبن الإمام فيصل. وأسرع شيوخ العشائر وحكام إمارات الساحل
للأعراب عن خضوعهم للرياض. فقد كان نفوذها كبيراً آنذاك، إلا أن المعتمد البريطاني
الكابتن كمبيل تمكن من مقابلة الحكام المحليين وإرغامهم على توقيع "معاهدة
الصلح الدائمية". ووصلت عساكر النجديين إلى مسقط فأنقذتها العمارة البريطانية
من جديد، إلا أن حاكمي الصحار ومسقط التزما بدفع 12 ألف ريال سنوياً إلى الرياض.
وفي كانون الأول (ديسمبر) 1853، غادر عبد الله واحة البريمي بعد أن عين
أحمد السديري حاكماً لها، وظل هذا الأخير في منصبه حتى عام 1857. ورغم التبعية
للإنجليز ظلت مسقط والصحار وإمارات الخليج تدفع الإتاوات لإمارات الرياض. ولم تكن
الأراضي التي يشرف عليها النجديون محددة بدقة، فهي تتقلص تارة وتتسع تارة أخرى، مع
أن لديهم أحياناً عمال جباية الزكاة في قسم كبير من أراضي عمان. وورث منصب أحمد
السديري أبنه تركي الذي ظل حاكماً للبريمي من 1857 حتى 1869(48).
النظام
الاجتماعي السياسي والحياة الاقتصادية في الدولة السعودية الثانية. كان أمير الرياض، مثلما
في الدولة السعودية الأولى، إماماً للمسلمين، أي أنه قائد عام وحاكم أعلى وكذلك
رئيس السلطة التنفيذية. وكان يبت شخصياً في أهم مسائل السياسة الداخلية والخارجية
والقضايا المالية والحربية ويتخذ القرارات بشأن الغزوات أو الصلح ويشرف بنفسه على
تنفيذها ويراقب استقبال وإرسال الممثلين الدبلوماسيين واستلام وإرسال الرسائل
الرسمية، ويمارس الشؤون المتعلقة بالحلفاء والأتباع والجيران والقبائل البدوية.
ولم يكن بلاطه كبيراً، كما لم يكن مثقلاً بالرسميات وبالجهاز
البيروقراطي. وفي أهم المسائل كان الأمير يتشاور مع أقرب أقربائه الذين يعتبر
ولاءهم له أسمى من المصالح المحلية. ولعبت عائلة آل الشيخ كذلك دوراً هاماً مع أن
أحداً منها لم يبلغ منزلة الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه(49).
وكان توزيع المناصب المربحة والرفيعة قد ساعد على تلبية المطالب
المتعارضة لإفراد العائلة. وأعلن فيصل إن عبد الله وريثه وأشركه في الشؤون الحربية
وفي حكم الرياض والمناطق الوسطى. ومنح فيصل ابنه الثاني سعود المنافس لعبد الله استقلالاً
كبيراً في حكم المناطق الجنوبية. وسلمت إلى محمد، الابن الثالث، المناطق الواقعة
شمالي العاصمة. ومال محمد إلى عبد الله في خلافه مع سعود. وكان الابن الأصغر عبد
الرحمن الذي كان سيغدو فيما بعد أب مؤسس الدولة السعودية الجديدة قد ولد في عام
1850 وكان آنذاك صغير السن لا يصلح لوظيفة مستقلة(50). إلا إن تقسيم الإمارة بين
أبناء فيصل ساعدهم على كسب أنصار في مناطقهم، الأمر الذي هيأ أساساً للنزاعات
المرتقبة التي أدت إلى تمزيق الدولة السعودية الثانية.
وتدهورت صحة فيصل في السنوات الأخيرة من حياته. فعندما كان في مصر
أُصيب بالرمد، وربما بالتراخوما، وغدا أعمى كليا عندما قام العقيد ل. بيلي ممثل
الإدارة الإنكلوهندية بزيارته الثانية إلى الرياض. وكان فيصل آنذاك في حوالي
السبعين من العمر فلم يتمكن من تصريف شؤون دولته بنشاط فسلم زمام الأُمور إلى عبد الله. وكتب ر. ويندر يقول
"إن عائلة السعوديين أفرزت في اللحظات الحاسمة أقوى الأشخاص الذين يتمتعون
بالفطنة وقوة الطباع والذين تمكنوا من السيطرة على مختلف العناصر الانفصالية في
مملكتهم الشاسعة واستطاعوا أن يؤمنوا العدالة الصارمة"(51). وكان من هؤلاء
الرجال الأشداء فيصل بن تركي ورغم موقف الإنجليز المعادي لإمارة السعوديين أعترف
المقيم البريطاني ل. بيلي قائلاً: "ما كان بوسعي إلا أن ألاحظ إن الأمير
فيصل، في رأي الجميع، كان حاكماً عادلاً صارماً وموفقاً إلى أقصى حد في قمع
العادات الوحشية للقبائل. وكان يريد أن يغرس بينها عادات أكثر تنظيماً ويوجه
اهتمامها إلى الزراعة والتجارة. وكان يخيل لي أنه لا أحد يحب الأمير، ولكن الجميع
معجبون به. وكانوا يتحدثون عنه برهبة اختلط فيها الاحترام بالكراهية على نحو
طريف"(52).
وبعد اللقاء الأول مع فيصل رسم بيلي صورته على النحو التالي:
"وجدت الإمام جالساً في الركن الأبعد للغرفة على سجادة صغيرة جذابة متكئاً
بظهره إلى تكية ثقيلة …وعندما اقتربت منه نهض بصعوبة. أخذ يدي وتلمسها.كان ضريراً،
إلا أن محياه رائع بتقاسيم معتدلة وتعلوه مسحة من الهدوء والصرامة والاطمئنان. كان
يبدو قي أكثر من السبعين، وملابسه فاخرة تنم عن ذوق رفيع. وعلى كوفيته عمامة من
حرير أخضر. نبرات صوته عذبة وكلماته هادئة موزونة كانت هيئته تدل على الاعتزاز
بالنفس وتكاد تتسم بالرقة. ولكن المرء يشعر بأنه يمكن أن يكون قاسياً دون
رحمة"(53).
إن درجة السيطرة المركزية القائمة في مختلف مناطق وأقاليم الدولة
السعودية الثانية، شأنها شأن الدولة السعودية الأولى، تختلف من منطقة لأخرى وتتقلص
كلما ابتعدت المسافة عن الرياض. ويعود دور للوضع الداخلي في هذه المنطقة أو تلك
ولوزنها النسبي وللمعتقدات الدينية عند أهلها. وكان حاكم الرياض يعين الأمراء
وكذلك علماء الدين قي المنطقة الوسطى.
وكانت من أسباب القلاقل قي القصيم محاولات أمير الرياض لتقوية سلطته
هناك. وقد أضطر إلى ترك أبناء الوجهاء المحليين في أماكنهم.وكانت العلاقات مع جبل
شمر معتدلة إلى حد مدهش، وذلك لأن الرياض لم تحاول بسط سيطرتها بصورة مباشرة على
جبل شمر واكتفت بالتبعية الاسمية. وكانت هناك علاقات ودية بين الأُسر الحاكمة وقد
عززها التزاوج بينها. وكانت الأُسر بحاجة إلى مساعدة بعضها بعضاً عسكرياً.
وكان أمراء الهفوف يعينون دوماً من بين النجديين.ولم يكن سكان المنطقة
الشرقية متعاطفين كثيراً مع الرياض والوهابيين، إلا أن أهمية هذه المنطقة كبيرة
لدرجة جعلت أمير البريمي يرى ضرورة
الاحتفاظ بحاميات دائمية هناك.
وكانت للنجديين حامية في البريمي، كما عين لها أمير من الرياض. إلا أن
مجموعة واحات البريمي احتفظت بسمات المنطقة الجبهوية أكثر من الهفوف.
وكما كان الحال في الأزمان السالفة ظل الاحتفاظ بالرهائن في العاصمة
وسيلة لإرغام المناطق والقبائل على الولاء.وعندما دعا فيصل بيلي لزيارة السجن قال
له إنه سيرى هناك الآن حوالي سبعين من شيوخ العشائر(54).
وكانت القبائل البدوية على درجات متباينة من التبعية لأمير الرياض، إلا
أن فيصل لم يتمكن قط من السيطرة عليها بالشكل الذي كان في زمن الدولة السعودية
الأولى. فقد شهدت سنوات حكمه الكثير من التمردات البدوية المتواصلة.
وكانت الوهابية في الدولة السعودية الثانية قد فقدت جزئياً طابعها
المتعصب المتشدد. ويبدو أن الخبرة الشخصية التي اكتسبها فيصل في مصر قد أوحت إليه
إن المصريين والحكومة العثمانية أقوى بكثير من نجد وإن استفزازهم بإبداء مظاهر
التعصب الديني يعني جلب الهلاك لنجد.إلا أن المشاعر الدينية كانت تشتد في بعض
الأحيان.
كان التنظيم العسكري لإمارة الرياض في عهد فيصل مثلما كان في عهد
السعوديين الأوائل. فقد كان على كل مدينة أو قبيلة أن تقدم في حالة الاستدعاء
عدداً معيناً من المقاتلين والدواب. وكانت تلك الأرقام تدوّن في سجلات تعتبر كذلك
أساساً لجباية الزكاة. وعندما يصدر الأمير أمراً بالتعبئة يخبر الحكام المحليين
بعدد المحاربين الذين يحتاج إليهم، بينما يتحمل هؤلاء الحكام مسئولية جمعهم
وتموينهم. ويشمل الاستدعاء عادة نصف العدد الإلزامي للمحاربين وفي الحالات
الاستثنائية تستدعي كل القوات طبعاً. وكان المحاربون يأتون مع سلاحهم الخاص
وماشيتهم. وكانت الحكومة، من الناحية النظرية، تقدم العتاد اللازم.وكان
الفرسان أكبر شأناً، لذا كانوا يتمتعون
بالامتيازات.
كانت كل قبيلة أو مدينة تشكل في عساكر أمير الرياض وحدة خاصة لها
رايتها.
وعندما تنتهي الحملة الحربية يجري حل العساكر كلها. ولا تستلم المتطوعة
رواتب منتظمة، إلا أن أربعة أخماس الغنائم تقسم بين المحاربين. حصة للمشاة أو
الهجانة وحصتان للفرسان. ويحال إلى بيت المال خمس الغنيمة. ولدى الأمير فيصل من
الحرس الشخصي مكون من حوالي 200 عبد ومعتوق، كانوا عند الاقتضاء يمارسون وظيفة
الشرطة.وكان السكان الحضر يشكلون نواة عساكر نجد(55).
كانت لدى النجديين بضعة مدافع، ولكن من المشكوك فيه أنهم استخدموها إلا
في حالات نادرة جداً. ولم يتخذ فيصل خطوات جدية لتشكيل أسطول حربي. فبدلاً من ذلك
كان يعول على شبه الأتباع كالبحرين. وبديهي أن حكام السواحل كانوا يجدون الاعتذار
للتملص من تنفيذ مطالبه. زد على ذلك أن على المعاهدات التي فرضها الإنجليز عليهم
قيدت إمكانيات العمل بالاشتراك مع الرياض(56).
ولم تكن الضرائب في عهد فيصل لتختلف عنها في ظل الدولة السعودية
الأولى.. كان الزراع يدفعون زكاة الحبوب فقط والثمار القابلة للكيل والحفظ: 10/%
من محاصيل الأراضي الديمية و 5% من محاصيل الأراضي السيحية. وكان البدو يدفعون
زكاة الماشية في حدود 2.5_5% من قيمة الذهب والفضة، وكذلك النسبة نفسها من قيمة
بضائع التجار. ويمكن أن يعفى من الزكاة الذين يحصلون على دخل سنوي أقل من الحد
المعين. إلا أن ضرائب إضافية تطبق في حالة الحرب(57).
وكما كانت الحال سابقاً تتوارد على بيت المال مكوس الحج وإتاوات مسقط
والبحرين والإمارات الأخرى وعائدات ممتلكات حاكم الرياض.
ولا يمكن حساب المداخيل العامة للدولة على وجه التدقيق. وقدم العقيد
بيلي أثناء زيارته للرياض جرداً تقريبياً للسكان والمداخيل والعساكر. وتفيد
حساباته أن سكان نجد والأحساء، والمقصود على ما يبدو الحضر فقط، بلغوا 115 ألف
نسمة، وأن المداخيل 692 ألف ريال وأن عدد المحاربين 7900(58). أما البدو فقد حدد
عددهم الإجمالي بـ 20 ألفاً ومداخيلهم بـ 114 ألف ريال. وهكذا بلغت مداخيل الدولة،
في رأي بيلي، 806 آلاف ريال. وهو يضيف أليها إتاوات مسقط وجبل شمر والبحرين
والأقاليم الأخرى، وكذلك مليوني ريال تجبى من الحجاج(59). وربما كانت هناك مبالغة
في أرقام العائدات، بينما قد يكون عدد الحضر والبدو أكثر من الرقم المذكور. وحتى
بيلي أخذ في الحسبان الذكور الراشدين فقط.
وقدر بلغريف المداخيل العامة للدولة بما يعادل 160 ألف جنيه
إسترليني(60).
والمعلومات المتوافرة عن نفقات الدولة السعودية الثانية أقل من تلك.
وإذا أهملنا نفقات أسرة الأمير وبلاطه فأن نصف النفقات، على ما يبدو، يصرف على
الأغراض الحربية، بينما يخصص الباقي للشؤون الاجتماعية _ صيانة الآبار والمساجد
وكذلك معونات المرضى والعجزة ورواتب الموظفين الذين تعينهم الحكومة المركزية ورجال
الدين والمعونات المقدمة إلى الشيوخ المحليين وأمراء الأقاليم(61).
وكان قسم كبير من الزكاة يسدد عيناً، ولكنه يدفع نقداً في بعض المناطق.
وكانت العملة الرئيسية هي الريال الذهبي (ريال ماريا تيريزا)، ومع ذلك
استخدم في التداول الشلن الإنجليزي والنقود العثمانية والفارسية الذهبية والفضية.
وفي المنطقة الشرقية غالباً ما كانت تستخدم النقود الهندية. وفي منطقة سواحل
الخليج استخدم ما يسمى بالنقود الطويلة، وهي قطع نقدية معدنية مستطيلة تشبه
الأبزيم النسوي وعليها كتابة عربية. كانوا يصكونها من النحاس ويضيفون أليها قليلاً
من الفضة. وكانت هناك نقود طويلة فضية(62).
وفي عهد فيصل صار تصدير الخيول العربية الأصيلة بابا لعائدات ثابتة.
وكانت خيول جبل شمر تصدى عبر الكويت، أما الخيول الأخرى فتصدر عبر القطيف والعقير.
وفي عام 1862، بيع عن طريق الكويت 600 من الخيول العربية بسعر متوسط قدره 150 ريال
للرأس الواحد. وأرسل عباس باشا من مصر عدة بعثات لشراء الخيول. وكان الرحالتان
الأوربيان المعروفان فالين وغوارماني قد زارا الجزيرة العربية بحجة شراء الخيول. إلا
أن عدد الخيول المتبقية في عام 1864 كان قليلاً جداً، واتضح أن الخيول التي أرسلها
فيصل إلى الأستانة سيئة للغاية مما أثار استياء الباب العالي الذي منع تصدير
الخيول طوال أربعة أعوام. ولم يكن بالإمكان تطبيق هذا المنع عملياً(62).
وقبل اكتشاف البترول كان صيد اللؤلؤ هو العمل الرئيسي لسكان سواحل
الخليج. إلا إن الأحساء أقل شأناً في صيد اللؤلؤ من البحرين وإمارات الصلح البحري
وقطر. وكان لؤلؤ الخليج يرسل إلى بومباي، ومن هناك يباع إلى أوربا. ونجد عند
لوريمير وصفاً ضافياً لصيد اللؤلؤ مع قواعده الاجتماعية والمالية الثابتة. ومع أن
ما كتبه لوريمير يخص عام 1906 إلا أن اللوحة التي رسمها من المستبعد أن تكون قد
تغيرت منذ ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر. ولئن كان قد مارس صيد اللؤلؤ في
سواحل إمارات الصلح البحري 22 ألف شخص، وقي قطر 13ألف شخص وفي البحرين 18ألف شخص
وفي الكويت 9200، ففي واحة القطيف مارسه حوالي 3400شخص فقط(64).
***
تمكنت الدولة السعودية الثانية من الانبعاث والنهوض بسبب توقف التدخل
الخارجي في شؤون نجد. وكانت مصلحة قسم كبير من وجهاء وأعيان نجد وتجارها وصناعها
وزراعها في التوحيد وتأييد الفقهاء الوهابيين وارتفاع منزلة آل سعود قد مكنت فيصل
من بسط سيطرة الرياض على قسم كبير من أواسط الجزيرة وشرقيها. إلا أن علائم الضعف
والخوف، وأحياناً عجز السلطة المركزية، والنزعة لانفصالية لدى الإقطاعيين ونزوات
القبائل البدوية كانت واضحة لدرجة كبيرة لا تجعل أحداً من المعاصرين يتوقع لإمارة
الرياض عمراً مديداً. وكان إقليم جبل شمر القوي حليفاً أكثر من كونه تابعاً طيعاً.
ودافعت القصيم عن استقلاليتها في تمردات متكررة. وكانت القبائل البدوية تتحدى فيصل
المرة.بعد المرة. وخيم ظل الإمبراطورية البريطانية من جهة الخليج وبحر العرب،
وكانت قد ابتلعت في الواقع الإمارات الصغيرة على سواحل شبه الجزيرة. وأضيف إلى ذلك
كله تعمق الخلافات والانقسام داخل أسرة أمير الرياض.
الفصل
الثامن
سقوط إمارة الرياض
ونهوض إمارة جبل شمر 1865 _ 1902)
الانقسام
في عائلة الأمراء. توفي فيصل بن تركي في كانون الأول (ديسمبر) 1865. وفي الحال بدأ
الصراع من أجل السلطة بين أبنائه. وتسلم مقاليد الحكم ولي العهد عبد الله الذي حظي
بتأييد سكان العارض وكذلك أخيه الأصغر محمد. وكان أخوه _سعود_ منافساً له. وأخذ
الإنجليز الذين لهم مصلحة قي إضعاف إمارة الرياض يشجعون مطامع سعود. كان عبد الله
يسعى في إمارته الضعيفة غير المستقرة إلى تقوية المركزية فأثار بذلك استياء
الوجهاء والأعيان في الأطراف(1).
ويقول بلغريف إن عبد الله كان رجلاً نشيطاً شجاعاً، ولكنه كان صارماً
قاسياً، الأمر الذي يروق لسكان المدن المحافظين. أما سعود فكان صريحاً سخياً يحب
الفخفخة، الأمر الذي يروق للبدو(2). إن فيلبي منفق مع أقوال بلغريف هذه بالخطوط
العريضة(3).
كانت أم سعود و إحدى زوجاته من قبيلة العجمان الذين يكرهون عبد الله
وصاروا من اخلص حلفاء سعود. أما قحطان فقد أيدوا عبد الله(4).
وكان أول ما فعله عبد الله بعد أن تولى الحكم هو قضايا عمان وليس
الصراع مع أخيه، فهذا الصراع سيأتي وقته. قبيل وفاة فيصل كان أبن قيس حاكم الرستاق
في عمان، وهو من أبناء فرع جانبي للعائلة الحاكمة في مسقط، قد ثار على قريبه ثويني
سلطان مسقط وطلب المساعدة من تركي آل سديري حاكم البريمي.وتم في أواخر عام 1864
طرد قوات ثويني بمساعدة فيصل تركي آل سديري. وأنتهز حاكم الرياض فيصل هذه الفرصة
فحاول إرغام سلطان مسقط على دفع إتاوة له مقدارها 40 ألف ريال بدلاً من 12 ألفاً،
وعزز طلبه هذا بإرسال قوات إلى هناك(5). إلا إن ثويني وافق، بنصيحة من الإنجليز،
على دفع 12 ألفاً فقط. وفي العام نفسه استولى على مدينة صور ثوار أيدهم فيصل من
النجديين بقيادة عبد العزيز بن مطلق، شقيق سعد بن مطلق الشهير. بديهي أن المدينة
تعرضت للنهب وكان بين المتضررين تجار هنود ورعايا بريطانيون. وعجز ثويني عن طرد
النجديين فدفع لهم 10 آلاف ريال، ثم 6آلاف أخرى.
وأخذ الإنجليز يساعدون ثويني وبعثوا باحتجاج إلى الرياض. ووافق عبد
الله الذي أمسك بزمام الحكم في الإمارة على إطلاق سراح جميع الأسرى الذين تم القبض
عليهم في صور وإعادة الأملاك ولكنه لم يقل شيئاً بخصوص التعويضات(6).
وأوصى بيلي السلطات البريطانية في الهند بمساعدة سلطان مسقط(7).وسرعان
ما أرسل إليه المدافع. وتلقى أمير الرياض في الوقت نفسه إنذارا يطالب بتقديم
الاعتذار والوعد بعدم تكرار مثل هذه الأعمال في المستقبل ودفع التعويضات، وإلا
فالإنجليز يهددون بتدمير قلاع الأمير على الساحل والاستيلاء على سفنه. وانتقل
الإنجليز من التهديدات إلى الأفعال. فقد اطلعت السفينة الحربية البريطانية
"هاي فلاير" النار على عجمان التي كانت مرفأ للنجديين على ساحل عمان في
الخليج. وفي بداية شباط (فبراير) 1866، دمرت القلعة في القطيف وعدة سفن صغيرة في
مرفئها وبعد محاولة فاشلة لإنزال قوات في الدمام أطلقت "هاي فلاير"
النار عليها. ثم قصفت السفينة البريطانية صور المتمرد ودمرت فيها زوارق السكان.
إلا أن السلطان ثويني قتل آنذاك على يد أبنه سالم، الأمر الذي خلق المصاعب أمام
المناورات السياسية للإنجليز(8).
وبدأت مراسلات بين عبد الله والمعتمد البريطاني بيلي. وسعى أمير الرياض
إلى الحيلولة دون تدهور العلاقات وإلى تأمين اعتراف الإنجليز به حاكماً للإمارة
وإبعاد الدسائس البريطانية المحتملة وتوجيهها صوب سعود، ولذلك اتفق عن طريق ممثله
مع بيلي بشأن التسوية(9).
كان عبد الله يدرك أن الإنجليز ضده، لذا لعب لعبة الضعيف فحاول أن يجد
في الأتراك عوناً له على الإنجليز، الأمر الذي كلفه غالياً في آخر المطاف.
وفي تلك الأثناء استجمع سعود القوات في مناطق جنوب نجد للصراع في سبيل
عرش الرياض. وعزز عبد الله عاصمته(10)، وعبأ سكان المدن وبدو نجد ووجههم ضد أخيه
المتمرد. وبعد أن أُصيب سعود بجراح ثخينة فر من ساحة المعركة إلى بدو آل مرة، ونكل
أمير الرياض بأنصار سعود وعاقب القبائل والواحات المتمردة في وادي الدواسر.
وبعد أن عالج سعود جراحه تعدى أخاه عبد الله من جديد بعد أربعة أعوام.
استمرار
النزاعات: في أواخر الستينات نشب في البحرين من جديد صراع داخل الأسرة الحاكمة،
وأسفر هذا الصراع عن فرار أحد أفراد العائلة ولجوئه إلى السعوديين وشن غزوات
متبادلة وَتدَخل الإنجليز الذين الذين لم
يسمحوا لأمير الرياض هذه المرة أيضاً بأن يبسط نفوذه على البحرين(11).
اجتاحت القلاقل عمان بعد مقتل ثويني. وكان عهد حكم سالم الذي قتل أباه
قصيراً. فقد انتهى بتمرد جديد قام به عزان بن قيس من الرستاق الذي استولى على مسقط
في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 1868.
وقد رفع راية الإباضية المحافظة. واستمرت السلطة الجديدة في ساحل عمان حتى عام
1871 فقط، ولكنها ظلت باقية عشرات السنين في المناطق الداخلية.
وفي عام 1869، قتل أمير البريمي تركي آل سديري في الشارجة عندما حاول
التدخل في النزاع المحلي. وفي حزيران (يونيو) 1869، تمكنت القبائل المحلية بعد
الاتفاق مع عزان من الاستيلاء على البريمي بمساعدته. وقد رفعت تلك القبائل رايات
الإباضية وتوجهت ضد الوهابيين الذين تعتبرهم زنادقة(12).
في تلك الآوانة اعترف الإنجليز بأن البريمي جزء من الدولة السعودية،
وقد كتب المندوب البريطاني في مسقط المقدم ديزبرو في آب (أغسطس) 1869 يقول:
"إن عزان، حسب تقديراتي، قد استولى على البريمي ظلماً وعدواناً وبلا مبرر.
ولا بد له من توقع انتقام الوهابيين"(13).
لم يكتف عزان بالاستيلاء على البريمي، بل رفض دفع الإتاوة للرياض. وكان
رد فعل عبد الله حازماً، إذ كتب إلى عزان بأنه ينوي التوجه نحوه بعشرين ألف
محارب(14). وفي تلك الأثناء كان سعود قد تحالف مع عزان. ونشأ ضد عبد الله ائتلاف
بين سلطان مسقط الجديد عزان وحاكم أبو ظبي وسعود بن فيصل. وحول شقيق عبد الله أن
يقوم بهجوم على قطر، ولكنه هزم والتجأ إلى البحرين. وظهر تصور بأن الإنجليز يقفون
من وراء ظهر سعود، وربما لم يكونوا يقدمون له مساعدة مباشرة، ولكنهم، على أي حال،
لم يعترضوا على أعماله(15).
استمرار
نهوض جبل شمر. في آذار (مارس) 1868، انتحر حاكم حائل طلال آل رشيد، الأمر الذي يعتبر
من أندر الظواهر في شبه الجزيرة. وأشار المؤرخ أبن عيسى إلى ذلك الحادث قائلاً أن
طلال اختل عقله فانتحر(16).
ومع أن أمير حائل حكم المنطقة الواسعة بصورة مستقلة تقريباً، فإنه لم
يعلن القطيعة أبداً مع فيصل وابنه عبد الله، بل كان يقدم لهما مساعدة عسكرية
كبيرة. وكانت وفاة طلال قد هيأت الإمكانية لِإعادة النظر في العلاقات المتبادلة
بين حكام حائل والرياض، وخصوصاً عندما توفي بعد عام واحد عبيد بن علي عم طلال
العجوز والمتنفذ في الوقت نفسه. كان عبيد من أنصار التعاون مع آل سعود. وقد نعته
بلغريف بالتعصب(17) أما في رأي آن بلانت فهو "البطل الرئيسي لتقاليد
شمر"(18)، وهو شجاع كريم سخي. وكان تقدير دوتي لعبيد رفيعاً أيضاً، حيث
اعتبره عقيداً وشاعراً تتناقل الألسن قصائده(19).
كان طلال قد فرض سيطرته على خيبر وتيماء الواقعتين شمالي المدينة
المنورة. ومع أن حاكم حائل كان يتصرف بصورة مستقلة بقدر كاف، فمن المشكوك فيه أنه
كان يستطيع أن يجمع قوات شديدة البأس تكفي لتحدي حاكم الرياض.
كان أمير شمر يتميز بالتسامح الديني وقد سمح للشيعة واليهود بأن يقيموا
ويتاجروا في حائل، وكان يجبي منهم ضرائب غير قليلة(20). وكتب بلغريف "إن
التجار من البصرة ومشهد _ علي وواسط والباعة من المدينة وحتى من اليمن كانوا
يستقرون في سوق حائل الجديد بعد عروض مغرية. وقدم طلال لبعض منهم مقاولات رسمية،
وهي نافعة لهم وله بقدر واحد. ومنح البعض الآخر امتيازات وتسهيلات، وكان يولي
الجميع الدعم والحماية"(21). وبالأموال الواردة إلى بيت المال من الغزوات والحج
والتجارة أنجز طلال قلعة بارزان وانشأ حول العاصمة سوراً ارتفاعه سبعة أمتار، وبنى
حي السوق ومسجداً كبيراً وكثيراً من الآبار العامة(22).
وإذا كان الدين في جبل شمر لا يلعب دور القوة التوحيدية الأولى فأن
التعاضد القبلي أدى هذه الوظيفة. وحتى الحضر في حائل والمدن الأخرى كانوا يعتبرون
أنفسهم من أبناء شمر بالدرجة الأولى، و "موحدين" بالدرجة الثانية. لقد
لعب البدو في أمارة جبل شمر دوراً أكبر مما في أمارة الرياض. إلا أن سيطرة قبيلة
واحدة كانت تؤمن استقرار السلطة في منطقة محدودة، ولكنها كانت عائقاً أمام توسيع
إمارة جبل شمر، لأنها تثير حفيظة القبائل القوية الأخرى.
كان طلال يدفع الإتاوات لفيصل وعبد الله بشكل خيول وحصة من الضريبة
المفروضة في حائل على الحجاج الفرس وحصة من الغنائم. إلا أن نفوذ الرياض في أواسط
الجزيرة أخذ يضعف، بينما صارت الراية الخضراء الحمراء لِإمارة جبل شمر ترتفع. وكتب
فالين بحق منذ عهد عبد الله بن الرشيد: "إنني اعتبر أهالي شمر دون ريب من
أنشط القبائل في الجزيرة حالياً. وإن سلطتهم ونفوذهم يشملان جيرانهم أكثر فأكثر من
عام لآخر(23).
وورث متعب شقيق طلال العرش. وبعد عشرة أشهر قُتل متعب في مجلسه بيد
بندر الابن البكر لطلال، وصار بندر أميراً، ولكنه ظهر لدية منافس خطر هو عمه محمد
بن عبد الله آل رشيد، الابن الثالث لمؤسس السلاة. وقد قتل هذا بندر في عام 1874،
مع علمه بأن الثأر ينتظره وأخذ الأمير الجديد يلاحق إخوان بندر الخمسة فانتقم من
أربعة منهم. واعترفت جبل شمر بالأمير الجديد. ومع أن حكمه بدأ بالانتقام الدموي من
منافسيه، فأنه دشن عهداً من الازدهار والسلطة القوية في الأمارة(24). وكتب فيلبي
يقول "لم تكن الحكومة فعالة أبدا مثلما كانت في عهده"(25). وتعتبر
كتابات ضاري بن رشيد التي استخدمها ويندير على نطاق واسع أهم مرجع في تاريخ آل
الرشيد منذ وفاة طلال حتى استيلاء محمد على السلطة.
وخلال أمد طويل لم تخرج أمارة آل الرشيد عن إطار جبل شمر وأقرب الواحات
إليها _ خيبر وتيماء والجوف. وقدر الرحالة عدد السكان الخاضعين لحائل في أواخر
القرن التاسع عشر (قبل ضمها إلى نجد) ما بين 20 و 50 ألف نسمة من الحضر، ومثل هذا
العدد تقريباً من البدو. وتفيد معطيات أخرى أن عدد البدو يمكن أن يكن ضعف عدد
الحضر(26).
كان حاكم جبل شمر يلقب بالأمير أو شيخ المشايخ، أي أنه ظل زعيماً
لاتحاد قبائل شمر التي يعتمد عليها(27). وكان آل رشيد يحكمون بمساعدة أقربائهم ومفارز
خدمهم الشخصيين. وفي ظل الصراع المتواصل تقريباً داخل الأسرة الحاكمة وعدم الثقة
بالأقرباء كان الأمير يعتمد أكثر فأكثر على مفارز الخدم والمرتزقة المصريين
والأتراك. وتفيد معطيات فالين أن مفرزة الأمير تتكون من 200 شخص تقريبا(28)، ويذكر
رحالة الستينات _ الثمانينات من القرن التاسع عشر الرقم 500 _ 600. ومهم 20 شخصاً
يشكلون حرس الأمير الأكثر إخلاصاً، وحوالي 200 شخص كانوا في حائل أما الباقون
فيرافقون التجار والحجاج وجماعات جباة الزكاة ويؤدون حسب الدور الخدمة في الحاميات
في المناطق الملحقة بالأمارة.
وكان بين أفراد مفارز الأمير محاربون بسطاء و "رجال شيخ
المشايخ". وهذا المصطلح يطلق على كبار "أفراد المفرزة وكذلك على
المقربين إلى الأمير، وعموماً على كل من يتمتع بثقة خاصة لديه. والكثيرون منهم
متحدرون من العبيد. وكان "رجال الشيخ" يمثلون كبار الموظفين وقادة
مفرزته والقائمين على أمور القصر وحكام ممتلكات الأمير(29). وبعد أن تطورت الأمارة
صاروا يترأسون مختلف أصعدة جهاز إدارة الدولة. واعتباراً من سبعينات وثمانينات
القرن التاسع عشر كان بين أكثر المتنفذين في الأمارة، كما يقول الرحالة، صاحب
المضايف في القصر وصاحب بيت المال والكاتب الأول وحامل الراية والجليس ووزير آل
الرشيد(30).
كان أمراء جبل شمر ملتزمين بتقاليد كرم الضيافة التي يرمز أليها القدر
النحاسي الضخم الذي يحمله بصعوبة أربعة من الرجال الأشداء. وفي ثمانينات القرن
التاسع عشر كان القصر يستضيف يومياً 150 _ 200 شخص، ويصل هذا العدد إلى 1000 شخص
أثناء مرور القوافل الكبيرة(31).
ومع تطور نظام الدولة طبقت الشريعة باتساع متزايد، مما ضيق على العرف
والعادات. وهذا أمر أشار أليه الرحالة(32). وكان من بين العقوبات قطع الأيدي
ومصادرة الأموال على العصيان ضد الأمير والسجن على السرقة وعلى رفض دفع الزكاة،
والجلد بالعصي على الضرب والإصابة بجراح، والغرامات المالية(33). واستخدم مقر آل
رشيد السابق بمثابة سجن، إلا أن الرهائن والسجناء الذين يتمتعون بمنزلة رفيعة
صاروا منذ ستينات القرن التاسع عشر يحتجزون في مضيف القصر الجديد(34). وكان لحائل
عمالها المباشرون في الأطراف، ولكنهم في الغالب كانوا من الوجهاء المحليين. وظل
شيوخ جميع قبائل البدو يحكمونها كالسابق.
ونظراً لقلة التزام وإخلاص الهجانة البدو أخذ آل الرشيد يعتمدون أكثر
لأكثر على سكان المدن والواحات وعلى حرس من العبيد. وقدر غوارماني الحد الأقصر
لعساكر جبل شمر في ستينات القرن التاسع عشر بـ6.5
آلاف شخص، وإذا أُصيف أليها محاربو المناطق الملحقة يبلغ هذا العدد 9
آلاف(35). ويقول نولدي أن الأمراء في التسعينات كان بوسعهم أن يقدموا 40_ ألف
محارب(35). وكان العساكر يمتطون ظهور الجمال، بينما كان الوجهاء يركبون الخيل. أما
الأسلحة فكانت الرماح والسيوف، وأحياناً السلاح الناري. كما كانت هناك عدة
مدافع(37).
وفي عهد محمد الرشيد (1871 _ 1897) بلغت أمارة جبل شمر أوج ازدهارها.
ففي السبعينات تم الاستيلاء على العال وقرى في وادي السرحان حتى حدود وادي حوران.
وكان استمرار ركود أمارة الرياض والتحالف
مع الباب العالي قد مكنا محمد من بسط نفوذه على مدن القصيم في البداية، ثم في عام
1884 على نجد كلها.
وما كان بإمكان أمارة جبل شمر أن تنهض إلا بتضعضع أمارة الرياض ذات
الكثافة السكانية الأكبر والتي تمتلك قدرة عسكرية كبيرة دون شك. كانت حروب
السعوديين في مطلع القرن وغزوات المصريين الفتاكة والنزاع القبلي المضني قد شملت
جبل شمر بقدر أقل من أواسط نجد. واستفاد عدد من الحكام المحنكين من هذه الظروف
الملائمة بالنسبة لهم فجعلوا من حائل لوقت قصير سيدة لأواسط الجزيرة كلها.
سقوط
أمارة الرياض. استيلاء الأتراك على الأحساء. في خريف 1870 عقد سعود بن فيصل من
جديد تحالفا مع قبائل العجمان وآل مرة ودخل العقير واستولى على الأحساء. وأرسل عبد
الله أخاه محمد على رأس عساكر لاستعادة السيطرة على الأحساء وعاصمته الهفوف. وفي
كانون الأول (ديسمبر) 1870 نشبت في البادية معركة الجودة. وفي اللحظة الحاسمة
التزم بدو سبيع الذين جاءوا مع محمد جانب سعود فحقق هذا نصراً تماماً. وتم القبض
على محمد بن فيصل وزج به في سجن القطيف حيث ظل حتى أطلق الأتراك سراحه. وأعلن
الإقليم الشرقي كله البيعة لسعود(38). وهذا ما أربك أمير الرياض عبد الله بن فيصل
الذي يواجه الهزيمة وادي ذلك إلى ازدياد تدهور الأوضاع في إمارته. وفي تلك الأثناء
حل جفاف مرعب، مما أدى، طبعاً، إلى قلاقل وفتن جديدة(39).
وفي نيسان _ أيار (إبريل _ مايو) 1871 تحرك سعود، أخيراً، نحو الرياض.
وعندما دخل العاصمة نهبت عساكره البدوية هذه المدينة وسكانها لدرجة جعلت الجميع
يحقدون عليه. واندلعت النزاعات القبلية في نجد من جديد. وأشار أبن عيسى إلى أن
السلطة الجديدة كانت ضعيفة فتشوشت الأمور لدرجة أكبر وتدهورت الأوضاع بسبب المجاعة
وارتفاع الأسعار، وصار الناس يأكلون جيف الحمير، ومات الكثيرون بسبب الجوع، بعدما،
تركوا يواجهون الموت والمصائب والنهب والقتل والفساد(40). ولكنه ينبغي، كما يرى ر.
ويندير، إن نأخذ في الاعتبار أن أبن عيسى كان من أنصار عبد الله.
وواجهت الأمارة المحتضرة خطراً جديداً. فأن والي بغداد مدحت باشا، وهو
حاكم عثماني كبير معروف ومن أنصار السياسة النشيطة، قد قرر الاستفادة من الموقف
بإضافة أراضٍ جديدة إلى الإمبراطورية العثمانية التي تقلصت أراضيها. وأسفرت أعماله
في شرقي الجزيرة العربية عن نشوب أزمة دبلوماسية بين لندن والأستانة(41).
وأدعى مدحت باشا بأن السيادة العثمانية تشمل نجد وبإن عبد الله بن فيصل
كان مجرد قائم مقام للأتراك. وكانت الحجة للتدخل هي "استعادة النظام ونجده
القائم مقام المذكور ضد شقيقه العاصي"(42).
وأرسل الأتراك أسطولهم لغزو الأحساء، وقد حصلوا من حاكم الكويت على
حوالي 300 سفينة أخرى. وكانت القوات النظامية مكونة من أربعة آلاف شخص، من المشاة
بالأساس، وكذلك الفرسان والمدفعية. وأرسلت قبائل المنتفق عن طريق البر حوالي ثالثة
آلاف شخص. وفي أيار (مايو) 1871 نزلت القوات التركية في رأس تنورة وزحفت نحو
القطيف دون أن تواجه مقاومة. وبعد معارك غير كبيرة احتل الأتراك المدن والقلاع
الرئيسية في الإقليم كله. وهكذا فقد الأخوات السعوديان الإقليم الشرقي بسبب العداء
العائلي. وفي الوقت نفسه تقريباً فقد السعوديون واحات البريمي. وفي حريف العام
نفسه زار مدحت باشا الأحساء، ولكن محاولة غزو الرياض أخفقت.
واستمر الصراع داخل أسرة آل سعود. وظهر عبد الله في الأراضي المحتلة من
قبل الأتراك، في حين طرد سعود من الرياض مؤقتاً، وقد طرده عمه عبد الله بن تركي
شقيق الأمير فيصل. واستجمع سعود حلفاءه من العجمان وآل مرة وأخذ يهاجم الحاميات
التركية، ولكن دون جدوى(43).
وفي أواخر 1871 ومطلع عام 1872 عاد عبد الله من جديد إلى الرياض، إلا
أن الوضع في الأمارة كان ميئوساً منه. فالمجاعة مستمرة، وكان الناس، كما يقول أبن
عيسى، يأكلون الجيف والجلود وأوراق الشجر(44). وحاول الأخوان أن يتعاونا ضد
الأتراك، ولكن دون جدوى.
وفي آذار (مارس) 1873، عاد سعود مجدداً إلى الرياض. واستمرت المعارك
سجالاً بين الأخوين، واقترنت، كالعادة، بالنهب والقتل. ونظراً لأن عبد الله بن
فيصل أخذ يعتمد على الأتراك زاد الإنجليز من دعمهم لسعود حتى أنهم أرسلوا أغذية
له(45).
وفي منتصف السبعينات ظهر على المسرح عبد الرحمن الابن الرابع للأمير
فيصل. كان قد ولد في عام 1850 على وجه التقريب. ويعتقد ر. ويندير أن عبد الرحمن
يؤيد سعود، بينما يتصور فيلبي أن عبد الرحمن التزم جانب عبد الله(46). ولا يستبعد
أنه كان متذبذباً في اختيار الأخوين الأكبر.
وفي آذار (مارس) 1874، تخلى الأتراك عن حكم الأحساء مباشرة لكي يقللوا
النفقات. وصار زعيم بني خالد وهو من آل عريعر أداة لتنفيذ سياستهم. وكان ناصر باشا
بن سعدون والي البصرة التي تشكلت إدارياً من جديد وزعيم قبيلة المنتفق قد عينه
متصرفاً. وتم سحب القوات النظامية التركية واستبدلت بمفرزة شرطة عثمانية.
وتزعم عبد الرحمن بن فيصل في عام 1874 انتفاضة على الأتراك في الإقليم
الشرقي. والتحق به قسم من قبائل العجمان وآل مرة وبدو آخرون. وأنزل ناصر باشا بن
سعدون في العقير 2400 جندي من القوات النظامية مزودين بأربعة مدافع فتم دحر
الثائرين. والتجأ عبد الرحمن إلى سعود في الرياض. وتعرضت الهفوف لنهب من الغالبين
استمر ثلاثة أيام. وترك ناصر باشا الإقليم في شباط (فبراير) 1875 بعد أن عين
متصرفاً فيه(47).
وكانت سلطة سعود في نجد متضعضعة. ففي أواخر عهده لم تعد جبل شمر
والقصيم تخضعان له. وصارت الرياض مركزاً لإمارة صغيرة مقطعة الأشلاء في أواسط
الجزيرة. وانقطعت العائدات المنتظمة. ولما كان سعود يعتمد على بدو العجمان فأن
سكان الواحات والمدن لم يكونوا راضين عنه.
وفي كانون الثاني (يناير) 1875 توفي سعود، وربما كانت وفاته بسبب
الجدري، مع أن معطيات أخرى تفيد بأنه مات مسموماً(48).
وصار عبد الرحمن بن فيصل حاكماً للرياض: وبدأ يخوض القتال ضد أشقائه
الأكبر وضد حلفائهم من البدو. وفي تلك الأثناء ثار عليه في العاصمة نفسها أولاد
أخيه سعود الذي حل محله. وتوجه عبد الرحمن، خوفاً من أبناء أخيه، إلى عبد الله،
فقرر الأخوة الثالثة تشكيل جبهة موحدة بزعامة عبد الله ضد أولاد سعود الذين تمكنوا
من السيطرة على الرياض بضعة أسابيع. ثم فر أولاد سعود واحتفظوا بحلفائهم في إقليم
الخرج وفي الأحساء.
ودخل عبد الله الرياض من جديد. وخلال السنوات الإحدى عشرة التي مرت على
وفاة فيصل تبدلت السلطة في المدينة للمرة الثامنة(49).
وأورد فيلبي الجدول الزمني التالي للحكم في الرياض بعد وفاة فيصل(50):
عبد الله بن فيصل من 2 ديسمبر 1865 حتى 9 إبريل 1871.
سعود بن فيصل من 10 إبريل 1871 حتى 15 أغسطس 1871.
عبد الله بن تركي من 15 أغسطس 1871 حتى 15 أكتوبر 1871.
عبد الله بن فيصل من 15 أكتوبر 1871 حتى 16 يناير 1873.
سعود بن فيصل من 15 يناير 1873 حتى 16 يناير 1875.
عبد الرحمن بن فيصل من 26 يناير 1875 حتى 28 يناير 1876.
أولاد سعود بن فيصل من 28 يناير 1876 حتى 31 مارس 1876.
عبد الله بن فيصل من 31 مارس 1876.
وفي عام 1878 قامت انتفاضة جديدة ضد الأتراك في الإقليم الشرقي، ولكنها
أُخمدت بعد انتصاراتها الأولى(51).
وكتب دوتي يقول: "الرياض وضواحيها هي كل ما تبقى من ممتلكات
الوهابيين. وغدت الرياض أمارة صغيرة ضعيفة مثل بريدة. إن المدينة الكبيرة المبنية
من الطوف والتي كانت في السابق عاصمة للأواسط الجزيرة غارقة في الصمت. ومضيفها
الفسيح مهجور (قصر الأمير الوهابي المبني من الطوف أوسع من القصر ي حائل). خدم بن
سعود يغادرون نجمه الذاوي ويتوجهون… إلى العمل عند محمد بن رشيد. ولا يخضع أحد من
البدو للوهابيين. القرى الكبيرة في شرقي نجد طردت جامعي الزكاة التابعين لعبد
الله"(52).
وفي عام 1880 ولد لعبد الرحمن وهو الابن الرابع لفيصل، طفل سماه عبد
العزيز، وأمه سارة ابنة أحمد السديري(53). وعندما بلغ عبد العزيز السابعة من العمر
عهدوا بتربيته إلى معلم هو قاضي الرياض.. إلا أن الصبي كان مهتما باللعب بالسيف
والبندقية أكثر من اهتمامه بالدروس الدينية، مع أنه تمكن من قراءة القرآن في الحادية
عشرة من العمر. وفي الرابعة عشرة عندما كان أبوه يقيم في المهجر في الكويت بدأ عبد
العزيز، ملك العربية السعودية فيما بعد، دراسة الفقه والعلوم الدينية الأخرى بصورة
جادة تحت أشراف عبد الله بن عبد اللطيف الذي أصبح فيما بعد القاضي الأول للرياض
ومفتيها. كانت الأشهر التي قضتها أسرة عبد الرحمن في التجوال بين قبائل آل مرة قد
هيأت للأمير الشاب إمكانية التضلع في العادات والأخلاق البدوية وأساليب وحيل
العمليات الحربية للبدو الرحل. وأخذ عبد العزيز، بصحبة أبية أو لوحده، يتردد على
مجالس شيخ الكويت ويطلع على تشابكات السياسة في الجزيرة العربية وعلى قرارات
الأمير القضائية. وكانت الحالة المادية لعبد الرحمن بن فيصل في المهجر مزرية حتى
أنه لم يتمكن من تزويج أبنه الأكبر إلا بمعونة الأصدقاء. وفي هذه الظروف اختمرت
أحلام عبد العزيز الطموح إلى استعادة كرامة العائلة وممتلكات آل سعود وأمجادهم
وثرواتهم(54).
نهوض
أمارة جبل شمر بعد سقوط أمارة السعوديين. أخذت الواحات والمناطق وقبائل البدو
تنفصل الواحدة تلو الأخرى عن الرياض وتنتقل طوعاً أو كرهاً إلى حماية آل الرشيد
وتدفع الإتاوات لهم .ولم توفق محاولات عبد الله لأبعاد قبضة آل الرشيد الثقيلة.
وكان محمد أبن الرشيد يلعب مع أمير الرياض لعبة القط والفأر.
واشتد التنافس في القصيم بين الأسرة الحاكمة سابقاً في بريدة آل عليان
وبين الحكام الجدد من آل مهنا الذين أيدتهم حائل. وكان توزيع القوى على النحو
التالي: الرياض تتعاون مع عنيزة وتعتمد على تأييد عتيبة ومطير، أما حائل فهي تؤيد
بريدة وتتعاون مع قبيلة حرب(55).
وفي تلك الأثناء حاول أولاد سعود بن فيصل أن يتحدوا أبن الرشيد. فجمعوا
قسماً من قبائل عتيبة وبعض سكان واحات العارض، ولكنهم اندحروا(56). إلا أن أمارة
عبد الله الصغيرة كانت تتمزق مزقاً(57).
وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1887، استولى أولاد سعود بن فيصل على الرياض
والعارض وأسروا أمير الرياض. وتمكن الأمير قبل ذلك بقليل من طلب النجدة من حاكم
حائل الذي لم يتردد في قطف الثورة الناضجة. وكان طلب عبد الله حجة بيد محمد بن
الرشيد "لإنقاذه" ولبسط سلطة آل الرشيد على كل ممتلكاته. وتوجه أبن
الرشيد إلى الرياض على رأس قوات كبيرة، ففر أولاد سعود إلى الخرج. وأطلق أمير جبل
شمر سراح عبد الله من السجن ونقلة إلى العاصمة حائل "حفاظاً على
سلامته"، وترك واحداً من أكثر القادة العسكريين إخلاصاً، وهو سالم آل سبهان
الذي لا يعرف الرحمة، أمير للرياض(58).
كان عبد العزيز الذي صار فيما بعد ملكاً للعربية السعودية يرى أن هناك
ثلاثة أسباب لسقوط عمه الأمير عبد الله: "لم يستقم الأمر لعبد الله لثلاث
أسباب: "أولا _ وجود أبناء أخيه في الخرج يحرضون القبائل عليه، ثانياً _
مناصرته لآل عليان أمراء القصيم السابقين على أعدائهم آل مهنّا الأمراء الحاكمين
في ذلك الحين. وكان هذا جهلاً من عبد الله في وقت ضعفه ليس من الحكمة أن يتحزب
لبيت مغلوب فيضعضع نفوذه في القصيم. ثالثاً _ ظهور محمد بن الرشيد الطامع بحكم
نجد. فقد تحالف مع آل أبي الخيل… وكانوا كلهم يداً واحدة على أبن سعود"(59).
وانتهى وجود دولة السعوديين الثانية رسمياً في أواخر عام 1887.
وفي آب (أغسطس) من العام التالي تمكن حاكم الرياض سالم آل سبهان من
اللحاق بأولاد سعود. ويتضح النطاق الفعلي لقواتهم من عدد أفراد فصيل شمر اللحاق
بأولاد سعود. ويتضح النطاق الفعلي لقواتهم من عدد أفراد فصيل شمر الذي طاردهم _ 35
شخصاً لا غير. وقد قتل ثلاثة من أولاد سعود، وقتل الرابع قبل ذلك، أما الخامس فقد
فر إلى حائل أملاً في العفو من أبن الرشيد. وتقول رواية أخرى أن الابن الأخير
لسعود كان أسيراً فخرياُ في حائل(60).
في شتاء 1889/ 1890، قام الشمريون بغزوة وصلوا فيها إلى الحجاز. وعندما
عاد أبن الرشيد إلى العاصمة علم بأن ضيفه الأسير عبد الله بن فيصل مريض وأن حالته
خطرة. فسمح له بالعودة إلى الرياض مع أخيه عبد الرحمن بن فيصل. عاد عبد الله إلى
عاصمته الخالية وتوفي في تشرين الثاني (نوفمبر) 1889(16). وقبل 24 عاماً من ذلك،
عندما تربع على العرش، كانت أمارة الرياض تمتد ممن جبل شمر حتى المناطق الداخلية
في عمان، ومن الخليج حتى الحجاز وحدود اليمن. وعندما توفي وهو تابع لحائل لم يكن
عنده غير منطقة العارض وسيادة اسميه على الوشم وسدير. وكان ثلث تلك الفترة تقريباً
هارباً مشرداً، بينما كان آخرون يحكمون الدولة المتداعية. ونعته فيلبي بالحاكم
"غير القدير". إلا أن مجمل الملابسات غير الملائمة، وليس الضعف الشخصي،
هي الأسباب الحاسمة في هلاك دولة السعوديين(62).
وصار عبد الرحمن أميراً للرياض. وقد اصطدم في عام 1890 مع حاكمها
الشمري سالم وأعلن الانتفاضة عليه. وحاصرت قوات أبن الرشيد الرياض، إلا أن المدينة
كانت آنذاك قد تعززت كثيراً. وأخفق الحصار، فعقد الطرفان هدنة. وظل عبد الرحمن
حاكماً للرياض وبعض المناطق المجاورة لها ولكن بصفة تابع في الواقع لمحمد بن
الرشيد(63).
وفي تلك الأثناء فضل أهالي عنيزة وبريدة في القصيم التحالف مع عبد
الرحمن ضد جبل شمر بعد أن تأكد لهم أن سلطة الشمريين تتقوى عليهم وأن الضرائب
تزداد والامتيازات تتقلص.
وفي أواخر عام 1890، تشكل إتلاف واسع نسبياً للعناصر المناهضة لآل
الرشيد من بين أهالي القصيم وأنصار عبد الرحمن وقبائل مطير. وجمع أبن الرشيد كل
قواته، بما فيها وحدات من قبائل شمر وكذلك من حلفائها من بدو الظفير وحرب
والمنتفق. وكتب أ. موسيل يقول أن أبن الرشيد "بعث 40 رسولاً على أربعين ناقة
موشحة بستائر سوداء إلى مختلف أفخاذ وبطون شمر التي خيمت آنذاك بين كربلاء
والبصرة. وكان يراد للستائر السوداء أن تبين بوضوح لجميع رعايا الأمير محمد بأن
عارا أسود سيلطخهم إذا لم يهبوا فوراً لنجدة زعيمهم"(64). ونشبت معركة كبيرة
هي وقعة المليدة في القصيم اقتتلت فيها من الجانبين آلاف عديدة من المحاربين.
وربما كانت تلك أكبر معركة منذ الغزو المصري.
واستمر القتال سجالاً طوال شهر. إلا أن عبد الرحمن، لسبب ما، لم يهب
لنجدة حلفائه وتركهم وحيدين في مواجهة الشمريين.، وأخيرا، في كانون الثاني (يناير)
1891، لجأ محمد بن الرشيد إلى الحيلة متظاهراً بالانسحاب، ولكنه نظم بعد ذلك
هجوماً مضاداً مباغتاً. جمع بضعة آلاف من الجمال في الوسط وحركها إلى الأمام بعد
أن أطلق النار على القصيميين. وتقدم المشاة من وراء الجمال. وسدد الهجانه والفرسان
في وقت واحد ضربات من الجناحين. وفقد القصيميون
ما بين 600 و 1200 شخص، وفر الكثيرون إلى الكويت والعراق والشام(65). وعزز
أبن رشيد لعشر سنوات تقريباً مواقعه كحاكم بلا منازع لأواسط الجزيرة.
وعندما بلغ عبد الرحمن بن فيصل نبأ هزيمة حلفائه فر إلى البادية. وبعد
تجوال طويل استقرت عائلته في عام 1893 في الكويت تحت حماية شيخها محمد الصباح.
وخصصت الحكومة العثمانية لعبد الرحمن معاشاً متواضعاً بستين ليرة ذهبية
شهرياً(66). وانتقلت السلطة كاملة في الرياض إلى عجلان وهو من عبيد محمد بن
الرشيد. وتم تقسيم نجد إلى عدة مناطق خاضعة لجبل شمر.
وغدا حاكم جبل شمر سيداً لبلد مستنزف مخرب، ومحروم من منفذ إلى البحر.
وكتب جميع الرحالة الذين زاروا أواسط الجزيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر
عن البساتين الذابلة والنخيل الميتة والآبار التي اجتاحتها الرمال والقرى الموات.
ولم تكن الدولة الخائرة قادرة على حماية الواحات من البدو. ونزح آلاف الناس إلى
العراق أو سواحل الخليج.
وتضررت التجارة. وكتب أمين الريحاني عن الأحوال العصيبة التي واجهها
التجار آنذاك(67). وأسفرت مخاطر نقل البضائع بطرق القوافل التجارية عن تذبذب في
الأسعار ونسفت العلائق الاقتصادية وأدت إلى إفلاس الصناع والتجار.
وفي العقد الأخير من القرن التاسع عشر لم تحل دون الانتفاضات إلا القوة
العسكرية لدى محمد بن الرشيد. ولكن القلاقل بدأت على أثر وفاته، وأخمدها بوحشية
الأمير الجديد لجبل شمر عبد العزيز بن الرشيد. فقد نهب المدن والقرى بلا رحمة
وخنقها بالغرامات الحربية. ولكنه تورط في صراع مع الكويت فعجز عن السيطرة على
النزاعات القبلية الإقطاعية التي تصاعدت في كل مكان وعن الحيلولة دون نهب البدو
للواحات. وقال موسيل: "كان الحضر جميعاً يحنون إلى سلطة قوية تحمي أموالهم
وحياتهم"(68).
آل
الرشيد في أواخر القرن التاسع عشر. يقول المؤرخ خالد الفرج: "اعتمد محمد العبد الله الرشيد في
تشييد إمارته على سياسة "فرق تسد" واتكأ على قوة عشيرته "شمر"
وهي من كبريات القبائل المشهورة بالفروسية والشجاعة… وخص الأتراك بكثير من
المجاملة والمسايرة لأن طرفي طريق الحجاج الذي يقوم آل رشيد على إيراده، وهما
العراق والحرمان، في أيديهم، حتى أنه اعترف بخضوعه للسلطان عبد الحميد. وتعددت منه
الرسل والهدايا إلى "الباب العالي" وحاز على النياشين الرفيعة وقبل
المعتمدين المندوبين من الحكومة العثمانية. فصارت تعتمد عليه، وتعده من أكبر
المخلصين لها، وتراه الوسيلة الفعالة التي قضت على آل سعود ومحت إمارتهم من
الوجود، فأغدقوا عليه العطاء وخصوه بالمساعدات والتعضيد. وكان على الأجمال رجل
وقته، إلى أن توفي سنة 1315 هـ (1897م) مريضاً بات الجنب، عقيماً لم يخلف
ولداً"(69).
وورث الحكم عنه أبن أخته عبد العزيز المتعب الذي كان في حوالي الثلاثين
من العمر، وكان محارباً باسلاً ومغامراً، ينساق للغضب والاستعجال في اتخاذ
القرارات. كان يجيد استخدام السيف أكثر مما يجيد السياسة، وكان يفعل قبل أن
يفكر(70). وفي غضون عشر سنوات بدد القسم الأكبر من الإرث الذي خلفه له خاله
الجبار.ولم تستطع أمارة جبل شمر أن تلعب دور الدولة الموحدة المستقرة. فهي تستند
إلى قبيلة شمر، لذا اعتبرها سائر السكان أداة سيطرة اتحاد قبلي واحد على القبائل
الأخرى وليست سلطة لعموم الجزيرة العربية تتجاوز الأطر القبيلة. وفي أواخر القرن
التاسع عشر وقعت إمارة جبل شمر في تبعية متزايدة للإمبراطورية العثمانية فغدت
وسيلة لنقل النفوذ العثماني إلى شبه الجزيرة، ولذلك فأن تذمر واستياء أعرب الجزيرة
من حكم الأتراك شملا أمراء حائل أيضاً. وكانت بريطانيا قد عززت مواقعها على ساحل
الخليج وأعاقت محاولات الأتراك لاستعادة مواقعهم، وأخذت تؤيد منافسي أمارة جبل
شمر. وأخيراً، بعد وفاة محمد الرشيد، لم تتمكن العائلة الحاكمة الغارقة في
النزاعات من ترشيح أي حاكم بمنزلة عبد العزيز بن عبد الرحمن مؤسس العربية السعودية
المرتقب. وكانت كل هذه العوامل التي أُضيفت أليها فيما بعد المشاركة في الحرب
العالمية الأولى إلى جانب الأتراك قد أسفرت عن غروب وسقوط أمارة جبل شمر القوية.
تنافس
الدول على حوض الخليج في مطلع القرن العشرين والوضع في الجزيرة العربية. لقد بين تاريخ الدولتين
السعوديتين الأولى والثانية بوضوح مذ تشابك مصير الجزيرة العربية مع التطور العام
للوضع في هذه المنطقة من العالم. فإن مستقبل الكيانات الدولية في الجزيرة حدده ليس
فقط تناسب القوى في البادية، وأحياناً ليس تناسب القوى فيها بالذات، بل كذلك
القرارات المتخذة في لندن واسطنبول والقاهرة وبرلين وكذلك بطرسبورغ وباريس.
كانت بريطانيا أقوى دولة استعمارية في أواخر القرن التاسع، عشر فقد
استولت، بعد شق قناة السويس عام 1869، على مصر عام 1882 وسعت إلى السيطرة المباشرة
أو غير المباشرة على الجزيرة العربية كلها. وكانت الإمبراطورية الاستعمارية
البريطانية في الهند قد شدت أليها بشكل أوثق سلطنة عمان وإمارات ساحل الصلح البحري
وقطر والبحرين. وكان قد جاء دور الكويت التي كانت رسمياً تحت السيادة العثمانية.
ومع أن الخليج العربي كان من الناحية النظرية ممراً مائياً دولياً، فقد
غدا عملياً بحيرة بريطانية. لقد كانت المواصلات البرقية الإمبراطورية تمر عبر
الخليج العربي إلى الهند واستراليا. وكانت حصة بريطانيا العظمى والهند البريطانية
في صادرات بلدان الخليج 40% وفي وارداتها 63:%. وكانت جميع البضائع تقريباً تصدر
وتستورد من هناك على سفن تحمل العلم البريطاني(71) كما أن الأسطول البحري الحربي
البريطاني كان يسيطر على الخليج والمحيط الهندي.
وكان المندوب البريطاني السامي في منطقة الخليج يسمى "بالمعتمد
السياسي لصاحب الجلالة في الخليج الفارسي والقنصل العام في فارس وخوزستان". وعلى حد تعبير نائب
الملك في الهند كيرزون فقد كان "ملكاً غير متوج للخليج الفارسي"(72).
وعلى الساحل العربي من الخليج كان لبريطانيا معتمدون سياسيون خاضعون لها في مسقط
والكويت والبحرين. وكان المعتمد السياسي مسئولاً أمام الحكومة البريطانية الهندية،
وكقنصل عام، كان خاضعاً للسفير البريطاني في طهران.
لقد طرحت السياسة البريطانية في الخليج العربي مهمة مزدوجة هي السيطرة
على طرق المواصلات البحرية وغيرها من الطرق المؤدية إلى الهند وإحلال "الوئام
البريطاني" (pax
britannica) في الخليج والذي يقصد به سيادة المصالح
التجارية البريطانية وعدم السماح بدخول دول أخرى أليه.
وفي أواخر القرن التاسع عشر شمل تناحر الدول الكبرى وتوسعها الاستعماري
حوض الخليج. وكانت الإمبراطورية الألمانية تبحث بشكل مسعور خصوصاً عن مكان لها تحت
الشمس. وكانت حكومة غليوم الثاني التي أعلنت بأنها "حامية الإسلام" قد
أخذت تتقارب أكثر فأكثر مع حكومة السلطان العثماني وتعزز بنشاط مواقعها الاقتصادية
والسياسة والعسكرية في الإمبراطورية العثمانية. واعتباراً من أواخر الثمانينات
ظهرت فكرة مد سكة حديد اسطنبول _ بغداد وإيصالها إلى الخليج بغية التغلغل إلى هذه
المنطقة بدون الطرق البحرية التي تسيطر عليها بريطانيا. وفي عام 1899 حصل الألمان
على امتياز أولى لمد السكة المذكورة مع إيصالها إلى الكويت. وظهر خطر نشوء خط
استراتيجي مباشر بين برلين والخليج، الأمر الذي يهدد السيطرة البريطانية في الخليج
والجزيرة العربية والشرق الأوسط كله. وفي غرب الجزيرة كان الألمان يساعدون الأتراك
في مد سكة حديد الحجاز التي تربط بين دمشق والمدينة المنورة.
وكانت بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر تعتبر روسيا القيصرية التي
تحالفت مع فرنسا منافساً خطراً أيضاً في هذه المنطقة. ونوقش في بطرسبورغ بصورة
جدية مشروع الحصول على امتياز لمد سكة حديد عبر القفقاس إلى الخليج. وليس من قبيل
الصدفة أن السلطات البريطانية في الهند اعتبرت زيارات السفن الحربية الروسية
والفرنسية إلى موانئ الخليج "لعرض العلم" ومحاولاتها للعثور على مكان
لمحطة فحمية تحدياً مباشراً(73).
واشتدت التناقضات الإنكلوفرنسية بشأن مسقط التي حاول الفرنسيون في 1899
أن ينشئوا محطة للفحم فيها. وفي عام 1903، قامت السفن الروسية والفرنسية بزيارة
مشتركة لموانئ الخليج والجزيرة العربية(74).
وفي أواخر القرن التاسع عشر بدأ تغيير في السياسة البريطانية التقليدية
إزاء الإمبراطورية العثمانية. ففي السابق كانت لندن تسعى إلى الحفاظ على وحدة تلك
الإمبراطورية العثمانية. ففي السابق كانت لندن تسعى إلى الحفاظ على وحدة بلك
الإمبراطورية مؤملة في إخضاعها بالكامل واستخدامها في الصراع ضد روسيا. إلا أن
مركز ثقل المصالح البريطانية في شرقي البحر الأبيض المتوسط وفي الشرق الأوسط انتقل
تدريجياً من القسطنطينية إلى مصر وبلاد الرافدين. ولعب ازدياد النفوذ الألماني في
الإمبراطورية العثمانية دوراً غير ضئيل في تغيير تلك السياسة. وأخذ سولزبري الذي
صار من جديد رئيساً لوزراء بريطانيا عام 1859 يتحدث عن اقتسام الإمبراطورية
العثمانية. وكان المقصود أن تكون الجزيرة العربية وحوض دجلة والفرات، شأن مصر
والسودان، منطقة للسيطرة البريطانية. وفي سياق هذه الخطط كانت لندن تعتبر الاحتفاظ
بالسيطرة على الخليج من أكبر المهمات.
وفي عام 1903 زار أسطول بريطاني يحمل علم كيرزون نائب الملك في الهند
موانئ الخليج العربي. وكان ذلك أكبر أسطول أجنبي في مياه الخليج منذ عهد العمارة
البرتغالية البوكيركا عام 1515. ودافع كيرزون في خطبه عن المواقع البريطانية
بالأسلوب الملازم للعصر الاستعماري عصر "نير الإنسان الأبيض".
ومع أن ركود الإمبراطورية العثمانية استمر في أواخر القرن التاسع عشر
إلا أن مواقعها في الجزيرة العربية تعززت بعض الشيء بسبب تقوية وتحسين الجيش وتطور
المواصلات. وكان الأتراك، بعد الإنجليز، أهم عامل في شؤون الجزيرة.
وكان افتتاح قناة السويس قد غير بصورة جوهرية مكانة الأتراك في غربي
الجزيرة. فلئن كانت تصل إلى هنا في السابق طوابير من الجنود المتعبين بعد مسير
طويل عبر البادية وكان مجرد إرسالهم يكلف غاليا، فقد صار الجنود يرسلون بحراً عن
طريق القناة. وفي سبعينات القرن التاسع عشر استطاع الأتراك أن يحتلوا اليمن وعسير
من جديد(75).
بديهي أن والي جدة وشريف مكة كانا في نزاع دائم فيما بينهما. وكانت
العلاقات بين عون، والي جدة وحاكم مكة، الذي تسنم هذا المنصب اعتباراً من عام 1882
قد تأزمت في الثمانينات. فقد بدأ الوالي بأداء أعمال عامة فحسن تزويد جدة بالمياه
وأعاد بناء ترعة زبيدة وأنشأ مبنى جديداً لحاكمية المدينة كما أنشأ عنابر ومباني
للخفراء. وسمح الوالي العثماني لعون بأداء وظائفه القضائية ولكن فقط في المسائل
المرتبطة بعشيرته والبدو والأشخاص من غير الأتراك والذين ولدوا في مكة نفسها. وأخذ
الأتراك يشرفون على طرق القوافل ويقومون بحملات على قبيلة حرب بدون موافقة شريف
مكة. وتقلصت عائدات عون من الرسوم الجمركية. وعند ذاك انتقل شريف مكة وقسم من أبرز
أفراد عائلته مع الوجهاء والتجار ومفتي الشافعيين والعلماء الآخرين إلى المدينة
المنورة احتجاجاً على تصرفات الوالي حتى تمكنوا من إقناع السلطان بتنحيته(76).
وكان الوالي الجديد جمال باشا أكثر حذراً من سابقه. وازداد نفوذ شريف
مكة بعض الشيء، إلا أن الصدام استمر بينه وبين الباشا. وتردى موقف العرب من
الأتراك. وتعد وفاة عون في عام 1905، بسلم منصب الشرفة على صنيعة الأتراك. وفي تلك
الفترة اندلعت ثورة تركيا الفتاة، فنحي جمال باشا بوصفه من أنصار السابق. وبعد
فترة قصيرة من الغموض في الموقف عين لمنصب الشرافة في خريف 1809 الزعيم المرتقب
للانتفاضة العربية الحسين بن علي الذي كان أسيراً فخرياً في الأستانة منذ عام 1893
مع أولاده الثلاثة علي وعبد الله وفيصل(77).
وفي عام 1908 نفسه افتتحت في الحجاز سكة حديد معان _ مدينة المنورة.
وأدى مد هذه السكة إلى تحسن كبير في المواقع العسكرية الإستراتيجية للأتراك في
غربي الجزيرة.
إلا أن الإمبراطورية العثمانية في شرقي الجزيرة لم تتمكن من تعزيز
مواقعها بسبب مقاومة بريطانيا وبسبب تصاعد الميول المعادية للأتراك عند عرب
الجزيرة.
وسعت الكويت التي غدت في أواخر القرن التاسع عشر مرفأً رئيسياً لباطن
الجزيرة ومركزاً تجارياً مزدهراً إلى التقليل من تبعيتها للأتراك، وهي تبعية شكلية
أصلاً. وأخذ شيخ الكويت محمد الصباح يتدخل على نحو نشيط في الصراع داخل الجزيرة،
حيث كانت إمارة جبل شمر التابعة للعثمانيين بشكل خطراً فعلياً علية، ولذلك وفر
الحماية لعبد الرحمن بن فيصل الذي يدعي بأحقيته في عرش الرياض. واحتفظ هذا الأمير
الذي فر من الرياض بعلاقات مع واحات وقبائل أواسط الجزيرة فشجع الميول المناهضة
للشمريين هناك.
وفي عام 1896 قتل محمد الصباح وأخوه بيد أخيهما الثالث مبارك الذي غدا
شيخاً للمدينة ولقبائل أطرافها(78). وصار هذا الحاكم الجديد للكويت يمارس طوال
عشرين عاماً تقريباً تأثيراً غير قليل على الأحداث في الجزيرة.
وكانت قبيلة المنتفق القوية وعلى رأسها فخذ آل سعدون في جنوب العراق
عاملاً له شأنه في السياسة في أواسط الجزيرة. إلا أن المنتفق كانوا يعتبرون
البادية مجرد جهة لغزوات النهب.
وفي تلك الأثناء كانت الحكومة البريطانية مشغولة البال بالخطط
الألمانية التركية لاستعادة الكويت ووضعها تحت السيطرة العثمانية المباشرة وتأمين
منفذ سكة حديد برلين بغداد إلى البحر(79). وحاول الأتراك مرارا الاستيلاء على
الكويت ونفي الشيخ مبارك إلى اسطنبول. ولأن مبارك يدرك ذلك كان يطلب الحماية من
الإنجليز الذين كان في الماضي يتحاشى التعاون الوثيق معهم.
وفرضوا عليه معاهدة سرية غدت الكويت بموجبها محمية بريطانية. ووقعت في
23 كانون الثاني (يناير) 1899. والتزم الشيخ، فيما التزم، بعدم تقديم امتيازات
لأحد ما عدا بريطانيا(80). وعادت بخفي حنين البعثة الألمانية التي وصلت إلى الكويت
في العام التالي للحصول على حق إيصال سكة حديد بغداد إلى الكويت(81).
وصار الإنجليز يشعرون بالقلق من إمارة حائل بوصفها تابعة مخلصة
للأتراك. وكان السعي إلى إضعاف هذه الأمارة إحدى مهمات السياسة البريطانية في شبه
الجزيرة، مع أن ذلك لم يكن يستبعد في بعض الحالات استخدام الإنجليز إمارة حائل
لأغراضهم. وأخذوا يؤيدون خصوم الأتراك وجبل شمر في الجزيرة العربية، الأمر الذي
كان له تأثير هام، إن لم نقل حاسم، على نجاح عودة آل سعود إلى السلطة في نجد.
الفصل
التاسع
بعث أمارة الرياض
في مطلع القرن العشرين (1902 _ 1914)
في مطلع القرن العشرين نشأ في
الجزيرة العربية من جديد وضع ملائم لبعث إمارة الرياض. فأن سلطة حائل كانت قائمة
على القوة العسكرية لقبيلة شمر وحلفائها وعلى مساعدة الأتراك، ولكن تأييدها من
جانب سكان نجد كان يتقلص باطراد. وأخذت بريطانيا تتدخل في شؤون الجزيرة سعياً منها
إلى إضعاف اعتماد الإمارات المحلية فيها على الباب العالي وإخضاعها للحماية
البريطانية في آخر المطاف. وغدت عائلة آل سعود التي استقرت في الكويت مركز جذب
طبيعياً لجميع النجديين المتذمرين من حكم آل رشيد.
استيلاء
الأمير الشاب عبد العزيز على الرياض والسيطرة على المناطق المجاورة لها. في خريف 1900، تزعم عبد
الرحمن بن فيصل غزوة موفقة على أحد بطون قحطان ووصل إلى مناطق السدير. وبعد أن عاد
إلى الكويت أخذ يستعد لحملات عسكرية أكثر جدية واتساعاً على نجد(1).
واستناداً للسياسة العامة الموجهة ضد آل رشيد تحالف شيخ الكويت مع زعيم
المنتفق سعدون باشا أبو عجيمي(2).
وفي أواخر 1900 _ أوائل 1901، جمع حاكم الكويت عساكره المكونة من البدو
والحضر وتوجه إلى القصيم. والتحق به عبد الرحمن وبعض الأمراء السعوديين الآخرين
الذين انضوت تحت رايتهم أقسام من قبائل العجمان ومطير(2). وكتب آداموف قنصل روسيا
في البصرة: "حقق الجيش الكويتي نصراً وتمكن من الاستيلاء على الرياض نفسها،
ومن هناك تحرك مبارك ظافراً نحو حائل عاصمة آل رشيد"(4). ويبدو أن مبارك بالغ
في التباهي بانتصاراته الأولى. وتمكن عبد العزيز بن متعب من الحصول على أسلحة
إضافية من الأتراك فعبأ كل قواته(5) فدحر الكويتيين وحلفاءهم في شباط _ آذار
(فبراير _ مارس) 1901 على مقربة من واحة الصريف(6).
وفي تلك الأثناء حاول عبد العزيز بن عبد الرحمن أن يستولي على حصن
المسمك في عاصمة أجداده الرياض. وتمكن فصيله مع الكويتيين من اقتحام المدينة، إلا
أن الحاكم الشمري عجلان بن محمد تمركز في الحصن وتحمل الحصار. وعندما علم عبد
العزيز بنتيجة معركة الصريف عجل في العودة إلى الكويت.
كانت بريطانيا تشجع أعمال الكويت وحلفائها بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ويعتقد قنصل روسيا في البصرة آداموف أن بريطانيا التي لها مصلحة في إضعاف جبل شمر
كانت تقف من وراء مبارك. واشترى شيخ الكويت كميات كبيرة من بنادق
"مارتيني" الإنجليزية في البحرين(7).
وأخذت السلطات العثمانية في العراق تحشد قواتها العسكرية لتسدد ضربة
إلى الكويت بحجة "إحلال النظام"، ولكنها لم تتجرأ على القيام بذلك خشية
الصدام مع الإنجليز(8). وبنتيجة صراع معقد تمكنت الدبلوماسية العثمانية بدعم من
برلين من الاتفاق في أيلول (سبتمبر) 1901 على الاحتفاظ بالوضع القائم في الكويت
ودرء احتلال القوات البريطانية لهذه المشيخة(9). وكانت روسيا في بداية القرن
العشرين، كما جاء في توجيه سري إلى آداموف قنصلها في البصرة، كانت تسعى كذلك إلى
الإبقاء على الوضع القائم في حوض الخليج كما هو(10).
وبعد الاتفاق مع الأتراك هجم حاكم حائل على المشيخة التي أصابها الضعف
بعد هزيمة الصريف. وحاصر أبن متعب موقع الجهراء على ساحل الخليج. إلا أن الإنجليز
بعثوا سفينة حربية أطلقت النار على معسكر الشمريين. وأخذت الأسلحة الإنجليزية
تتوارد على المشيخة، بينما أحتج القائم بالأعمال البريطاني في اسطنبول في لقاء مع
السلطان على أعمال الشمريين. وبعد أسبوعين أو ثلاثة من حصار ميئوس منه عاد أبن
متعب إلى حائل بأمر من السلطان.
وأقنع عد العزيز أباه بأن يسمح له مرة أخرى أن يجرب حظه في الرياض.
فتوجه في حملة على رأس أربعين محارباً فقط كما تفيد أغلبية المراجع، وكان بينهم
شقيقه محمد بن عبد الرحمن وابن عمه عبد الله بن جلوي. وفي تشرين الثاني _ كانون
الأول (نوفمبر _ ديسمبر) 1901، توجهوا عبر الأحساء نحو الجنوب إلى الربع الخالي.
وفي الطريق اجتذب هدا الفصيل محاربين من قبائل العجمان وآل مرة وسبيع والسهول.
وتحول الفصيل إلى قوات من عدة آلاف شخص. وأخذ عبد العزيز يغزو بهذه القوات القبائل
المعادية وقرى نجد التي ظلت موالية لآل الرشيد.
وعندما علم أبن متعب بأعماله بعث برسائل إلى السلطات العثمانية في
بغداد والبصرة طالباً أبعاد عبد العزيز عن الأحساء. وعلم البدو بذلك فتركوا الأمير
الشاب خشية بطش الأتراك. فظل عبد العزيز مع جماعته الأولى التي لا يتجاوز عددها
الأربعين شخصاً. وأدرك عبد الرحمن أن أعمال أبنه تتحول إلى مغامرة خطرة فطلب منه
العودة إلى الكويت والتخلي عن خطة الاستيلاء على الرياض. وأرغمت السلطات التركية
في الأحساء فصيله على ترك المنطقة. وقضى عبد العزيز شهر رمضان في واحة يبرين(11).
يبدو أن أبن متعب لم يعر اهتماماً كبيراً لهجمات الأمير الشاب، مما
أفاد هذا الأخير. وقرر عبد العزيز المجازفة مرة أخرى رغم ممانعة أبيه. وفي 12
كانون الثاني (يناير) 1902، ظهر في أطراف عاصمة السعوديين السابقة.
وبعد أن أخذ قسطاً من الراحة في واحة صغيرة ترك فيها جماعة من أفراده
مع الإبل والخيل وأوصاهم بالفرار إذا لم يعد في الفجر. أما الباقون فتوجهوا إلى
أسوار المدينة. وفي ظلام الليل اجتاز المحاربون وعلى رأسهم عبد العزيز سور المدينة
في منطقة "الشيمسية"، وتركوا احتياطاً عشرة رجال وتوجهوا إلى صاحبهم
جويسر الذي كان يعيش قرب منزل الحاكم الشمري عجلان بن محمد. كان عجلان متزوجاً من
إحدى نساء الرياض وكان يعودها نهاراً، ويفضّل قضاء الليل مع الحامية التي يوجد
فيها زهاء 80 شخصاً في حصن المسمك. أطعم جويسر عبد العزيز ورجاله ثم تسللوا إلى
منزل زوجة عجلان. لم يجدوا عجلان فيه، ولكنهم حبسوا زوجته وامرأة أخرى في إحدى
الغرف. واستدعى عبد العزيز شقيقه محمد مع الرجال العشرة الذين تركهم وراء سور
المدينة. واجتمع الفصيل كله في منزل عجلان. وقالت زوجته أنه يمكن أن يأتي أليها
بعد صلاة الصبح فقرروا الانتظار. وبلغ التوتر أوجه عند هذه الجماعة الصغيرة التي
كانت تشعر تماماً بالصبغة المغامرة لأعمالها.
حل صباح 15 كانون الثاني (يناير) 1902. وأخيراً ظهر من بوابة الحصن
عجلان مع حرس غير كبير. فأطلق عبد العزيز ورجاله النار وهرعوا إلى عجلان. حاول
الشمريون الهرب. وفي اللحظة الأخيرة فقط قتل عبد الله بن جلوي عجلان حاول الشمريون
الهرب. وفي اللحظة الأخيرة فقط قتل عبد الله بن جلوي عجلان عند باب الحصن.
لقد استفاد رجال عبد العزيز من عنصر المباغتة فانتقموا من الحامية
الشمرية الموجودة في الحصن، ثم قتلوا من كان في المدينة. وأطلق سراح عشرين من
الشمريين بكلمة شرف بعد أن اعتصموا في البرج. وكانت خسائر الأمير الشاب هي قتيلان
وثلاثة جرحى لا غير. وكان انتصاره الرائع غير المتوقع قد خلب ألباب أهالي نجد
بالطبع، وفيما بعد صار الشعراء والرواة يتغنون به في روايات وقصائد كثيرة(12).
وأقسم أهل الرياض يمين الولاء لعبد العزيز الذي بدأ على الفور بتحصين
أسوار المدينة. وعندما علم أبن متعب بنبأ سقوط الرياض استولى عليه الهياج وأقسم
بأن يثأر من أعدائه التقليديين. ونزح من الفرات الأوسط إلى حائل ليجمع العساكر
ويتوجه إلى الرياض، إلا أن الاستعدادات استغرقت عدة أشهر(13).
وفي تلك الأثناء وصلت إمدادات إلى عبد العزيز من الكويت _ سبعون
مقاتلاً وعلى رأسهم أخوه سعد. وتمكن الشاب من القيام بحملة على الجنوب واحتلال
الخرج قبل وصول الشمريين.
وفي أيار (مايو) 1902 وصل أبوه عبد الرحمن إلى الرياض. ويجمع المؤرخون
العرب والأوربيون على أن الأب والابن كانا يفهمان بعضاً جيداً، وكانت الثقة بينهما
قد ساعدت على استقرار الدولة الجديدة. فالأمير العجوز كان، كما يبدو، يقدر قابليات
أبنه تقديراً واقعياً. وعندما جمع عبد العزيز العلماء ووجهاء الرياض وطالبهم بأداء
يمين الولاء لأبيه رفض عبد الرحمن هذا التكريم وأعلن إن أبنه هو الأمير. وصار عبد
العزيز حاكماً للرياض وهو في الثانية والعشرين. وظل أبوه مستشاراً رئيسياً له
وإماماً للمسلمين(14).
أثبت جسارة عبد العزيز في الاستيلاء على الرياض أنه يتحلى بخصال الشيخ
والأمير: البسالة والمهارة في القيادة والموفقية. وأثبتت الأحداث اللاحقة أن عبد
العزيز كان شخصية بارزة دون ريب بمقاييس الجزيرة العربية. وهذا ما أجمع عليه كال
المؤرخين والرحالة من عرب وأوربيين. فقد تمرس عبد العزيز في المنفى وتضلع في أخلاق
البدو وعاداتهم ونقاط ضعفهم وقوتهم، وكان يجيد التحكم فيما عرفه عن البدو. وإلى
جانب ذلك كان يدرك بأن عليه أن يعتمد بالأساس على سكان يجد الحضر، لذا أولاهم
عناية دائمة. وكان يدرك قوة الدين فأقام علاقات طيبة مع علمائه منذ البداية.
جرت العادة في المطبوعات الأوروبية، والعربية جزئياً، على تسمية مؤسس
الدولة السعودية الحديثة باسم أسرته: أبن سعود. لذا سوف نستخدم نحن أيضاً هذا
الاسم في بعض الأحيان.
وقد تركت لنا المستعربة الإنجليزية هير ترودا بيل في كتابها
"الحرب العربية" صورة أدبية لعبد العزيز، مع أنها تخص فترة متأخرة من
حياته: "يداه نحيفتان بأصابع رقيقة، وتلك سمة منتشرة بين القبائل العربية
الأصيلة. ورغم طول قامته وعرض منكبيه يدل مظهره على التعب، ولكنه تعب أقرب إلى
الارتخاء العربي وليس صفة فردية. إنه تعب شعب عريق منطو على نفسه عبأ قواه الحيوية
لدرجه كبيرة ولم يغترف من الطاقة إلا أقلها خارج حدود بلاده الوعرة. إن حركاته
المتأنية وابتسامته الطيبة البطيئة وعنينه اللتين تتطلعان بفطنة من تحت حاجبين
ثقيلين _ كل ذلك يضيف إلى خصاله جاذبية، ولا يتفق مع المفهوم الغربي للشخصية
النشيطة. ومع ذلك تشير الأحاديث عنه إلى تحمله البدني النادر حتى في الجزيرة
العربية ذات الظروف الصعبة"(15). ونحن نترك "الارتخاء العربي" و
"الانطواء على النفس" على ذمة المستعربة الملتزمة بالمدرسة الاستعمارية
البريطانية، ولكننا نشيد بتقييمها الرفيع عموماً لشخصية أمير الرياض.
انتهز عبد العزيز فرصة الهدوء التي هيأها الشمريون فسدد ضربات في جميع
الاتجاهات محاولاً أن يؤمن حول الرياض على الأقل الحد الأدنى من الأراضي لتكون
لدية القدرة العسكرية والاقتصادية اللازمة لمواصلة الحرب.
وخلال تلك الفترة أثارت الأحداث في الجزيرة العربية اهتمام لندن وبرلين
وبطرسبورغ فضلاً عن اسطنبول. ومارست الدبلوماسية الألمانية ضغطاً على السلطان
العثماني بغية توفير منفذ أمين لسكة حديد بغداد إلى الخليج. وكان حاكم حائل الذي
حاول استعادة السيطرة على جنوب نجد واثقاً من الدعم التركي. إلا أن بريطانيا كانت
من وراء ظهر خصومه الكويتيين، والسعوديين في التطبيق العملي(16).
وفي تموز _ آب (يوليو _ أغسطس) 1902 تمكن أمير شمر من مهاجمة الرياض
وقام في الطريق بغزوات على القبائل والواحات المعادية له. وتدل هجماته على واحات
الوشم والمحمل والقصيم على أن سكان هذه المناطق كانوا ضده(17).
بدأ أبن سعود يجمع المتطوعين من سكان مدن العارض وبدو الدواسر وآل مرة.
ولم يتمكن الشمريون من الاستيلاء على العاصمة الرياض رأساً لأنها صارت جيدة
التحصين. لذا فضل أبن متعب عدم اقتحام المدينة وراح يقوم بحملات حولها وخصوصاً على
الخرج. واستمرت الصدامات والمناوشات بين الطرفين في أيلول (سبتمبر) حتى تشرين
الثاني (نوفمبر) 1902 إلا أن الوباء الذي تفشى بين الشمريين حسم الأمر لصالح عبد
العزيز. واضطر أبن متعب على الانسحاب نحو الشمال(18).
وبعد أن عاد أبن متعب من حملته الفاشلة على الرياض قام بغزوات جديدة.
وظل كالسابق يعتبر مبارك حاكم الكويت، عدوه الرئيسي فقرر أن يسدد الضربة إليه. وفي
هذه المرة هب عبد العزيز مع عدة آلاف من رجاله لنجدة الكويتيين في كانون الثاني _
شباط (يناير _ فبراير) 1903. وهجم الكويتيون بقيادة جابر والنجديون بقيادة أبن
سعود ومن ألتحق بهما من قائل العجمان وآل مرة وسبيع والسهول وبني هاجر وبني خالد
والعوازم على بدو مطير الذين كانوا موالين لآل الرشيد. وقتل في المعارك أحد زعماء
مطير وهو عماش آل دويش وأبنه(19). وكانت نتيجة المعركة غامضة. وهذا ما يستفاد من
تقرير قنصل روسيا في البصرة، حيث كتب عن هزيمة الحلفاء الكويتيين والسعوديين على
أيدي مطير(20).
وفي تلك الفترة زار عبد الرحمن بن فيصل الكويت وتقابل مع قنصل روسيا في
بوشهر(21). إلا أن تلك الخطورة أخذت على الأكثر لتهديد الإنجليز بغية إرغامهم على
تقديم المساعدة لأمير الرياض، وليس لإقامة اتصالات سياسية فعلية مع روسيا. وفي
ربيع 1903 حاول الشمريون للمرة الأخيرة الاستيلاء على الرياض، إلا أنهم انهزموا
أمام حاميتها بقيادة عبد الرحمن، أبي عبد العزيز.
كانت أولى انتصارات عبد العزيز تعني بعث نواة أمارة الرياض بدعم نشيط
من الكويتيين، وبدعم غير مباشر من الإنجليز.
التقدم
نحو القصيم. في كانون الثاني (يناير) 1903 تقابل ممثل أبن سعود مع المعتمد السياسي
البريطاني في البحرين وطلب منه الحيلولة دون إنزال القوات التركية في حالة استيلاء أمير الرياض على
الأحساء. ولم يحصل أبن سعود على جواب محدد، إلا أن الإدارة الإنكلوهندية صارت
تراقب أكثر فأكثر نشاط عبد العزيز بعين الرضا(22). وبتبريك منها تعزز التحالف بين
حاكم الكويت مبارك وأمير الرياض عبد العزيز وشيخ المنتفق سعدون ضد جبل شمر. وفي
آذار (مارس) عقدوا اجتماعاً في الكويت واتفقوا على الأعمال المشتركة(23).
وفي عام 1903 صار الشمريون يفلتون أكثر فأكثر السيطرة على المناطق
الواقعة جنوبي القصيم(24).
وفي تلك الأثناء حدثت تغيرات جدية في الوضع الدولي. فقد نشطت بريطانيا
هجومها على منافسيها الألمان والروس في حوض الخليج. وفي تشرين الثاني _ كانون
الأول (نوفمبر _ ديسمبر) 1903، زار نائب الملك البريطاني في الهند كيرزون بلدان
الخليج بصحبة عمارة حربية وبفخفخة كبيرة. وكانت الحرب النجدية الشمرية جزءاً من
الصراع بين الدول الكبرى من أجل النفوذ في حوض الخليج.
وفي مطلع عام 1904، زحفت قوات أمير الرياض بسرعة نحو القصيم. وفي آذار
(مارس) 1904 على وجه التقريب اقتحم الفصيل الذي أرسله مدينة عنيزة حيث قتل القائد
العسكري الشمري فهيِّد السبهان في سوقها الكبير(25).
ولكن المدينة لم تكن قد احتلت بعد. وفي المعركة التي نشبت قرب عنيزة
دحر عبد العزيز قوات الشمريين التي قادها ماجد بن حمود(26). وشارك في المعركة إلى
جانب الشمريين بعض أقارب عبد العزيز من أبناء أخواته وأحفاد عمه سعود بن فيصل الذي
ادعى بعرش الرياض. وعرفهم عبد العزيز ونعتهم "بالعرايف"، وهذا المصطلح
يطلقه البدو عادة على إبلهم التي يستولي عليها العدو ثم تستعاد في حملة مضادة.
وكان أبن سعود، بما يلازمه من تسامح تقليدي، وعلى الأصح مرونة كبيرة وبصيرة نافذة
وقدرة على تجريد الأعداء الذين لم يعودوا خطرين من سلاحهم، كان قد عفا عن أقاربه
هؤلاء بلا قيد أو شرط واقترح عليهم أما البقاء معه وأما الانضمام إلى آل الرشيد.
وفي تلك الآونة قبلوا اقتراحه بالتصالح والتعاون والضيافة، ولكنهم بعد حين صاروا
مجدداً من أخطر أعدائه(72).
وعين أبن سعود أحج أبناء الوجهاء أميرا لعنيزة، وهو عبد العزيز آل سليم
الذي عاد من منفاه في الكويت مع أتباعه المسلحين.
وتعد سقوط عنيزة بعث أهالي بريدة وفداً إلى أبن سعود طالبين السماح لهم
بمهاجمة الحصن في مدينتهم، والذي تمركزت فيه حامية من الشمريين. إن الاستيلاء على
عنيزة اقنع أهالي بريدة بأن الأحداث في تلك اللحظة تتطور لصالح أمير الرياض. زد
على ذلك أن آل مهنا (وهم من أبرز بطون بريدة الذين كانوا في السابق في المهجر
الكويتي) قد وصلوا إلى عنيزة مع فصيل غير كبير، منتظرين فرصة استلام مقاليد السلطة مجدداً(28).
وكان الطريق إلى بريدة مفتوحاً، فبعث أبن سعود إلى المدينة فصيلاً
بقيادة صالح آل مهنا أبا الخيل. وفيما بعد، عندما دخل عبد العزيز بريدة أقسم له
سكانها يمين الولاء. وسلمت الحاتمية الشمرية المكونة من 150 شخصاً الحصن في حزيران
(يونيو)1904، بعد أن وافق أبن سعود على السماح لهم جميعاً مع أسلحتهم بالذهاب إلى
حائل(29).
وباحتلال عنيزة وبريدة شملت سلطة أبن سعود المنطقة الممتدة من الرياض
حتى القصيم عبر الوشم. إلا أن أبن متعب تمكن من إقناع الأتراك بأن يقدموا له
مساعدة أكبر. وعندما علموا بأن عبد العزيز ضم القصيم إلى إمارته شعروا بالقلق
وبعثوا إلى نجد فصيلاً قوامه ألفاً جندي مع ستة مدافع بقيادة العقيد حسن شكري(30).
وفي حزيران (يونيو) 1904، نصب أبن
متعب معسكراً في قصيبة _ في منتصف الطريق تقريباً بين حائل وبريدة، وهناك استقبل
الحامية الشمرية التي سمح لها أبن سعود بمغادرة بريدة(31).
وقبيل العمليات الحربية الحاسمة بعث
حسن شكري برسالة إلى عبد العزيز عندما كان هذا الأخير ما يزال في عنيزة وحذره من
العواقب الوخيمة للعمليات الحربية ضد حاكم حائل. وكتب العقيد التركي يقول:
"إن جلالة الخليفة الأعظم بلغه اضطراب الفتنة في بلاد نجد، وأن يداً أجنبية
محركة لها . لهذا السبب بعثني إليكم حقناً للدماء ولمنع التدخل الأجنبي في بلاد
المسلمين". ثم تشكى كاتب الرسالة من تعاون عبد العزيز مع مبارك الذي يتعاون
مع بريطانيا الدولة الأجنبية الكافرة. واقترح بلهجة متعالية على عبد العزيز بأن
يعرض شكاواه على السلطات العثمانية وليس على مبارك الذي أعلن العصيان على الخليفة.
وأشار شكري إلى أنه حليف ليس فقط لآل الرشيد، بل ولجميع الذين ينشدون المعونة
والدعم من الإمبراطورية العثمانية، وقال إنه إذا رغب أبن سعود أيضاً في هذه
المساعدة فبوسعه أن يتمتع بالنعم نفسها التي يتمتع بها آل الرشيد من الحكومة
العثمانية(32).
شعر حاكم الرياض بالقلق، ولكنه كان
متصلباً في موقفه. ورد على تلك الرسالة بجواب جاء فيه: "وأما الآن، فلا نقبل
لكم نصيحة ولا نعترف لكم بسيادة، والأحسن أنك ترجع من هذا المكان إذا كنت لا تود
سفك الدماء. فأن تعديت مكانك هذا، مقبلاً ألينا، فلا شك أننا نعاملك معاملة
المعتدين علينا… فأن كنت حراً منصفاً فلا يخفاك أن سبب عدم إطاعتي هو عدم ثقتي
بكم… وخلاصة القول أن كل العمال الذين رأينا أنهم خائنون منافقون. فلا طاعة لكم
علينا، بل نراكم كسائر الدول الأجنبية". ثم يستشهد عبد العزيز بالوضع في
اليمن والبصرة والحجاز وبسلوك الأتراك هناك لتوضيح أعماله. وأعاد إلى الأذهان نهب
سلطات الحجاز للحجاج أمام الكعبة. وحذر الأمير في ختام رسالته العقيد بأنه إذا
تحرك الأتراك نحو المنطقة الخاضعة له فأنه سيعاملهم معاملة المعتدين(33).
وفي صيف 1904 حاول أبن سعود الاعتماد
على الإنجليز في صراعه ضد الأتراك وصنيعتهم فأقام اتصالات مع الميجر بيرسي كوكس
الذي كان قد صار قبل حين معتمدا سياسيا لبريطانيا في منطقة الخليج. وقبل ذلك كان
كوكس مساعداً للمعتمد البريطاني في الصومال خلال الفترة من 1892 حتى 1901 وقنصلاً
في مسقط للفترة من 1901 حتى 1904. وقدر له أن يلعب دوراً هاماً في العلاقات
الإنكلو سعودية حتى إحالته على التعاقد في 1923. وبإشرافه عمل المستعربون
المعروفون ولسن وبيل وفيلبي. وكانوا يمثلون جيل الموظفين والمخبرين والعسكريين
الاستعماريين البريطانيين الذي يعتبر كيبلنغ أميراً لهم. وكانوا يعتقدون، بهذا
القدر أو ذاك من الإخلاص؛ بأنهم يتحملون "عبء الإنسان الأبيض" عندما
يدافعون عن المصالح الاستعمارية البريطانية، إلا أن الكثيرين منهم كانوا يقومون
بدراسات عميقة، وكانوا، على سبيل المثال، مطلعين جيداً على شؤون الجزيرة العربية.
لقد اعتبرت بريطانيا ظهور القوات
التركية في نجد خرقاً لاتفاقية1901 بشأن
المحافظة على الأوضاع القائمة. وبعثت لندن إلى الباب العالي احتجاجاً شديد
اللهجة(34).
وبعد أن رأى العثمانيون وأبن متعب
استحالة إقناع عبد العزيز بالرضوخ لمطالبهم قرروا البدء بالعمليات الحربية. كان
لدى الأتراك حوالي ألفين من المشاة أو ثماني كتائب (11 كتيبة حسب رواية أخرى) من
القوات النظامية وستة مدافع خفيفة وكمية كبيرة من النقود والذخيرة والأسلحة
والأغذية. وبالإضافة إلى الشمريين التحق بقوات جبل شمر أبناء قبيلتي هتيم وحرب،
وكذلك سكان حائل. وعندما علم عبد العزيز باقتراب العدو قرر مواجهتهم في معركة
مكشوفة. وخرجت من بريدة نحو الغرب قواته مكونة من أبناء الرياض والقصيم والخرج
وقبائل مطير. على هذا النحو نشأ الموقف قبيل معركتي الشنانة والبكيرية اللتين
اتسمتا بأهمية كبيرة لتقرير مستقبل أواسط الجزيرة كأهمية استيلاء عبد العزيز على
الرياض(35).
الصراع
مع الأتراك والشمريين من أجل القصيم (1904 _ 1906): لم بكن موقعة البكيرية معركة فاصلة
واحدة بل سلسلة من الصدمات الكبيرة والصغيرة. حدثت الموقعة في أواسط تموز (يوليو)
1904 على وجه التقريب. وتؤكد مراجع الجزيرة أن عدد القتلى من القوات النظامية
التركية بلغ ما بين ألف وألف وخمسمائة شخص، ومن حائل 300_ 500 شخص، أما القوات
السعودية فقد فقدت حوالي 1000 شخص، يبدو أن هذه الأرقام مبالغ فبها جداً، وعلى أي
حال فهي تشمل الخسائر بسبب وباء الكوليرا والقيظ والأمراض. ومن شهود العيان على
هذه المعركة المؤرخ ضاري بن فهيِّد بن الرشيد الذي أكد أن متعب فقد مائة محارب،
بينما فقد عبد العزيز مائتين(36). وهكذا اتسع نطاق الصدمات والصراع لأن احتلال
الرياض مثلاً، أسفر عن مقتل بضعة أشخاص لا غير. وفي معركة البكيرية أُصيب عبد
العزيز بجراح ثخينة كاد يفقد حياته بسببها (37).
إلا أن المعركة أخذت تتحول لصالح
أمير الرياض. ويفيد لوريمير بأن أحد القادة العسكريين الأتراك قتل، كما قتل عدد
كبير من الجنود(38). واستولى أبن جلوي على كل المدافع التركية وأخذ كثيراً من
الأسرى. وانهمك أبن متعب في نهب قرى القصيم وترك كل مؤنه ومعداته الثقيلة تحت
حراسة مفرزة صغيرة عند البكيرية. وعندما سمع باقتراب قوات عبد العزيز التي استلمت
إمدادات أرسل على الفور قسماً من قواته لنجدة مفرزة الحراسة، ولكن بعد فوات
الأوان. فقد استولى عبد العزيز على كل مستودعاته وعلى مدينة البكيرة(39).
وتوجه أبن متعب إلى منطقة الرس
والشنانة في القسم الغربي من القصيم، فوصلها في آب (أغسطس) من العام نفسه مؤملاً،
على ما يبدو، في الحصول على مساعدة الأتراك من الحجاز. إلا أن مدينة الرس التي
كانت خاضعة له في السابق قررت هذه المرة الانضمام إلى أمير الرياض، لذا نصب
الشمريون معسكرهم في الشنانة. ووصل إلى المنطقة نفسها عبد العزيز مع قواته
الأساسية، إلى أن كلا الخصمين لم يدخلا في قتال، وربما كان ذلك بسبب حر الصيف.
وتفشي وباء الكوليرا في معسكر أبن متعب، بينما أخذ البدو من كلا الطرفين يتفرقون
لأنهم لم يجدوا الغنائم المنشودة. وظلت عند أبن متعب وحدات تركية من العراق وأفراد
من جبل شمر فقط، كما ظل في المعسكر السعودي أبناء المدن المخلصين لعبد العزيز. وفي
أواخر أيلول (سبتمبر) نشبت بين الطرفين معركة قرب الشنانة، فر الأتراك بنتيجتها مع
الشمريين. وفقدوا بضع عشرات من الأشخاص فقط، لكن السعوديين المنتصرين فازوا بكل
أعتدة معسكر العدو جماله وأغنامه وأغذيته وأسلحته وعدة صناديق مليئة بالنقود
الذهبية(40).
كان انتصار عبد العزيز هاماً بخاصة
لأنه أحرزه ضد عدة كتائب من القوات التركية النظامية. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن
القوات التركية كانت تعاني من فرار أفرادها وأنها تقاتل في ظروف غير معروفة لها
وغير ملائمة إطلاقاً، في معمعان قيظ فضيع.
إلا أن دحر الأتراك بدأ لعبد العزيز
انتصاراً خطراً جداً، فبعث إلى والي البصرة رسالة طلب فيها معونة مالية معتبراً
نفسه من أتباع الباب العالي(41) ومحاولاً أبعاد خطر حملة تركية جديدة. وبعد أن
استلمت السلطات العثمانية في وادي الرافدين تأكيدات عبد العزيز بولائه للسلطان
جهزت رغم ذلك قوات من السماوة إلى نجد بثلاثة آلاف شخص مع المدفعية بقيادة أحمد
فيضي باشا من الفيلق الذي يتواجد مقره في بغداد. وبالمناسبة فأن فيضي باشا كان
مهتماً بثرائه الشخصي أكثر من اهتمامه
بنجاح الحملة، فأشترى بثمن بخس دواب نقل لا تصلح لشيء ولم يتمكن من تأمين نقل
المقاتلين والذخيرة إلى أعماق الجزيرة في الوقت اللازم(42). وقد بدأت حملته في
كانون الثاني (يناير) 1905. وفي مدينة الزبير، شمالي الكويت، جرى لقاء بين والي
البصرة أحمد مخلص باشا وعبد الرحمن، والد عبد العزيز، ومبارك شيخ الكويت. واطلع
والي البصرة الوفد السعودي بأن الباب العالي عين عبد الرحمن قائم مقاماً وقرر بأن
القصيم يجب أن تكون منطقة محايدة عازلة بين آل الرشيد وآل سعود. وطلب الأتراك أن
يسمح لهم بإبقاء حامية في بريدة وأخرى في عنيزة لضمان حياد القصيم. ولجأ عبد
الرحمن إلى تكتيك التملص فوعد بطرح هذه الاقتراحات على بساط البحث أمام أهالي
نجد(43). إلا إن قوات فيضي باشا التركية كانت قد زحفت نحو أواسط نجد، وقد أسرع
لنجدتها من المدينة المنورة 750 شخصاً مع بطارية للمدفعية الميدانية بقيادة صدقي
باشا.
كان أبن متعب متألماً لازدياد تبعيته
للأتراك وسرعان ما أختلف مع أحمد فيضي باشا وترك حماته الأقوياء أكثر من
اللزوم(44).
وتضعضعت مواقع عبد العزيز بشدة نتيجة
لتصرف أمير بريدة صالح بن حسن آل مهنا. فقد حاول التخلص من آل الرشيد ومن
السعوديين معاً وفضل الخضوع والتبعية للإمبراطورية العثمانية. وفي نيسان (إبريل)
1905 دخل الأتراك بريدة، وبعد بضعة أيام احتلوا عنيزة. وأُقيمت في كلتا المدينتين
حاميتان تركيتان رفع عليهما العلم العثماني وتعالى نشيد "الحميدية" وصار
أسم السلطان العثماني يذكر في صلاة الجمعة(45).
وقسمت نجد إلى وحدات إدارية تبعاً
للممارسات التركية المعتادة. وصارت بريدة قضاء يحكمه صالح الحسن بن مهنا. وأصبحت
بريدة وعنيزة تابعتين إدارياً لولاية البصرة. واعتبر جنوب نجد قضاء أيضاَ، بينما
صار عبد العزيز بمثابة القائم مقام ومركزه في الرياض، وهو خاضع رسمياً للبصرة(46).
في تلك اللحظة كان أبن سعود يدرك أن
القوة ليست إلى جانبه، وخوفاً من الاستفزازات أمر فصائله بعدم القيام بأي أعمال
عدائية ضد الأتراك. وتقابل أمير الرياض ووالده مع فيضي باشا الذي كرر مطلب الإبقاء
على الحاميتين التركيتين في بريدة وعنيزة حتى يتم عقد الصلح بين آل الرشيد
والسعوديين مع اعتبار القصيم منطقة محايدة عازلة. إلا أن عبد العزيز وأباه تملصا
من قبول هذه الالتزامات(47).
كان اهتمام الأتراك آنذاك منصباً على
الأحداث في اليمن. فالقوات العثمانية عجزت عن إخماد حركة الإمام يحيى بن حميد
الدين في صنعاء. وقرر الأتراك إرسال أحمد فيضي باشا من نجد إلى اليمن. وسلم قيادة
القوات في القصيم إلى صدقي باشا. وفي نيسان (إبريل) 1905، على وجه التقريب، انتهت
المفاوضات بين عبد العزيز والأتراك بلا نتيجة(48).
لقد واجه الأتراك في نجد صعوبات
كبيرة بسبب قلة الأغذية وكثرة الأمراض وشيوع الفرار بين الجنود. ولم تتمكن
الحاميات العثمانية في القصيم من إحلال الاستقرار. وكانت الأفخاذ والبطون
الإقطاعية المحلية تعتقد بأنه تهيأ ت لها فرسه للانفصال عن آل الرشيد وعن
السعوديين، فحاولت إحراز مزيد من الاستقلال، وعمل بنشاط كبير بهذا الخصوص حاكم
بريدة صالح الحسن بن مهنا. واستأنف الشمريون غزواتهم على القصيم، وصار أهالي
القصيم يتعاطفون من جديد مع السعوديين، ووصلت المساعدة لابن سعود من جهة غير
متوقعة. فقد انضمت أليه مطير مع زعيمها البارز فيصل الدويش الذي تزعم حركة الأخوان
فيما بعد(49).
وفي 13 نيسان (إبريل) 1906، نشبت في
القصيم معركة بين السعوديين والشمريين شهدها المؤرخ الشمري ضاري بن فهيد بن
الرشيد. ففي الفجر هاجم السعوديون معسكر أبن متعب بعد أن قصفوه بالمدافع أولاً.
وأخذ حاكم حائل يتراكض بين محاربيه بغية إحلال النظام. وهرع إلى راية آل رشيد التي
وقعت في أيدي محاربين من العاض متوهماً أنهم من أفراده. فناداهم باللهجة الشمرية
فعرفوه وأردوه قتيلاً في الحال. وفر الشمريون مذعورين. تلك هي نهاية أبن متعب الذي
كان قائداً عسكرياً شجاعاً ولكنه كان زعيماً سياسياً غير موفق. وقد دشن مقتله فترة
من عدم الاستقرار في جبل شمر.
ونحى أمير الرياض حاكم بريدة صالح
الحسن من منصبه وزج به مع إخوانه في سجن في الرياض. وبعد فترة قُتل صالح أثناء محاولة
للهرب. وعُين لمنصب الأمير أبن عمه محمد العبد الله أبا الخيل(50).
وسرعان ما اتفق عبد العزيز مع أمير
حائل الجديد متعب على اقتسام أواسط الجزيرة. فقد سلمت إلى أمير حائل الأراضي
والقبائل الواقعة شمالي القصيم، بينما صارت لأبن سعود القصيم والأراضي الواقعة
جنوبيها(51).
إلا أن القوات التركية كانت ما تزال
موجودة في القصيم، علماً بأنها متعاطفة مع آل رشيد أكثر. ومنح الباب العالي متعب
معونة بمبلغ 200 ليرة تركية شهرياً بالإضافة إلى الأغذية، أما عبد العزيز فقد
استلم 90 ليرة تركية فقط شهرياً(52).
وفي تلك الفترة هبطت مطير ضد أمير
الرياض بعد أن حرضها عليه الأتراك. ودحر عبد العزيز هؤلاء البدو وتوجه نحو بريدة
التي يرابط فيها فصيل تركي(53).
في صيف 1905 عين سامي باشا الفاروقي
قائداً للقوات التركية في نجد بدلا من صدقي باشا. ولكنه لم يصل إلى القصيم على رأس
فصيل مشاة من 500 شخص إلا في تموز (يوليو) 1906. ويبدو أنه التقى بعبد العزيز في
آب (أغسطس) 1906 وحاولا الاتفاق. فتظاهر عبد العزيز بالغضب وانصرف بعد أن خاطب
سامي باشا بكلمات تعتبر من أفضع الإهانات في الجزيرة العربية: "لولا أنك ضيف
عندنا لما تركناك تتحرك من مكانك"(54).
وحل شهر رمضان فصادف ذلك شهر تشرين
الأمل (أكتوبر) 1906 وتأجلت العمليات الحربية. واقترح أبن سعود على سامي باشا أن
يختار أحد أمور ثلاثة فأما أن يقرب القوات التركية من الرياض، مما يجعلها تحت رحمة
أمير الرياض، وأما أن يخرج القوات والعتاد
من نجد وأما أن يستعد للمعركة(55).
كان الأتراك مرابطين في الجزيرة أكثر
من عامين ونصف وكانوا يعانون من الجوع، ويشعرون حتى بنقص التبغ. وتهرأت بزاتهم،
وكان العرب يشكلون قسماً كبيراً من الجنود، ولكنهم يكرهون أواسط الجزيرة العربية
لدرجة أنهم سموها بنت الشيطان. وكان جنود كثيرون يبيعون أسلحتهم واعتدتهم لأهالي
القصيم كي يطعموا أنفسهم. وانتشرت الأمراض وساد الفرار من الجيش. وفي هذه الظروف
لم يكن أمام سامي باشا مخرج غير الجلاء(56).
وفي أواخر تشرين الأول (أكتوبر)
1906، على وجه التقريب، ترك سامي باشا معسكره المعزز على مقربة من بريدة وتوجه إلى
المدينة المنورة.وفي تشرين الثاني (نوفمبر) بدأ بالجلاء أيضاً الأتراك الذين كانوا
قد وصلوا من العراق (وعددهم 800 شخص تقريباً مع مدافعهم). فقد بلغوا الكويت ونقلوا
منها إلى البصرة(57).
وتفيد تقديرات لوريمير أن حوالي
أربعة آلاف وخمسمائة جندي عثماني أُرسلوا إلى أواسط الجزيرة في 1904_1905. ولم يعد
إلى المدينة المنورة والعراق إلا ألف منهم. وفقد الأتراك 3,5 آلاف شخص بسبب الفرار
والأمراض والمعارك(58). وكانت تلك هزيمة ماحقة. ولم يتمكن الأتراك حتى من الإحتفاظ
بسيطرة صورية على القصيم059).
ترسخ
سلطة الرياض في جنوب نجد و القصيم (1906_1912).
في 29 كانون الأول (ديسمبر) 1906، قتل أمير حائل الجديد متعب الرشيد
(الذي حكم أقل من عام) مع ثلاثة من إخوانه على أيدي سلطان وسعود وفيصل أبناء حمود
الرشيد. ولم يتخلص من الموت إلا الصبي شقيق الأمير متعب الأصغر الذي أنقذه خاله من
آل سبهان وأرسله إلى المدينة المنورة التي كانت تحت السيطرة العثمانية. وصارت
المعونات التي يقدمها الباب العالي إلى آل الرشيد تصل إلى المدينة المنورة مباشرة،
وكان ذلك دليلاً على موقف الأتراك السلبي من مغتصبي السلطة في حائل(60).
أخذت إمارة آل الرشيد تزداد ضعفاً. وراح شيخ قبيلة الرولة نوري الشعلان
يدعي بإمارة الجوف بعد أن وسع ديرة قبيلته في أراضي جنوب سورية وشرقي الأردن
حالياً. واستفاد السعوديين من القلاقل في جبل شمر ليجتذبوا إلى القصيم قوافل
الحجاج القادمة من العراق وبلاد فارس. وأشتد الصراع بين حكام حائل، وحدثت تبدلات
سريعة بين الأشخاص الممسكين بزمام الأمور فيها. وحل محل سعود بن حمود سعود بن عبد
العزيز الرشيد الصغير السن الذي أعاده إلى حائل في عام 1909 أخواله من أسرة آل
سبهان القوية. وظل أبناء هذه الأسوة يمثلون السلطة الفعلية في الإمارة. وحتى سقوط
إمارة جبل شمر في عام 1921 أستلم زمام الحكم فيها حوالي عشرة من الأمراء أو
الأوصياء.
ولم تتمكن إمارة جبل شمر التي غدت ضعيفة من الاستفادة من التوقف المؤقت
في التوسع السعودي مع أن القصيم كانت مضطربة. وانفصل عن أمير الرياض فيصل الدويش
وسائر زعماء مطير إذ دخلوا في تحالف سري مع حاكم بريدة عبد الله أبا الخيل.
وفي نيسان _ أيار (إبريل_مايو) 1907 نشبت قرب مدينة المجمعة في سدير
معركة بين مطير وقوات أبن سعود المكونة بالأساس من قبيلة عتيبة. واندحرت مطير.
وأُصيب فيصل الدويش بجراح في هذه المعركة فطلب الصلح وأعرب عن خضوعه لأبن سعود.
كان كالسابق زعيماً لقبيلة قوية، وفي تلك الأزمان العصيبة كان أبن سعود بحاجة إلى
أصدقاء أحياء أكثر من حاجته إلى أعداء موتى، لذا تقبل تأكيداته بالولاء(61).
وفي آب _ أيلول (أغسطس _سبتمبر) 1907، ظهر سلطان بن حمود في القصيم حيث
أنضم أليه أهالي بريدة بزعامة أبي الخيل، وكذلك قسم من مطير. وعندما علم عبد
العزيز بغارة سلطان جمع قوات من قحطان وعتيبة وسبيع والسهول وانضمت أليه قوات من
العارض. وخلال المعارك اللاحقة في أيلول 1907، دحر عبد العزيز مطير وزعيمها فيصل
من جديد. ونشبت المعركة الحاسمة عند الطرفية على بعد بضع عشرات من الكيلومترات شمالي
عنيزة. وقاتل ضد عبد العزيز الشمريون وأهالي بريدة وكذلك مطير. وتعتبر معركة
الطرفية من معارك عبد العزيز الحاسمة ضد أعدائه. ويعتبرها المؤرخون السعوديين
انتصاراً. إلا إن أمير الرياض لم يتمكن من الاستيلاء على بريدة واكتفى بنهب
أطرافها. وبعد واقعة الطرفية أنسحب الشمريون إلى حائل، كما تراجع فيصل الدويش، إلى
البادية(62).
كانت الكتلة الموالية للسعوديين في بريدة تتقوى. وعندما أقترب أبن سعود
مع قواته من المدينة في أيار (مايو) 1908 فتح له أنصاره بوابتها. والتجأ أبا الخيل
والمحاربون المخلصون له إلى الحصن. ولكنهم طلبوا الصلح بعد أن أدركوا بأن لا أمل
لهم في فك الحصار. وأرتحل أبا الخيل إلى الكويت ومنها إلى العراق. وعين أحمد بن
محمد السديري أميراً لبريدة. وهو يمثل فخذاً مرتبطاً بالسعوديين من زمان.
وفي تلك الأثناء قتل سلطان بن حمود
في حائل في كانون الثاني (يناير) 1908. وتزعم الإمارة سعود بن حمود(63).
وفي تشرين الأول _تشرين الثاني
(أكتوبر_نوفمبر) 1908 جرت في الحجاز أحداث هامة. فقد اضطرت الحكومة العثمانية إلى
استبدال شريف مكة علي بن عبد الله بالشريف الحسين بن علي. وكان الحسين قد عاد إلى
مكة وهو يداري رغبة خفية في أن يكون ملكاً للعرب أو أن يغدو، على أي حال، عاملاً
جدياً في سياسة الجزيرة العربية.
وفي عام 1908 بدأ جفاف مرعب في أواسط
نجد أستمر عدة سنوات كما يقول فيلبي(64). ويتعارض قوله هذا مع ما كتبه بعض
المؤرخين العرب. وعلى أي حال، ربما كانت الأمطار تهطل في مناطق أخرى، أما الجفاف
فقد أصاب أواسط نجد بالذات(65). وتجدر الإشارة إلى أن الكثيرين من سكان أواسط
الجزيرة كانوا يعتقدون بأن الجفاف في أراضي عبد العزيز كان إشارة مباشرة إلى الغضب
الإلهي عليه. وكتب موسيل إن الكارثة الطبيعية ساعدت على التشوش العام في إمارة
الرياض. إلا أن أمطاراً غزيرة سقطت في جبل شمر فتركت بعض القبائل عبد العزيز ونزحت
إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة إمارة حائل(66).
كان تدهور الزراعة وازدياد المجاعة
وخراب البدو كل ذلك شدد من عدم الاستقرار عموماً وضعضع سلطة عبد العزيز التي لم
تكن قد توطدت بعد. وكان من دلائل عدم الاستقرار في الإمارة التمرد الذي حدث ضد أبن
سعود في منطقة الحريق حيث قتل الأمير الهزاني على يد منافسيه من العائلة نفسها.
وحدث ذلك، على ما يبدو، في شباط _ نيسان (فبراير _إبريل) 1909، واجتاحت القلاقل
المنطقة كلها، وتمكن عبد العزيز من إعادة النظام بشق الأنفس.
ولم تصبح منزلة أمير الرياض في
ممتلكاته نفسها راسخة تماماً. فقد أفاده عدم وجود خصوم أقوياء، إلا إن الاتجاهات
اللامركزية والنزاعات القبلية الإقطاعية كانت تضعضع السلطة المركزية أحياناً.
وفي الوقت الذي كان فيه أمير الرياض
مشغولاً بالشؤون الداخلية أخذ يهدده من الغرب الحسين شريف مكة الهمام. حرضته
الحكومة العثمانية دوماً على العمل ضد نجد.
ولم ينس عبد العزيز إنه محاط من
الغرب والشمال والشرق بممتلكات عثمانية أو بأتباع للأتراك معادين له، وكانت غزواته
الجسورة البعيدة تدل على إمكانية بعث الدولة الوهابية في حدودها الشاسعة السابقة،
الأمر الذي كان يثير قلق الأتراك وحكام الجزيرة المعتمدين على بريطانيا وعلى
الإمبراطورية العثمانية سواء بسواء.
وفي عام 1910، استمرت العمليات
الحربية على نطاق غير كبير ضد أبناء عم عبد العزيز الثلاثة الذين سماهم
"بالعريف". ولم تسفر تلك العمليات عن نتائج جدية، ولكنها كانت من عناصر
عدم الاستقرار الداخلي الناجم عن تباطؤ توسع أمارة الرياض وعن الجفاف الفظيع.
وفي آذار _ نيسان (مارس_إبريل) 1910،
لبى عبد العزيز دعوة شيخ الكويت لمحاربة المنتفق وقائدهم سعدون باشا الذين كانوا
آنذاك متحالفين مع الشمريين ضد الكويتيين. وفي حزيران (يونيو) 1910، دحر سعدون
باشا القوات السعودية الكويتية الموحدة فاستولت المنتفق على غنائم كبيرة.
كانت العلاقات المتبادلة بين جبل شمر
والسلطات العثمانية في الحجاز تتطور بصورة مضطربة. وفي حزيران 1910، طرد زامل آل
سبهان الفصيل التركي من واحة تيماء. إلا إن نوري بن شعلان استولى على الجوف في عام
1909 وأحتفظ بها لبعض الوقت وضغط بذلك على جبل شمر من الشمال والشمال الشرقي.
ويبدو أن نوري بن شعلان وعبد العزيز قد أقام تعاوناً متيناً جداً ضد العدو
المشترك.
وحول الشريف حسين خلال عامين من حكمه
أن يثبت ولاءه للباب العالي فقام بحملة على عسير، في حين كان الأتراك مشغولين
بإخماد انتفاضة الإمام يحيى في اليمن. واستولى على إقليم عسير لأجل الأتراك وعاد
إلى مكة عبر واحات بيشة ورانية وتربة الواقعة على حدود نجد وفرض سيطرته عليها.
وفي أواخر صيف 1910، جمع الشريف
متطوعة من البدو ودخل نجد. وفي الطريق تمكن بالصدفة أن يأخذ سعد شقيق عبد العزيز
أسيراً. ولم يكن الحسين يتوقع حرباً كبيرة، ولم تكن قواته كافية. وصار المدعو خالد
بن لؤي وسيطاً بين أمير الرياض وشريف مكة، وتعين عليه فيما بعد أن يلعب دوراً
هاماً في استيلاء النجديين على الحجاز. وبعد المفاوضات وعد عبد العزيز بأن يدفع
للسلطان العثماني ستة آلاف ريال سنوياً ويؤكد سيادة الأتراك رسمياً على نجد. وبعد
ذلك أطلق سراح سعد وعاد الحسين إلى مكة.
وبعد عقد الصلح مع شريف مكة توجه عبد
العزيز إلى الحريق من جديد لإخماد التمرد الذي تزعمه هذه المرة أحد
"العرايف". وقد أعدم جميع أفراد آل هزان الذين شاركوا في العصيان. إلا
أن عبد العزيز عفا عن مدبر التمرد وهو قريبه سعود بن عبد الله بن سعود. وظل هذا
يخدمه بإخلاص مدى الحياة. وفر باقي "العرايف" إلى الحجاز حيث منحهم
الشريف حق اللجوء.
في بداية عام 1911، طلب منه شيخ
الكويت مبارك أن يوجه ضربة إلى عدوهم المشترك _ قبيلة الظفير. ولكنه في الوقت نفسه
أخبر شيخ هذه القبيلة أبن سويط باقتراب قوات عبد العزيز وحرم غزوته من عنصر
المباغتة. إلا أن شيخ الظفير هرب بعد أن اخبر أبن سعود بأن مبارك يلعب على
الحبلين. كان حاكم الكويت يفرق بين قضيتين هما مساعدة آل سعود الضعفاء ضد أمارة
جبل شمر القوية وبعث أمارة الرياض التي تحولت بسرعة إلى القوة الرئيسية في أواسط
الجزيرة. ورغم التنافس الشديد ظل مبارك يخاطب أبن سعود كالسابق "يا
ولدي". وكان عبد العزيز يجيبه "يا والدي".
وفي عام 1910، زار المعتمد السياسي
البريطاني الكابتن شكسبير عبد العزيز. وأفاد بأن أمير حائل والأمام يحيى وحاكم
عسير تكاتبوا من أجل تدبير تمرد على الأتراك. كان عبد العزيز يريد طرد الأتراك من
الأحساء وكان ينشد معونة الإنجليز في ذلك. وفي عام 1911، كانت الحكومة العثمانية
ما تزال تسمي حاكم حائل "بأمير نجد". بينما كان الإنجليز يخاطبون عبد
العزيز في مكاتباتهم "بالشيخ عبد العزيز أبن الشيخ عبد الرحمن آل سعود".
كان الإقليم الشرقي يجلب دوماً
انتباه حكام الرياض. ولم يكن الأمر يقتصر على اعتبارهم له ضيعة شرعية لهم. فأن
واحات الأحساء الغنية والمداخيل الجمركية كان بوسعها أن تعزز الحالة المالية
للسعوديين. وكان أمير الرياض بحاجة إلى منفذ على البحر. وكان الوضع في الأحساء
ملائماً للخطط عبد العزيز، لأن السكان المحليين يكرهون الأتراك. إلا أن أبن سعود
كان يدرك من خبرة الحياة في الكويت أن الإنجليز هم القوة الرئيسية في الخليج.
زار أبن سعود الكويت في عام 1911
وأجرى مباحثات ودية مع المعتمد البريطاني واتفق معه على التعاون. وتخلى حاكم
الرياض عن كل الادعاءات في مسقط وعمان، وتقرر أن يسيطر على الأحساء والقطيف وجزيرة
دارين ومرفأ العقير وأن يحول الإنجليز دون تدخل أي دولة من جهة البحر. ومقابل ذلك
كان يتعين على أبن سعود أن يعترف بالحماية البريطانية على إمارته وأن لا يدخل في
حرب بدون موافقة الحكومة البريطانية. ولم توقع هذه الاتفاقية رسمياً، ولكنها كانت
تستجيب لطابع المباحثات السابقة ولنهج بريطانيا في عدم إعاقة عبد العزيز عن
الاستيلاء على الأحساء، وللأحكام العامة في معاهدة 1915 المرتقبة. كانت بريطانيا
في تلك الفترة تعتبر أمارة الرياض محمية فعلية أو محمية محتملة في إطار مجال
نفوذها في حوض الخليج.
وفي عام 1911، بدأت في عسير انتفاضة
ضد الأتراك تزعمها محمد بن على الادريسي. وأرسل أليه عبد العزيز مساعدة عسكرية
معينة. وأدت مشاعر أهل عسير الدينية القديمة وتعاطفهم مع الوهابيين إلى تقوية
التحالف بينهما.
وفي مطلع عام 1912، حاول الباب
العالي، وهو منهمك بالحرب في أوروبا، أن يحصل على تأييد من أقاليمه البعيدة في
الجزيرة العربية أو التأكد من وقوفها على الحياد. وبعث إلى عبد العزيز وفداً أثار
مسألة إرسال قوات نجدية لدعم الحامية التركية في الأحساء. وأدرك أبن سعود أن
الأحساء ستقع في القريب العاجل بيده كثمرة ناضجة.
وعندما منيب الحكومة العثمانية
بهزيمة في البلقان حاولت بإصرار أن تجعل من عبد العزيز حليفاً لها في الجزيرة.
ووصل وفد تركي إلى الرياض كي يستشيره ويستمع إلى آرائه وشكاواه. ورد عبد العزيز
على والي البصرة سليمان شفيق باشا بهذا الخصوص قائلاً: "إنكم لم تحسنوا إلى العرب،
ولا عاملتموهم في الأقل بالعدل. وأنا أعلم أن استشارتكم إياي هي وسيلة استطلاع،
لتعلموا ما انطوت عليه مقاصدي. وهاكم رأيي،ولكم أن تؤولوه كما تشاءون: إنكم
المسئولون عما في العرب من شقاق. فقد اكتفيتم بأن تحكموا وما تمكنتم حتى من ذلك.
وقد فاتكم أن الرأي مسؤول عن رعيته. وفاتكم إن صاحب السيادة لا يستقيم أمره إلا
بالعدل والإحسان. وفاتكم أن العرب لا ينامون على ضيم ولا يبالون إذا خسروا كل ما
لديهم وسلمت كرامتهم". وفي الوقت نفسه اقترح عبد العزيز عقد مؤتمر للزعماء
العرب في مدينة محايدة لتتهيأ لهم إمكانية الأعراب عن آرائهم. واقترح بأن يعيد
الأتراك النظر في مواقفهم من العرب لأجل إيجاد شكل أكثر ملاءمة للحكم مشاركة
العرب.واقترح أمير الرياض بأن توجد في إطار الإمبراطورية العثمانية عدة دول عربية
أو دولة عربية موحدة بزعامة أحد الحكام أو وحدات سياسية منفردة بزعامة حكام محليين
يعملون بشكل ولاة عثمانيين يتمتعون بالحكم الذاتي. وكانت اقتراحات أمير الرياض
متعارضة جداً مع سياسة زعماء تركيا الفتاة التي حال ضعفها العسكري والسياسي دون
الرد بحملة حربية على مقترحات عبد العزيز الجسورة.
وفي أواخر ربيع وأوائل الصيف، قام
الحسين، شريف مكة، بحملة أخرى على نجد بعد أن جمع المطوعين من بدو عتيبة، بينما
هجم محمد شقيق أمام الرياض على بدو عتيبة الخاضعين للحسين. وتوترت العلاقات بين
الحاكمين إلى أقصى حد. ومنع الشريف النجديين من أداء حج عام 1912 . وألب مخبرو
الحسين سكان القصيم على الرياض، حتى أن حاكم القصيم أبن جلوي أُعدم عدداً من
أهاليه. وتلقى عبد العزيز حقاً ضربة شديدة، إلا أن كراهية النجديين اتجهت بالدرجة
الأولى ضد شريف مكة. وهكذا نشأ أساس النزاع الذي سينتهي فيما بعد باستيلاء
النجديين على الحجاز.
نشوء
حركة الأخوان. لم يكن لدى عبد العزيز سند متين وواسع بالقدر الكافي في أواسط الجزيرة
رغم نجاحاته الأولى. فلم يكن يتمتع بدعم الدعوة الدينية السياسية التي رصت صفوف
السكان وجعلتهم يلتفون حول آل سعود في عهد أجداده. كان آل سعود مرتبطين بفكرة
دينية باركت النضال من أجل المركزية لصالح الأمير والوجهاء الحاكمين وباركت
الغزوات تحت راية "الإسلام الحقيقي".
وفي تلك الأثناء ظهرت في نجد حركة الأخوان. ومن المستبعد أن يكون عبد
العزيز من واضعي فكرة الأخوان أو من مؤسسي هذه الحركة. فإن المؤسسين الروحيين
للحركة هم قاضي الرياض عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف من آل الشيخ وقاضي الأحساء
الشيخ عيسى والمدعو عبد الكريم المغربي الذي وصل إلى الجزيرة العربية في أواخر
القرن التاسع عشر واستقر في منطقة صارت فيما بعد هجرة الأرطاوية.
وبالإضافة إلى الالتزام الصارم بالفرائض الأساسية الخمس في الإسلام كان
الأخوان مطالبين بالإخلاص "لإخوانهم" في الدعوة وبالخضوع للإمام ومساعدة
بعضهم بعضاً بكل الوسائل، وعدم التعامل مع الأوروبيين ومع سكان البلدان التي
يديرها الأوروبيون.
ولا أحد يعرف التاريخ الدقيق لنشوء بلدة الأرطاوية الأولى، إلا أنها
ظهرت، على ما يبدو، في النصف الأول من عام 1913. وفي الأول من آذار (مارس) 1929
كتبت جريدة "أم القرى" لسان حال السعوديين التي تأسست بعد ضم الحجاز. أن
كانون الثاني (يناير) 1913 هو تاريخ نشوء أول هجرة.
نشأت أولى "هجر" الإخوان حول مجموعة الآبار في الوادي ذي
المراعي الجيدة والأشجار الكثيرة. ويقع هذا الوادي على طريق القوافل من الكويت إلى
القصيم في منطقة دير مطير التي هي من أقوى قبائل أواسط الجزيرة وأكثرها اعتزازاً
بنفسها.
وباع قسم من مطير طوعا بعض أبلهم ومعدات الخيام الضرورية لنمط الحياة
البدوي. واستقروا في منطقة الأرطاوية وأخذوا يبنون المنازل بعد أن عزموا على
ممارسة الزراعة وحدها ودراسة التوحيد. وانضم إلى مطير العريمات وهم فخذ من حرب
قاموا بقسم كبير من البناء في الهجر لأنهم يمتلكون المهارات اللازمة في الصنائع
والبناء والزراعة خلافاً لسائر البدو.
وتحول التعاضد القبلي التقليدي إلى تعاضد بين الأخوان. فإذا فقد أحد
أملاكه بسبب غزوة أو بسبب هلاك الماشية فأن الأخوان يجمعون له التبرعات.
ونشأت هجر كثيرة على أثر الأرطاوية. فقد أنشأت عتيبة هجرة في
"الغطغط" وقد دمرت فيما بعد. وفي عام 1918 ظهر عدد كبير من هذه الهجر في
أرجاء نجد كافة. ولئن كان عدد هجر الأخوان 52 هجرة في الجزيرة كلها في عام 1920،
فقد ازداد في عام 1923 إلى 72، وفي 1929 بلغ 120 هجرة تقريباً. وكتبت "أم
القرى" في عام 1929 أن عنزة أسست 7 هجر وشمر 16 وحرب 22 ومطير 12 وعتيبة 15
وسبيع 3 والسهول 3 وقحطان 8 والدواسر 4 وبنو خالد 2 والعجمان 14 والعوازم 2 وبنو
هاجر 4 وآل مرة 4 وهتيم 3 والظفير 1. ولكنه حتى في أوج حركة الأخوان لم يستقر في
الهجر إلا عشر أو، في أفضل الأحوال، خمس البدو الرحل.
وكان الجفاف ومصاعب الحياة البدوية، أي الضرورة الاقتصادية، من الدوافع
التي جعلت البدو يستقرون ويتحولون إلى حضر. وكان نزوحهم إلى الشمال محدوداَ بسبب
عدم رغبتهم في الاعتماد على أهواء الأتراك ومن بعدهم الإنجليز.
وقد شجع أبن سعود عملية استقرار البدو وساعد الأخوان بالنقود والحبوب
والأدوات الزراعية ومواد بناء المساجد والمدارس والهجر، كما بعث المطاوعة
لتعليمهم. وبالإضافة إلى ذلك زود المحاربين بالسلاح والذخيرة للدفاع عن الدين.
وكان أمراء حجر يستلمون من عبد العزيز معونة نقدية ويتمتعون بحسن
ضيافته. وكانت أسماء الأمراء تسجل في سجلات خاصة، وكان مقدار المعونة يحدد تبعاً
لخدماتهم وعدد أتباعهم. وكان الأخوان المحاربون يتلقون مكافأة سنوية بعد تسجل
أسماؤهم في سجلات ديوان أبن سعود.
إن الشرط الرسمي للانتماء إلى الهجرة هو التخلي عن عادات والتزامات نمط
الحياة العشائري. إلا أن هذا الشرط لم يكن يطبق عملياً، فصار الإسكان في الهجر
يجري في الغالب على أساس قبلي. وصارت هجر الأخوان في الواقع مقرات لشيوخ أكبر
القبائل. وأخفقت محاولة أبن سعود لحرمان القائل من زعمائها التقليديين بواسطة فرق
الأخوان. وقد استقر زعيم عتيبة في الغطغط، وسكن زعيم حرب في دخنة وسكن أبن جبريل
وأبن ثنيان زعيماً شمر في الاجفر.
كان الحماس الديني لدى الأخوان يستهدف طاعة الله ويخدم بالطبع أولياءه
في الأرض. وكان من المنتظر الثواب على جهودهم الدينية والدنيوية، كما في السابق عن
طريق غنائم الحرب ولكن ليس بشكل غزو بعض القبائل لبعضها الأخر أو النهب في
الطرقات، بل في الجهاد ضد المشركين. واقترنت الضرورة الاقتصادية والاجتماعية
لاستقرار البدو والانتقال إلى الزراعة بالتفاني الديني والحاجات العسكرية، إلا أن
هذه المهمات يمكن أن تتعارض، ولذا دمرت بعض القرى _ "الهجر". بديهي أن
من المستبعد توقع تخلص البدو بسرعة من عاداتهم البدوية السابقة وتحولهم إلى زراع
جيدين. ففي غالب الأحيان لم يكن الحماس الديني يكفيهم لأمد طويل من العمل في
الحقول، لذا كانوا يرغبون في القتال من أجل التوحيد أكثر مما يرغبون في الزراعة.
وظلت باقية في قرى الهجر بعض الفوارق الطائفية بين القبائل
"الرفيعة" التي تقدم المزارعين المقاتلين وبين القبائل
"الوضيعة" التي كان يتعين عليها ممارسة الصنائع والبناء وتأمين مستلزمات
القرى الجديدة. وبالفعل فأن العريمات التي استقرت مع مطير في الأرطاوية هي فخذ
"وضيع" من قبيلة حرب التي تعتبر من أنبل القبائل في الجزيرة العربية.
وغالباً ما كان الصُناع و الباعة من الأشخاص الذين لا تشغلهم الأعمال
الحربية، وكان يتعين عليهم أن يصنعوا حدوات الجياد والسلاح والأدوات الزراعية
ويصلحوها. وعندما تبدأ الحرب كانوا يبقون في القرى.
أما المطاوعة فكانوا يمثلون الفئة الأوطأ من علماء الدين والفقهاء
الذين يجري أعدادهم في الرياض ومراكز أخرى. وكان هؤلاء المطاوعة في الواقع يؤدون
في القرى دور دعاة ومخبري السلطة المركزية المتمثلة في علماء الرياض والأمير
شخصياً . وفي أكبر الهجر كان عبد العزيز يعين قضاة من آل الشيخ عادة.
وكان سكان الهجر الملزمون بالخدمة العسكرية يقسمون إلى ثلاث فئات تضم
الأولى الأشخاص الذين في حالة تأهب واستعداد دائم للقتال والذين يلبون نداء الجهاد
حالاً. وتضم الفئة الثانية الاحتياطية. أما الفئة الثالثة فتتكون من الذين يظلون
في القرى عندما تنشب الحرب، ولكن يمكن بقرار من العلماء أن يجندوا في جيش الأمير
في الحالات الاستثنائية. وكان سكان الهجر يؤدون الخدمة العسكرية مع إبلهم وسلاحهم
وأغذيتهم. وكانت بعض الهجر فقط، وهي الواقعة في أواسط نجد تستلم معونة من بيت
المال للأغراض الحربية عندما تقدم عساكرها.
كان البدو الذين استوطنوا
الهجر يعتقدون بأنهم انتقلوا من الجاهلية واعتنقوا الإسلام الحقيقي. وكانوا
ينهمكون في نشر معتقداتهم بحماس كبير، حتى إنهم كانوا يضربون البدو والحضر الذين
لا ينضمون إليهم و يعتبرونهم من الكفرة. ولأن البدو كانوا في السابق بالفعل لا
يعرفون من الإسلام إلا القليل، فإن هذا الانتقال وكذلك استبدال العرف القبلي
بالشريعة، قد اتسما بطابع مأساوي لدرجة ما. فقد أشار موسيل، مثلا، إلى اشتداد
المشاعر الدينية بين الرولة الذين شاركوا في فرق الإخوان. وعلى أي حال فأن
الكثيرين من البدو صاروا يحفظون عن ظهر قلب سورة أو سورتين من القرآن.
من المعروف إن المتدينين الجدد أكثر حزماً وتعصباً في أداء الفرائض
الدينية من المتدينين القدامى. ولذلك فإن البدو الذين لم يعرفوا الإسلام سابقاً أو
الذين يعرفون عنه القليل جداً صاروا يؤدون فرائضه كالصلات الخمس بحماس شديد وأخذوا
يضربون بالعصي من يتنصل عن أدائها. ولكي يميز الإخوان أنفسهم عن سائر المسلمين
الذين اعتبروهم "مشركين" صاروا يرتدون عمامة بيضاء بدلاً من الكوفية
العادية، كما أخذوا يحلقون شواربهم ويقصرون لحاهم، ويصبغونها بالحناء أحياناً.
وقصروا دشداشتهم حتى بالكاد صارت تغطي الركبتين. ومنع الإخوان الموسيقى أيا كانت،
ماعدا طبول الحرب، ولم يشربوا القهوة لأنها لم تكن معروفة في زمن النبي، وتحاشوا
التدخين كما يتحاشون السم. وكان تعاطي الكحول محرماً بالطبع، وكذلك الحرير والنقوش
الذهبية على الألبسة الرجالية. وصبت اللعنات على القمار وقراء الفال والألعاب
السحرية، ونشير هنا إلى الطبع التعادلي للكثير من محظورات الإخوان الدينية و
المعاشية، وكان ذلك شكلاً لاحتجاج بسطاء أبناء الشعب على "أبهة" الطبقات
الحاكمة (حسب مقاييس الجزيرة العربية).
وكان الإخوان يطلقون نعت "المشركين" على جميع اللذين لا
يؤيدونهم من أهالي المدن والواحات والبدو. وباسم تجديد الدين قامت فرق الإخوان
بقساوات كثيرة مع إن تعصبهم قوى القدرة الحربية لقوات أبن سعود. ويعتقد ديكسون أن
نظام الفروسية البدوي تضعضع في الفترة بين 1913و1930 بسبب حركة الإخوان.
وأكد مؤلفون كثيرون أن أبن سعود نفسه لم يكن متعصباً قط. وقد أنتفع من
حركة الأخوان واستخدمها متجاوزاً بمهارة مطالبها المتطرفة. وأبان الحرب العالمية
الأولى وافق أبن سعود على الحماية البريطانية واستلم معونات شهرية من الحكومة
البريطانية وأدعى بأن ذلك مجرد جزية كالتي كان المسيحيون يدفعونها للخلفاء الأوائل
ولكنه حتى في المرحلة الأولى من مراحل حركة الإخوان لم يكن أين سعود يثق بهم حتى
النهاية، وذلك بحكم مُنحدرهم البدوي وبحكم الإفراط في انتشار السمات التعادلية في
حركة الإخوان من وجهة نظر الإقطاعي الكبير. وفي حاشية أمير الرياض كان قريبه
ونصيره عبد الله بن جلوي من أشد معارضي الإخوان.
ضم
الأحساء. عندما علم عبد العزيز بهزيمة الأتراك في حرب البلقان أخذ يستعد لحملة
على الأحساء. وفي مطلع عام 1913، وصل إلى القصيم وأعلن التعبئة العامة.
وفي تلك الأثناء كان الإخوان من ضمن قواته، ولكنهم لا يشكلون
الأغلبية.وبعد أن جمع حضر نجد والبدو المنضمين إليه توجه إلى الأحساء. وقبل أن
يبدأ هذه الحملة تقابل مع الضابط الإنجليزي ليتشمان، ولعله أخبره بخطة الهجوم على
الأتراك.
كان سكان الأحساء الذين أرهقهم ابتزاز الأتراك وظلمهم ينظرون إلى
النجديين كمنقذين لهم. ومنذ عام 1903، كتب قنصل روسيا في البصرة أن المتصرف
العثماني في الأحساء "جعل سكان هذا السنجق العرب في حالة إرهاق بالغ بسبب
تعنته وطيشه".
وكتبت القنصلية الروسية في البصرة "أن سلطة الأتراك على الأحساء
كانت وهمية. وقد انتهت تقريباً خارج حدود المدن..
وفي بداية أيار (مايو) جمع أبن سعود حوالي 8 آلاف من الأعراب المسلحين
جيدا ًوأقتحم الأحساء بغتة وقام بهجوم على الهفوف. ولم يجد صعوبة كبيرة في احتلال
المدينة".
بدأ الهجوم على المدينة في الليل بواسطة جذوع النخيل والحبال والسلالم
المجهزة مسبقاً. وسرعان ما سقطت المدينة وكذلك حصن الكوت، ما عدا مسجد إبراهيم
باشا في داخل الحصن. والتجأ المتصرف وقسم من حاميته إلى المسجد. وكان مجموع
الأتراك في الهفوف آنذاك 1200 شخص.
وقرر المتصرف أن يضع السلاح. وتم إخلاء الحامية تحت حراسة مفرزة قادها
أحمد بن ثنيان، وهو من أقرباء عبد العزيز الابعدين. ثم استولى النجديون على
القطيف. و صار الإقليم الشرقي تحت سلطة أبن سعود. وكتبت القنصلية الروسية في
البصرة " من المحتمل تماماً أن يكون ذلك كله قد حدث ليس بدون علم الإنجليز، وربما ليس بدون
نصائحهم، فأن دسائسهم بين الشيوخ العرب معروفة جيداً".
ولم يضيع حاكم الرياض الوقت فأخذ "يروض" الشيعة المعادين
تقليدياً للسعوديين. وعين عبد العزيز عبد الله بن جلوي حاكماً للاحساء، وأخذ هذا
ينكل بنشطاء الشيعة دون رحمة وخصوصاً في القطيف.
كانت عائدات الإقليم في عهد الإدارة العثمانية تعادل 37 ألف ليرة
سنوياً، بينما بلغت نفقات الحاميات والإدارة 52 ألفاً. إلا إن عائدات الأحساء، كما
يعتقد القنصل الروسي في البصرة، يمكن زيادتها، وهذا ما عزم عليه عبد العزيز. فقد
طرد التجار الأجانب من الأحساء و القطيف وفرض ضريبة بنسبة 8% على كل الواردات التي
تصل إلى الإقليم الشرقي من جهة البحر وأجتث عبد الله بن جلوي بيد من حديد النهب
على طرق القوافل فاستطاع التجار أن يتجولوا في الإقليم بأمان نسبياً.
لقد انتزعت إمارة الرياض من الإمبراطورية العثمانية إقليماً غنياً
نسبياً من أقاليم الجزيرة العربية وحصلت على منفذ إلى الخليج من الكويت حتى قطر.
إن أهمية الأحساء بالنسبة لإمارة الرياض تفوق التقدير. فالأراضي التي كان
السعوديون يسيطرون عليها حتى ذلك الحين كانت خالية من أي موارد طبيعية. وكان محصول
التمور في حدودها بالكاد يكفي لسد حاجة الحضر والبدو. ولم تكن الحبوب كافية، وكانت
الإمارة بحاجة إلى استيرادها. وكان السكان الحضر يعتمدون كلياً على استيراد
الأقمشة. وكانت القوات بحاجة إلى مشتريات السلاح من الخارج. وقد أمن الاستيلاء على
إقليم الأحساء والحصول على منفذ إلى الخليج قوة حيوية للدولة السعودية واستمرار
تطورها.
ولم تقف بريطانيا التي تؤمل في تحويل الدولة السعودية إلى محمية لها في
آخر المطاف حجر عثرة أمام طرد الحامية التركية من الأحساء. وقد قام المندوب
البريطاني في البحرين بزيارة مجاملة لعبد العزيز في مرفأ العقير بعد سقوط الأحساء.
وفي أواخر عام 1913، زار الرياض المعتمد السياسي البريطاني في الكويت الكابتن
شكسبير الذي كان قد تقابل مع أبن سعود سابقاً. وقد ناقش مع أمير الرياض هذه المرة
الوضع العام فقط لأنه لم يكن يتمتع بصلاحيات أخرى.
بيد أن بريطانيا كانت تلعب على الحبلين. ففي حزيران (يونيو) 1913، وقعت
بين السفير العثماني إبراهيم حقي باشا ووزير الخارجية البريطاني أدورد غراي
اتفاقية رسم الحدود بين ممتلكات الإمبراطورية العثمانية والمحميات البريطانية على
الساحل العربي من الخليج _ الكويت والبحرين وإمارات ساحل الصلح البحري. وكانت كل
هذه الأراضي مرتبطة على نحو ما بالأحساء التي لم يرد لها ذكر في الاتفاقية. وهذا
يفترض رسمياً إنها كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية.
وفي آذار (مارس)1914، وافقت بريطانيا والإمبراطورية العثمانية على
اقتسام شبه الجزيرة العربية. ونصت شروط المعاهدة على أن تعتمد الحدود بين ممتلكات
كلتا الدولتين بشكل خط مستقيم من شبه جزيرة قطر عبر بوادي أواسط الجزيرة العربية
حتى الحدود بين محمية عدن واليمن. وكان كل ما يقع شمالي هذا الخط ملكاً
للعثمانيين، بما في ذلك نجد فضلاً عن الأحساء، وكل ما يقع جنوبه يعتبر من الأراضي
البريطانية. وبالمناسبة فقد فقدت هذه المعاهدة قيمتها باندلاع الحرب العالمية
الأولى.
وبعد سقوط الأحساء جرت مباحثات بين عبد العزيز وممثلي السلطات
العثمانية. ولم تكن لدى الباب العالي القوى والنقود اللازمة لاستعادة الإقليم
المفقود. وكان كل ما يريده الأتراك هو "الحفاظ على ماء الوجه". وكتبت
القنصلية الروسية في البصرة في 27 أيار (مايو) 1914، "إن إرسال فيلق عمليات إلى الأحساء في
الوقت الحاضر غير ممكن إطلاقاً بالنسبة للأتراك، فليس لديهم العدد الكافي من
الجنود لا في بغداد ولا في الصرة. زد على ذلك إن الحكومة البريطانية التي تتابع
ببالغ الاهتمام كل ما يجري في الأحساء ستحاول… إعاقة الأتراك عن ترسيخ أقدامهم من
جديد على سواحل الخليج"
وقد وافق أمير الرياض شفوياً، كما يقول فيليبي، على الاعتراف بسيادة
السلطان العثماني على أراضيه مقابل الأسلحة والنقود التركية.
ويؤكد الباحث الأمريكي ترولير بصورة قاطعة إنه تم توقيع معاهدة عثمانية
سعودية رسمية في 15 أيار (مايو) 1914 نصت، فيما نصت، على " إن ولاية نجد يجب
أن تبقى تحت حكم عبد العزيز باشا آل سعود طول حياته بموجب فرمان سلطاني. وبعد
وفاته ينتقل الحكم إلى أبنائه وأحفاده بفرمان سلطاني بشرط أن يبقى الأمير موالياً
للحكومة العثمانية ولأجداده". ونصت المادة 7على أن يرفع العلم التركي فوق كل
دوائر الدولة وكذلك فوق السفن العائدة لولاية نجد. وجاء في المادة 9 "إن
الوالي (الحاكم أو القائد) المذكور لا يحق
له التدخل في الشؤون الخارجية ولا عقد المعاهدات الدولية ولا منح الامتيازات
للأجانب". ونصت المادة 12 على إن حاكم نجد يجب أن يحارب إلى جانب
الإمبراطورية العثمانية.
ويعتقد فيليبي إن عبد العزيز صار، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، في
حل من "التعهد الشفوي" للأتراك. وعلى أي حال فأن سلوك أمير نجد منذ
بداية العمليات الحربية كشف عن عدم تقديره لتعهداته أمام السلطان العثماني وعن قلة
المرتكزات التي كان بوسع الأتراك استخدامها لحمله على العمل في صالحهم. وأكدت
مذكرة حكومة العربية السعودية إنه لا توجد في الارشيفات السعودية أي وثيقة تشير
إلى توقيع الاتفاقية السعودية التركية. إن عدم وجود مثل هذه الوثيقة في الارشيفات
السعودية، إن لم تكن موجودة فعلاً، فلا يدل على شيء. فبدلاً من الاتفاقية
التحريرية يمكن أن يوجد اتفاق شفوي ينفذه الطرفان إذا كان في صالحهما. وعلى أي حال
فقد قدم ترولير النص الكامل للمعاهدة التركية النجدية مع إن توقيع عبد العزيز غير
موجود عليه بالفعل.
وكان المسئولون في الأستانة يدركون بأنهم فقدوا السيطرة الفعلية على
نجد والأحساء رغم المعاهدة مع بريطانيا بشأن اقتسام الجزيرة العربية ورغم تعهدات
أبن سعود الشفوية بولائه للسلطان. ولذلك أخذت السلطات العثمانية تعمل على تقوية
جبل شمر، حيث وعدوها، مثلاً، بتقديم 10 آلاف بندقية وأغذية ونقود. واقتنع عبد
العزيز مرة أخرى بأن الأستانة تعول على حائل وإن الخطر التركي المحتمل على إمارة
الرياض ما يزال قائماً.
1 comment:
شركة مكافحة حشرات بمكة
تعلن شركة صقر البشاير عن وجود افضل انواع المبيدات الحشرية التي تبيد الحشرات المزعجة, فنحن شركة مكافحة حشرات بمكة والطائف نستخدم افضل انواع المبيدات الحشرية التي لا تؤثر سلباً على صحة الانسان
اتصل بنا على 0500941566
مكافحة حشرات بمكة
شركة مكافحة حشرات بالطائف
http://www.elbshayr.com/3/Pest-control
التسويق الالكتروني اشهار المواقع لشركة ميكسيوجي
Post a Comment